لا شكّ في أنّ تقييم مستوى تطوّر مجال حقوق الإنسان في أيّ دولة من الدول يقوم بالأساس على أوضاع مؤسساتها السجنية. على اعتبار أن السجون تشكل فضاءات مغلقة تحوي بين جدرانها أشخاصا يمثّلون في نظر العامة مجرمين ومنحرفين يستحقون الردع والعقاب وإعادة التأهيل. وحيث أنّ الفضاءات السجنية كما أسلفنا فضاءات مغلقة، فإنّها وبدون شك تشكّل حيّزا ضيقا تتقلّص وتتقيّد فيه الحريات بشتى أنواعها، إذا لم نقل بأنّها تكاد تنعدم في معظم دول العالم الثالث. والمغرب باعتباره دولة من دول العالم السائرة في طريق النّمو، قد شهدت مؤسساته العقابية مراحل متعددة، وشدّا وجذبا بين ثنائية "الحقوقي والأمني"، وعلى مرّ السنوات التي أعقبت الاستقلال طغى الجانب الأمني والعقابي على الجانب الإنساني والتأهيلي والحقوقي. إذ كانت المؤسسات السجنية إلى حدود سنة 2013 فضاءات مغلقة على نفسها ودهاليز مظلمة لا يُرَى ما خلف جدرانها، وهو الأمر الذي كان دائما يجلب على المغرب انتقادات ومؤاخذات المؤسسات والهيئات الحقوقية الدولية والوطنية. ومع تولّي السيد محمد صالح التامك مقاليد تسيير المندوبية العامة للسجون، شهدت المؤسسات السجنية طفرة نوعية غير مسبوقة، إذ عمد هذا الرجل المثقف العارف بخبايا السجون والملمّ بجميع ما يدور بين جدرانها وما تحتاجه تلك المؤسسات للخروج من نفقها المظلم، ونَقَلها من وضعية العقاب والزجر إلى وضعية التأهيل وإعادة الإدماج. ولتحقيق هذه الغاية النبيلة عمد السيد صالح التامك إلى التركيز على الثلاثية المحورية والأساسية التي كانت تفرض نفسها لتحقيق أي إصلاح منشود: تأهيل العنصر البشري العامل بالسجون تأهيل البنية التحتية للمؤسسات السجنية وزيادة الطاقة الإيوائية الانفتاح على العالم الخارجي والقطع مع عهد الانغلاق فعلى مستوى تأهيل العنصر البشري فقد عمل السيد التامك على وضع برنامج شامل ومتكامل لتحقيق الغاية المرجوة من أية عملية تأهيل، بدءا بتطوير برامج التكوين الأساسي التي كان يخضع لها الموظفون المتدربون الجدد، وكذا برامج التكوين المستمر، عبر إقحام مؤسسات خارجية متخصصة في المجال، إضافة إلى عقد شراكات مع معاهد وجامعات دولية كبرى مشهود لها بالكفاءة في مجال تأهيل العنصر البشري كالجامعة الدولية بالرباط، وكذا الشراكة المتميزة مع إدارة السجون الفرنسية والأمريكية والإيطالية والإسبانية، وغيرها من الدول المتقدمة في مجال تدبير الشأن السجني. وهو الأمر الذي مكّن موظفي المندوبية العامة للسجون بالمغرب من الاستفادة من تجارب نظرائهم الغربيين. كما تم أيضا في هذا الباب خلق وحدات تكوين عليا بالجامعات الوطنية تحصّل بموجبها موظفو المندوبية على شواهد عليا في تدبير المؤسسات السجنية، كما تم إرسال بعثات دراسية متعددة عدد من دول العالم كان أبرزها الولاياتالمتحدةالأمريكية، مما مكّن الموظفين من الاستفادة من تجارب تلك الدول. وبالمقابل أعطى تعليماته الحكيمة والقيّمة للنهوض بأوضاع الموظفين المادية والاجتماعية على قدر الإمكانيات المرصودة له من قبل الحكومة، وأيضا اعتمادا على الموارد الذاتية التي وفرتها جمعية التكافل الاجتماعي لموظفي السجون، هذه الأخيرة التي عمل على تطوير آليات اشتغالها هي الأخرى وتقنين صرف مواردها المالية في وقت كانت فيه سابقا تعرف نوعا من التسيّب والهذر لمداخيلها. وعلى مستوى البنية التحتية، عمل المندوب العام الحالي لإدارة السجون على تشييد عدد من المؤسسات السجنية، ولأوّل مرة يراعى في عملية بناء تلك المؤسسات توفير الشروط الأساسية الضرورية للقيام بعملها على أحسن وجه، بدءا بالمساحات المخصصة لها، ومرورا بالمرافق الأساسية من قاعات دراسية ووحدات للتكوين المهني وإنارة وتهوية ومرافق ترفيهية كالمسارح وقاعات المطالعة المجهزة بأحدث المعدات التكنولوجية والملاعب والحدائق... إلخ. وفي نفس السياق تمت على عهده عملية تحديث واسعة للمؤسسات القديمة وإعادة تأهيلها من أجل أنسنتها. وقد أسهمت هذه الإصلاحات على مستوى البنية التحتية في تحقيق قفزة نوعية على مستوى برامج تأهيل السجناء وإعادة إدماجهم، إذ وفّرت الظروف الملائمة لإنجاح برامج التكوين بشتى أنواعها، وزيادة المساحة المخصصة للإيواء قياسا بالسنوات الخالية، وفتحت المجال أمام النزلاء لتطوير مهاراتهم العلمية والمعرفية والإبداعية. بحيث سجلت في عهده ولأوّل مرة في تاريخ المغرب مشاركة نزلاء مؤسسات سجنية في مسابقات رياضية وثقافية وفنية خارجية، أي خارج المؤسسات السجنية كالمسرح والشعر وكرة القدم وغيرها. وعلى مستوى الانفتاح على العالم الخارجي، فلا يختلف اثنان على أنّ المؤسسات السجنية على عهد محمد صالح التامك لا علاقة لها نهائيا بمرحلة ما قبله. ويكفي أن يعود كل من يوجه انتقاداته المغرضة والمسيّسة والموجهة من قبل أعداء الوطن بسنوات قليلة إلى الوراء، ليقف على حلكة وظلمة وعتمة وضبابية ما كان يلوح للناظرين من بعيد إلى تلك الجدران الإسمنتية للمؤسسات السجنية، لدرجة أنّ المغاربة قد ترسخت في ثقافتهم الشعبية بأن كل من يغادر أبواب السجون ينبغي أن لا يلتفت نحوها أبدا، وأن يرشّ الماء على أقدامه تيمّنا ورجاء في عدم العودة إليها أبدا. إلى أن جاء محمد صالح التامك وفتح أبواب السجون على مصاريعها. لتتحول على عهده إلى مؤسسات اجتماعية عادية مثلها مثل أيّ مرفق من المرافق العامة للدولة. فولجتها جمعيات المجتمع المدني بمختلف مجالاتها وتخصصاتها، وولجتها المؤسسات الحقوقية بدون قيد أو شرط وفي كل وقت وحين، وأصبح المغاربة يعرفون كل صغيرة وكبيرة عن ما يدور خلف تلك الجدران التي كانت بالأمس القريب مغلقة على من هم داخلها. بل وذهب السيد المندوب العام الحالي أبعد من ذلك إلى اعتماد سياسة الأبواب المفتوحة. تأسيسا على كل ما سبق، وردا على كل الأصابع المغرضة الممدودة بأجهزة ريمونت كونترول من خارج حدود مملكتنا الآمنة، نقول: يكفي أن تتصفحوا كتابا من كتب التاريخ والسيرة الذاتية لمناضلين مغاربة عاشوا ظلمة وحلكة سجون الماضي، وتقارن بينها وبين ما تعرضه عليكم قنواتكم الإعلامية الوطنية المستقلة وجرائدها الإلكترونية والورقية من أنشطة وحياة طبيعية أفضل أحيانا من حياة من يعيشون خارجها.