الفاعل المدني بين الأمس واليوم لستُ من هُوَاةِ السكن في الماضي ولا تَطِيبُ لي تلك النوستالجيا المُمَجِّدة للفائِت. ولكن هذا لا يمنعُني القولَ إن التجربة المدنية، كما التجربة السياسية، في سوق الأربعاء كانت سابقا وإلى حَدٍّ ما تتمتّع بأهلية الفاعل قياسا إلى الراهن البئيس، بحيث كان الفاعلُ المدني على درجةٍ مقبولة من الاطِّلاع الثقافي والرصيد التعليمي، حتى إنها كانت ظاهرةً أن يتبادل الفاعلون الجَمْعَوِيُّونَ والمُهْتَمُّون بالشأن المحلي الكُتُبَ والمجلات ويُنَظِّموا جلسات داخلية بالمقاهي والبيوت والأندية، في نقاشات ثقافية وأدبية مكّنت الجيل السابق من بلوغ مستوى ثقافي ولغوي محمود، بل كثير من أقلام اليوم تدرّبت وتكوّنت في تلك التجربة المدنية والنقاشات والصالونات. أما إذا نظرنا اليوم إلى الفاعل المدني الميداني والافتراضي، والحالُ يسري على الفاعل السياسي أيضا لأنهما وجهان لأزمة واحدة، فإننا نجدُ الحالَ كارثيا، فآخرُ شيء هو أن نرى فاعلا جمعويا أو ناشطا "فيسبوكيا" يحمل كتابا أو مجلة متخصصة أو يخُوض نقاشا بمستوى معرفي محترم، ويكون الحال أكثر كارثية وإحباطا حين يتعلق الأمر بالخطاب اللغوي والثقافي، إذْ بالكاد تقرأ أو تسمع جملةً صحيحة ومفيدة، وبالكاد تجد للفاعل صلةً بالتحصيل المعرفي ولو في حدوده البسيطة. والفاجعة هي حين تجد عباقِرةً في لغة "أكلوني البراغيث" يَصُولُونَ ويَجُولُونَ بلا حِشْمَةٍ ولا ذَرَّةِ حياء، كأنهم بلغوا من المعرفة شأْوًا غير مسبوق، وكُلّما أحسّوا بالخَوَاء، سَطَوْا بكل رعُونة على كلامِ غيرهِم وعلّقُوه على جدرانهم الزرقاء الواهنة دون إشارة إلى مصادره!!! مُتَوَهِّمِينَ أن الكل أغبياء!!! أرى أنه من الحكمة والمُواطنة والضرورة أن يَمْنَحَ هؤلاء الناسُ بعضَ الرحمة لأنفُسهم وأن يعملوا على تغيير وإصلاح مَقُولِهم ومُستواهم على الأقل موازاة مع رغبتهم في الحديث عن إصلاح الشأن العام والعيش المشترك. ليس عيبا أن يصمت أو يَخْفُت كل من لا يقدر على كتابةِ جملةٍ مستقيمة إلى حين يستقيم له الأمر وتستوي لديه الفكرة والعبارة. الاقتراح الرمزي لتخفيف الأزمة لا نختلف كثيرا حول دَوْرِ المبدع في تهذيب الأذواق وتأصيل القيَم العُلْيا في النفوس كما في الأَفْهام، كما لا شك أن الإنتاج الثقافي والأدبي لكل أمةٍ أو جماعة إنسانية هو وجهُها الحضاري والتشريفي. لا مُراءَ كذلك أن الجماعة المبدعة هي العُملة الأَسْمَى التي وَجَبَ الاهتمامُ بها وإيلاؤُها خاصَّ العناية والتحفيز من أجل خلق البيئة الحاضنة للفعل الإبداعي والارتقاء بالذوق والمستوى العام وتقديم الصورة الإيجابية والثقافية للمدينة. في سوق الأربعاء، وُجِدَتْ وتُوجَدُ جماعة أدبية وثقافية محسوبة على رؤوس الأصابع ممن تجرؤوا واجْتَرَحُوا المعجزة وهُم يطبعون ويُصْدِرُونَ كُتُبًا، وما أدراك ماذا يعني ويَسْتَلْزِمُ هذا الإقدام!!!، فاسألوا أهل الكتاب والكتابة إن كنتم لا تعلمون. ما أعرفه أن الأكثرية المُتعلّمة محليا لا عِلْمَ لها بكُتُّاب وكاتبات المدينة ممن لهم الكُتُبُ والإصداراتُ المنشورة، وما أعرفه أن لا أحد من هؤلاء حقق 50 نسخة من المبيعات محليا بين قرابة 80 ألف نسمة، فمن وصلتْ نُسَخ كُتُبه إلى مكتبة / كشك بالمدينة إلا وبَقِيَتْ هناك، هناك في العَدَمِ ورُفُوف الإهمال والتبْخِيس!!. ولنا أن نتخيّل عُمْقَ المرارة والخَيْبة والأسى حين يُنْهَك ويَحترِق كاتبٌ ثم يُنْفِقُ من جيبه على كُتُبه وبه خصاصة!!!، ثم لنا أن نتصوّر تراكُمَ مشاعر النُّكران والجُحُود عندما يجد المبدعُ بعض الحفاوة خارج رُقعته الروحية وبعيدا عن الأهل، ومنهم من تُرجِمت كُتُبه واستُقْبِلت داخل وخارج الوطن، أليس هنا يَصِحُّ بيت طرفة بن العبد: وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً / عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنّدِ ماذا يُضِيرُ لو أن المجلس الجماعي اقْتَنَى على سبيل المثال 300 نسخة بمعدل 50 درهما عند كل إصدار، عِلْمًا أن صُدُورَ كِتاب لواحد من أبناء المدينة يتراوَح بين سنتين أو ثلاث. ولأن البنية السياسية الراهنة في أفضل نماذِجْها عاجِزةٌ عن فَرْضِ هذه المبادرة الرمزية الخلاّقة، ماذا لو أن جمعيات الآباء والأولياء في المستوى الإعدادي والثانوي خَصَّصَتْ 5000 درهم سنويا على سبيل المثال لتعزيز مكتبة المؤسسات بإصدارات وكُتب شِلّة الكُتّاب محليا للتعريف بهم لدى الناشئة وجعلهم مصدرَ افتخار واعتزاز؟ ماذا لو أن جماعةَ المحامين محليا، خصوصا الشباب ممن سبق واقتربوا من الشأن الثقافي والجمعوي والسياسي، هم وجماعة رجال التعليم ممن يَهْتَمُّونَ أو سبَق لهم الاقتراب من الشأن العام، تجرّؤوا يومًا واشتروا نُسخة واحدة عند كل إصدار بما قدره 50 درهما، أي عند كل سنتين أو ثلاث سنوات، ولو من باب دعم وتقدير الغايات الجادة في المدينة!!!!. ماذا لو أن الفاعل الجمعوي أو الناشط "الفيسبوكي" اشترى نُسخة من كِتابٍ جديد لواحد من أبناء المدينة بين سنتين أو ثلاث وقرأه على سبيل التكوين الذاتي والاجتهاد في تحسين المستوى؟!! بلا شكٍّ المقترحاتُ شَتّى، لكن ماذا لو أن كل واحد بدأ من نفسه، وأَسْهَمَ في رفع المعنويات وتكريم المُبدع بحُسن التلقي والمشاركة في إبراز الوجه الثقافي والقيمي والحضاري، بعيدا عن البُكائيات والتسابق حول حب المدينة والارتباط بها، ليكن هذا أضعف الإيمان في المبادرة الفردية، عِوَضَ هذه "المندبة" الجماعية على حائط المبكى "الفيسبوكي" وعِوَضَ تشجيع الرداءة والسطحية ومُتابعة صفحات الهَذْرِ والمُهاتَرات التي اجتاحت حياتنا وحوَّلَتْها إلى نظامٍ من التفاهة واستعراض اللغو المتبادل، إلا مع بعض الاستثناءات المُفْرَدة التي تسعى لإبقاء شمعة المصداقية مُتَّقدة في مدينة الظلام!!!. أَحْسِبُ القائلَ هو سيدي عبد الرحمن بالمجذوب رحمه الله: "الغَرْبْ اغْرِيبْتُو غْرِيبَة". وفي الأخير إن المُواطنة لا تعني شيئا آخر سوى الارتباط العُضْوِي بالمُكتسبات الرمزية والقيمية، وتَثْمين المُقدَّرات المادية واللامادية للمجال الذي ينتمي إليها الإنسان.