هل يمكن أن نتصور حكومة بدون رؤية اقتصادية، اقترن تنصيبها بتضخم الطلب الاجتماعي الملح و الظرفية الدولية الصعبة، وتفاقم المخاطر الإقليمية التي تهدد الاستقرار الاقتصادي، والحاجة إلى دورة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الكفيلة باستيعاب مظاهر العجز الاقتصادي والاجتماعي؟ شرعية السؤال مستمدة من السياق الوطني وما آلت إليه الوعود الانتخابية والبرنامج الحكومي في شقه الاقتصادي، على ضوء تفكك الأغلبية الحكومية وتوقف قطار الإصلاحات، وغياب رؤية مؤطرة للعمل الحكومي في المجال الاقتصادي بشكل عام. والواقع أن الحكومة ومنذ تنصيبها بداية سنة 2012، راكمت الأخطاء والتقديرات لاعتبارات مرتبطة بقلة التجربة والخبرة من جهة، والاندفاع المبالغ فيه من جهة أخرى، الذي لا يستقيم ومنطق تدبير الشأن العام المحكوم بالتفاوض والحلول الوسطى. خمس مؤشرات أساسية تبرهن إلى أي حد قد غابت لدى حكومة بن كيران الرؤية والتصور في المجال الاقتصادي، و هو ما جعلها بعد أكثر من سنة ونصف، أي بعد انقضاء أكثر من ثلث الولاية الحكومية، لازالت تتلمس الطريق الصحيح. المؤشر الأول، يرتبط بالتصريح الحكومي، وما قدمه من وعود رقمية وبرامج للإصلاح. في هذا الإطار، وعدت الحكومة بحصر نسبة عجز الميزانية في حدود 3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وتحقيق نسبة نمو تقدر ب5.5 بالمائة في أفق نهاية الولاية سنة 2016، مع الحرص على ضبط التضخم في حدود 2 بالمائة، وتخفيض معدل البطالة إلى 8 بالمائة. ينضاف إلى كل ذلك، تكريس المنافسة والشفافية وتكافؤ الفرص في الولوج إلى الصفقات العمومية، ومباشرة الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية المتمثلة في القضاء على مظاهر الريع والفساد الاقتصادي، وإصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد وإعادة النظر في المنظومة الضريبية. التصريح الحكومي وإن قلل من تفاؤل الوعود التي قدمها حزب العدالة والتنمية في برنامجه الانتخابي، فإنه لم يستحضر بتاتا خطر الأزمة الاقتصادية في تجلياتها الوطنية والدولية، واندرج في إطار استمرارية البرامج الحكومية السابقة، وهو بطريقة أو بأخرى شكل في نهاية المطاف فسيفساء لبرامج الأحزاب المشاركة في التحالف الحكومي باختلاف مرجعياتها الإيديولوجية وأولوياتها البرنامجية. المؤشر الثاني يتعلق بلحظة تدبير مشروع قانون مالية 2012، حيث عمدت الحكومة إلى سحب المشروع المعد من طرف الحكومة السابقة من أجل ملائمته و تحيينه على ضوء المؤشرات الاقتصادية الجديدة، و هو ما أخذ أكثر من ثلاثة أشهر من عمر السنة المالية 2012، دون أن يعرف المشروع في صيغته "المعدلة" تغييرات جوهرية على مستوى بنيته أو مؤشراته وفرضياته الأساسية. طول مسطرة المناقشة البرلمانية، جعل قانون المالية يخرج من عنق زجاجة البرلمان بغرفتيه في منتصف السنة، وهو ما يعني ضمنيا بأن 2012 كانت سنة بيضاء لافتقار الفاعلين الاقتصاديين لأي أفق واضح المعالم، خصوصا وأن الحزب الذي يقود التجربة الحكومية لم يكشف بعد حينئد عن توجهاته العملية في المجال الاقتصادي مما رهن البلاد في انتظارية قاتلة. المؤشر الثالث يهم تدبير إشكالية صندوق المقاصة خلال سنة 2012، حيث قررت الحكومة الزيادة في أسعار المحروقات، ابتداء من ليلة الجمعة فاتح يونيو 2012، بزيادة درهم واحد في مادة الكازوال، وزيادة درهمين في مادة البنزين، مبررة القرار بالكلفة الباهظة للدعم وتأثيراتها المحتملة على التوازنات المالية، ومن أجل توفير التمويلات اللازمة للاستثمارات العمومية الكفيلة بالرفع من مستوى نمو الاقتصاد الوطني، في أفق انتظار إصلاح جذري لنظام المقاصة. الحكومة رهنت قرار الزيادة في سعر المحروقات بإصلاح عميق لصندوق المقاصة، وهو ما لم يتحقق إلى حدود اليوم، أي بعد أكثر من سنة تقريبا من الإعلان عن ذلك. مباشرة بعد هذا القرار، ستلجأ الحكومة في غشت من السنة نفسها، إلى خط ائتماني وقائي منحه صندوق النقد الدولي بقيمة تعادل 6.2 مليار دولار لمدة سنتين كإجراء استباقي من أجل توفير احتياجات احترازية. القرار وإن شكل بداية دخول المغرب في نفق الأزمة، و أعطى الدليل على إرهاصات بداية تدخل خبراء صندوق النقد الدولي في تحديد الاختيارات الاقتصادية للبلاد، فإن الحكومة واصلت رغم ذلك تفاؤلها وأكدت أن الخط الائتماني هو دليل على ثقة الصندوق في صلابة الاقتصاد الوطني، رغم أن تسمية الخط ذاته تدل على وجود احتمال تعرض الاقتصاد الوطني إلى صدمات خارجية. المؤشر الرابع يتعلق بقانون مالية سنة 2013. ففي الوقت التي كان المراقبون ينتظرون أن يشكل مشروع قانون المالية تجسيدا للتناوب السياسي بكل ما لذلك من دلالات تداول السياسات العمومية، وإن كنا متفقين عموما حول نوعية الأهداف التي يسعى قانون مالية 2013 إلى تحقيقها، و الذي يتوخى حسب الحكومة تحقيق ثلاثة أهداف ذات أسبقية، تتعلق بتفعيل الإصلاحات الهيكلية الضرورية وتحسين الحكامة مع الحرص على استعادة التوازنات الماكرو- اقتصادية والمالية، والرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني، وتخفيض الفوارق الاجتماعية والقطاعية، فإن المتأمل في مقتضياته التفصيلية سيستنتج لا محالة أن ميزانية 2013 اندرجت في إطار استمرارية ساذجة، تجعل مشروع القانون المالي وثيقة "تدبيرية" في معناها الضيق بنكهة محاسباتية. قانون مالية 2013، هو عمليا أول قانون مالي تعده الحكومة الجديدة منذ تنصيبها، بعدما عمدت خلال سنة 2012 إلى "تحيين" فرضيات المشروع الذي أعدته الحكومة السابقة. وضع يفترض ضرورة ترجمة البرنامج الاقتصادي والوعود الانتخابية للأحزاب المشكلة للأغلبية، وعلى رأسها حزب العدالة و التنمية الذي يقود التجربة الحكومية، وهو ما تم تسجيل غيابه تماما بين سطور وجداول الميزانية التي إما لا تدرج تلك الوعود، أو تقترح إجراءات لا تتضمنها برامجها الحزبية. في نفس السياق، تبنى قانون المالية مختلف الاستراتيجيات و السياسات القطاعية المنطلقة منذ سنوات، بشكل يسترعي الاستغراب، بالنظر لغياب أي محاولة تقييم أو تقويم لتلك السياسات من طرف الحكومة الحالية، علما أن جزءا كبيرا منها قد استنفذ أدواره، في حين تحتاج سياسات أخرى لإعادة النظر. على أن الملاحظة البارزة، هي استمرار تأجيل الإصلاحات، وعلى رأسها إصلاح صندوق المقاصة. فالحكومة، وإن لم تشر إلى ذلك بالتفصيل في قانون مالية 2013، فإنها وعدت بأن السنة الحالية ستكون سنة إصلاح صندوق المقاصة بامتياز، وأن التفعيل سينطلق خلال شهر يونيو، وهو ما لم يتحقق لحدود الساعة. نفس المصير سيلقاه ملف إصلاح صناديق التقاعد، الذي أعيد إلى الرفوف فور انعقاد اللجنة الوطنية لإصلاح أنظمة التقاعد، دون أن يتم وضع أفق زمني لتنزيل الإصلاح، على الرغم من أن سنة 2012 تبقى سنة الفرصة الأخيرة من أجل إنقاذ تلك الصناديق من شبح الإفلاس. المؤشر الخامس يخص تجميد جزء من نفقات الاستثمار المبرمجة برسم السنة المالية الحالية، تصل قيمتها إلى 15 مليار درهم، ويأتي هذا القرار حسب تعبير الحكومة "في سياق التدابير المتخذة لمواجهة تداعيات الظرفية الحالية على توازن المالية العمومية من جهة، ومن جهة أخرى لترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة في تدبير المالية العمومية". القرار وإن تحكمت فيه ظاهريا إكراهات الحد من عجز الميزانية نتيجة تحويل جزء من اعتمادات السنة المالية الماضية، فإنه يكشف في العمق أزمة تدبير المالية العمومية في عهد الحكومة الحالية، وافتقارها لرؤية واضحة لآليات وبدائل تمويل السياسات الحكومية وضبط الإنفاق العمومي، بما يضمن استمرارية مجهود الاستثمار العمومي كدعامة أساسية للنمو والتشغيل دون رهن مستقبل البلاد والأجيال المقبلة أو تعطيل عجلة التنمية. أعطاب تدبير الشأن الاقتصادي كما تم التطرق لها سابقا تستعدي استنتاجات أساسية لمحاولة فهم أسس فشل الحكومة الحالية في المجال الاقتصادي. الاستنتاج الأول يتعلق بضعف الخبرة الاقتصادية الميدانية لدى مكون أساسي من مكونات الحكومة الحالية، وهو ما جعلها تغرق في وحل الشعارات ذات النفحة الشعبوية دون أن تتمكن من إبداع حلول واقعية لمشاكل المغاربة الاقتصادية المرتبطة بالنمو، والتشغيل، والتوازنات الماكرواقتصادية. ولعل سبب ذلك يرجع إلى آليات التنخيب داخل صفوف الحركة الإسلامية عموما، والتي لم تتمكن بسبب سطوة الخطاب الدعوي، من إبراز نخبة من الاقتصاديين ذوي الكفاءة العالية يمكن أن يشكلوا دعامة فعلية لأي تجربة سياسية في مجال تدبير الشأن العام. واقع انعكس بطيعة الحال على البرنامج الانتخابي للعدالة والتنمية، الذي أغفل الأزمة الاقتصادية وأسقطها من جدول فرضياته، لدرجة أن وزيرا صرح ذات يوم بأن الحزب تفاجأ بالأزمة الحالية، في حين أنها انطلقت منذ سنة 2008، أي أربع سنوات على الأقل من وصول إخوان الأستاذ بن كيران إلى السلطة. حزب العدالة والتنمية لم يستطيع في الختام، بلورة رؤية جديدة، وتصور برنامجي بديل للاختيارات الاقتصادية المنتهجة لحدود اليوم. وهو بذلك يحرص على تغليب المنطق الانتخابي الضيق، و يحاول تحصين مكاسبه و مواقعه السياسية خلال الاستحقاقات المقبلة، مع تكريس واقع الإنتظارية و غياب أفق لانفراج الأوضاع. تفاقم أزمة الأغلبية الحكومية، وعجز رئيس الحكومة عن إيجاد حل لرص صفوف فريقه الحكومي يطرح أكثر من سؤال عن مآل كل الإصلاحات الهيكلية التي وعدت بها الحكومة في ظل عدم قدرة الجهاز التنفيذي على اتخاذ قرارات سياسية من هذا الحجم تكسب موافقة وانخراط مكوناته بالدرجة الأولى. ولعل أكثر ما يغيب الآن عن ذهن مكونات الحكومة ككل، هو أن الشرعية الانتخابية مدخل رئيسي للوصول إلى السلطة، غير أن تلك الشرعية نفسها تتآكل في حال غابت شرعية الانجاز.