لقد بدأت فكرة المعجم عند العرب بعد نزول القران الكريم، ودخول غير العرب في الإسلام واستعصاء بعض مفردات القرآن على الكثير منهم، مما استدعى شرح غريب القرآن والحديث ولغة العرب عموما. وقد ظهرت المعاجم العربية بمعناها العام والشامل لمفردات اللغة العربية في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، أي أنها الكتاب الذي يحتوي على ألفاظ مرتبة، وفق نظام معين، يتولى شرحها بهدف رفع الالتباس عنها. وقد تناول أمجد الطرابلسي في كتابه "نظرية تاريخية في حركة التأليف اللغوي عند العرب" مجموعة من المعاجم سواء معاجم الألفاظ أو المعاني، متناولا إياها بالشرح والتوضيح والنقد؛ مبينا بعض ايجابياتها وفي المقابل ذاكرا بعض الفجوات فيها. لقد اتبع امجد الطرابلسي في عرض كتابه "نظرية تاريخية في حركة التأليف عند العرب" على خطوات ثابتة علمية منظمة وسهلة ؛ إذ يلاحظ أنه استهل كتابه بمقدمة عرض فيها محاور كتابه وهذا ما سهل علينا كقراء فهم واستيعاب كتابه ومضمونه، كما قسم لنا الكتاب إلى أبواب؛ فالباب الأول هو باب معاجم الألفاظ والباب الثاني هو باب معاجم المعاني. ففي الأول تناول تعريف معاجم الألفاظ فهي تفيدنا في الكشف عن معنى الفظة من الألفاظ ، لينتقل للحديث عن مراحل جمع هذه الألفاظ والتي قسمها إلى ثلاث مراحل فالأولى هي مرحلة تدوين الألفاظ بعد سماعها من القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو من الأدب العربي شعرا ونثرا دون ترتيب ، وقد مثل لهذه الرحلة غير المرتبة بمعجم "النوادر في اللغة" لابي زيد الأنصاري، والذي كان يورد نصوصا شعرية ونثرية ملآ بالمفردات الغريبة النادرة ولا رابط بين هذه المفردات إلا الغرابة الندرة. والمرحلة الثانية التي تم خلالها تدوين ألفاظ اللغة مرتبة في رسائل متفرقة صغيرة حسب المعاني والموضوعات، كرسائل "المطر" و"اللبأ واللبن" للأنصاري، و"الخيل" و"الشاء" للأصمعي، و"الرحل" و"المنزل" لأبن قتيبةّ، فهذه رسائل جمعت فيها الألفاظ حسب معانيها وموضوعاتها، كما أشار الطرابلسي إلى أن هناك رسائل جمعت فيها ألفاظها تبعا لأحد حروف أصولها، ومن أشهر ما وصلنا من رسائل هذا النوع كتاب "الهمزة" لأبي زيد الأنصاري، وهناك رسائل جمعت فيها الألفاظ حسب الاشتقاق الواحد ككتاب "فعل وافعل" لقطب وكتاب "فعلت وأفعلت" للزجاج. أما المرحلة الثالثة فقد تم خلالها تأليف معاجم عامة شاملة، وقد انقسم ترتيب ألفاظ هذه المعاجم إلى ثلاثة أقسام: الأول ترتيب الألفاظ حسب مخارج الحروف؛ وأول معجمي اعتمد هذا الترتيب هو الخليل بن احمد الفراهيدي في معجمه "العين" حيث ذكر أمجد الطرابلسي أنه رتب في معجمه الألفاظ حسب مخارج الحروف مع مراعاة أوائلها، فمثلا: نبع في باب العين، كما اتبع نفس الطريقة في ترتيب مفردات كل باب على حدة، كما أشار إلى أن الفراهيدي لم يبدأ بالهمزة ولا بالهاء مع أنها أقصى مخرجا من العين، ويفسر هذا بقوله أن الهاء مهموسة وخفية ولأن الهمزة غير ثابتة وهي عرضة للحذف والتغير. كما ذكر بعض خصائص هذا المعجم ومنها: أن الخليل لم يكن يكتفي بذكر الكلمة المنتهية بحرف معين، بل كان يذكر بعد كل مادة اشتقاق كل كلمة، أي الكلمات التي تنتج عند تبديل موضع الحروف في أصل الكلمة أو كما سماه بالاشتقاق الأكبر، فمثلا إذا ذكر مادة صرع في باب العين ينتقل بعدها إلى: رصع، عصر، صعر. كما أورد الطرابلسي معلومة جد مهمة ربما كان يغفل عنها الكثير –ولعل هذا بهدف الانتقاد غير المباشر للخليل- إذ أشار إلى أن بعض المؤرخين يرون أن الخليل ليس هو من ألف معجم العين، بل هو فقط صاحب الفكرة أي فكرة ترتيب الألفاظ، أما المنفذ كان الليث بن المظفر. أما الترتيب الثاني فهو ترتيب أصول الكلمات حسب حروف المعجم مع مراعاة أوائل هذه الأصول ويمثلها معجم "الجمهرة" لابن رديد الأزدي، إذ أنه سار على نفس نهج الفراهيدي في كثير من الأسس التي اتبعها؛ كعرضه لتقلبات الكلمة مثلا، لكن مع اختلاف واحد هو خروجه عن الطريقة الصوتية في ترتيب المعجم، حيث اعتمد على الترتيب الهجائي فمثلا نجد مادة "بثق" وشرحها في باب الباء وينتقل بعدها إلى ثقب تبعا للترتيب الهجائي للكلمة، كما قسم مفردات اللغة إلى فئات بحسب عدد أحرف أصولها، ونوع بنائها، ورتب كل فئة في باب مستقل، إذ نجد في باب الثنائي الصحيح مثلا كلمة بث وبر وفي باب الثنائي الملحق بالرباعي نجد بثبث وبربر ثم في الثلاثي الصحيح نجد برز. وذكر الطرابلسي خلال تناوله لمعجمي العين والجمهرة أن صاحبيهما اعتمدا على هذا الترتيب للاختصار و تفاديا للتكرار الذي لا فائدة منه. كما نجد هناك معاجم ترتب كلماتها حسب الترتيب الهجائي مع مراعاة أواخر الكلمات، فأول من اتبع هذه الطريقة هو أبو نصر الجوهري في معجمه "تاج اللغة وصحاح العربية" أو كما يعرف "الصحاح" وقد اختار صاحبه هذا الاسم لحرصه الشديد على ذكر الألفاظ الصحيحة دون سواها، والألفاظ الصحيحة هي الألفاظ الموثوقة الرواية عن العرب، -وفي المقابل ينتقص نوعا ما من قيمة معجم الخليل وابن الرديد وذلك لذكرهما لألفاظ لم تثبت صحتها. كما ذكر الطرابلسي أن هذا المعجم أي الصحاح يتألف من ثمانية وعشرون بابا بعدد حروف الهجاء، ويثبت كل أصل في باب الحرف الأخير منه، مثلا: أرب وطرب في باب الباء، وبرع وجمع في باب العين..، ثم بعد ذلك تصنف هذه الأصول في كل باب بحسب ترتيب أوائلها، بعد أن يقسم كل باب إلى ثمانية وعشرون فصلا، فقرأ مثلا في فصل القاف باب الهمزة. وقد ختم هذا الباب بإعطاء بعض الملاحظات المهمة عن المعاجم العربية؛ وتتجلى هذه الملاحظات في ضرورة إعادة صياغة هذه المعاجم بطريقة جديدة تواكب التطور الحديث، لكن دون المساس بجوهرها، كما بين أنه من عيوب هذه المعاجم أنها تشرح الكلمات العربية الميتة أيضا، وتهمل الحية التي باتت اليوم تستعمل على نطاق واسع في الشعر المحدث وفي المؤلفات العلمية والأدبية. لينتقل إلى الفصل الثاني ليتحدث عن معاجم المعاني والتي تفيدنا في إيجاد لفظ لمعنى من المعاني الذي يدور بخلدنا ولا نعرف كيف نعبر عنه، وقد تحدث في هذا الفصل كما الأول عن المراحل التي مر منها جمع هذه الألفاظ وقد قسمها إلى ثلاث مراحل: فالمرحلة الأولى تم خلالها تأليف رسائل صغيرة ذات الموضوع الواحد، ككتاب "المطر" و"اللبأ واللبن" للأنصاري، وكتاب "الخيل"، "الإبل"، "النخل" و"الكرم" للأصمعي. أما المرحلة الثانية فتم خلالها تأليف رسائل أوسع حجما وموضوعا من الرسائل السابقة، وأول معجم يمثل هذه المرحلة هو كتاب "معجم الألفاظ" لابن السكيت، وقد فصل الطرابلسي في الحديث عن هذا المعجم؛ إذ ذكر أنه من المعاجم الطويلة التي تضمنت أكثر من مئة وخمسون بابا، تناول في كل باب معنى من المعاني، ذاكرا الألفاظ التي تستعمل في التعبير عن جميع أحوال هذا المعنى ودرجاته، كما تناول المصنف في كتابه أهم أغراض الكلام المادية والمعنوية، كالطول والقصر والحسن والذمامة..، إضافة إلى ذكره الصفات الخلقية كالذكاء والشجاعة والبخل والحمق..، كما ذكر في بعض أبوابه مظاهر الطبيعة كالنهار والليل، الشمس والقمر.. وقد أشار الطرابلسي إلى نقطتين سلبيتين في هذا المعجم فالأولى هي أن هذا المعجم يفتقر للاستيعاب والشمولية وقد ورد هذا في الصفحة 36، والثانية هي عدم تصنيفه لأبوابه تصنيفا منطقيا، بل جعلها تتتابع دون ترتيب أو فكرة موجهة، لكنه عموما يعتبر خطوة مهمة إلى الأمام في ما يخص معاجم المعاني، كما تحدث كذالك عن معجم "الألفاظ الكتابية" للهمذاني، ومعجم "الألفاظ" أو "جواهر الألفاظ" لقدامة بن جعفر. أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة الختامية، والتي تم خلالها تأليف معاجم المباني الحقيقية، فما ذكر قبلا ليس بمعاجم حقيقية على حد تعبير الطرابلسي؛ وذلك لأنها لم تتوفر على الشرطين الأساسيين للمعاجم فأولهما الشمول والاستيعاب، وثانيهما هو الالتزام بطريقة منظمة في تصنيف الأبواب. ومن أشهر الكتب التي تمثل هذه المرحلة تمثيلا صحيحا هما: "فقه اللغة" للثعالبي و"المخصص" لابن سيده الأندلسي، وقد تناولهما الطرابلسي تناولا دقيقا على غرار المعاجم التي ذكرت؛ وهو تناول نقدي جمع بين محاسن وفجوات المعاجم، فبالنسبة لمعجم "فقه اللغة" للثعالبي فقد تميز بحسن ترتيبه؛ إذ أنه مقسم إلى ثلاثين باب كبيرا، كل منها يتناول معنى من المعاني الأساسية أي المعنى الأصلي، وكل باب بدوره مقسم إلى عدد من الفصول الصغيرة، يجمع كل منها الألفاظ المستعملة في التعبير عن فرع من فروع المعنى الأصلي الذي عقد عليه الباب كله. أما بالنسبة لمعجم "المخصص" لابن سيده فهو أضخم معجم للمعاني تعرفه المكتبة العربية، وهو كتاب مقسم إلى مجموعة من الكتب الأخرى؛ كخلق الإنسان، الغرائز، اللباس..، وكل كتاب من هذه الكتب مقسم إلى أبواب بعدد ما يحمل المعنى الأصلي من فروع، وهذه الطريقة شبيهة بطريقة الثعالبي قبله في "فقه اللغة"، إلا أنها على حد تعبير الطرابلسي أكثر إحكاما. ومن فضائل هذا الكتاب نجد: تقديم الأعم فالأعم على الأخص فالأخص، إكثار هذا المعجم كما الكثير من المعاجم من الاستشهاد بالشواهد القرآنية كما الشعرية، وذكر المصادر التي تؤخذ منها الشواهد، كما ذكر الروايات المتضاربة كلها ولا يقطع إحداها. ولعل من الأسباب التي جعلتني أعجب بمنهجية الدكتور أمجد الطرابلسي في عرض كتابه وخصوصا الباب الأول، هو اعتماده على أسلوب سهل وبسيط يسهل على القارئ استيعابه؛ وخصوصا بالنسبة لمن لم يعتد على قراءة الكتب التي تتناول المعاجم في دراستها، كما تتجلى السهولة في العرض من خلال الاعتماد على خطوات منهجية علمية يسهل فهمها، فقد بدأ في الأول بمقدمته التي عرض فيها ما سيتناوله في كتابه، كما حدد حدود كتابه أو المجال الذي ينتمي إليه كتابه "مجال الدراسات المعجمية"، ثم تحدث في عرضه عن معاجم الألفاظ والمعاني مفسرا ومعرفا كل واحد على حدة. كما يفيد القارئ كثيرا في تمكينه من الاطلاع على بعض المعاجم التي ما كنت لأستطيع الاستفادة منها و الرجوع إليها والبحث عن بعض المفردات فيها لولا تعرفه في هذا الكتاب على طرائق ترتيب الألفاظ في هذه المعاجم.