للأستاذ العلاّمة المرحوم عبد العزيز بنعبد الله- الذي وافاه الأجل المحتوم فى فبراير من السّنة الفارطة- جانب آخر من الإبداع الأدبي لم يسلّط الدّارسون عليه الأضواء بما فيه الكفاية، بقدر ما إشتهر كعالم موسوعيّ كبير، وباحث لغويّ ومعجميّ فذ، ومؤرّخ جهبذ، وهو جانب الإبداع الأدبي المتمثّل بشكل خاص في مجموعته القصصيّة التاريخيّة المغربيّة التي أطلق عليها إسم " شقراء الرّيف" والتي كانت قد صدرت عن دار النّجاح - بيروت-1973 . تضمّ هذه المجموعة خمس قصص هي بالتوالي: شقراء الرّيف،الجاسوسة السّمراء،غادة أصيلا،في هضاب الرّيف،الجاسوسة المقنّعة.وتدور مواضيعها حول بعض مظاهر تاريخ المغرب. ففي القصّة الأولى يتعرّض القاصّ إلى مسألة تحرير مدينة العرائش التي ظلت ترزح عقودا من السّنين تحت نير الإستعمار الإسباني، ثم إسترداد الجيش المغربي لمدينة أصيلا كذلك. وفي القصّة الثانية نلتقي مع الفتاة " يطّو" الرّيفية التي لعبت دورا كبيرا في مساعدة الجيش المغربي على إسترداد مدينة طنجة من قبضة الإنجليز عام (1095)هجريّة. أمّا القصّة الثالثة فتصوّر لنا معركة وادي المخازن الشهيرة أو معركة الملوك الثلاثة،التي تحطّمت فيها فلول الجيش البرتغالي وحقق فيها المغاربة نصرا كبيرا كان له أثر بعيد المدى في تحطيم شوكة الإستعمار قرونا طويلة. وفي القصّة الرابعة نلتقي مع جانب مشرق من حرب الرّيف التحرّرية ضد الإسبان وهي تركز بصفة خاصة على معركة أنوال الشهيرة التي ألحق فيها الريفيّون بالإسبان هزيمة منكرة لا زالت أصداؤها تتردّد الى اليوم، وتسلط القصّة الأخيرة من المجموعة الأضواء على معركة الزلّاقة التي إنهزمت فيها جيوش الأذفونش بعد أن عزّز الجيش المرابطي جيوش المعتمد بن عباد. قصص من وحي التاريخ تتبادر إلى ذهن القارئ –منذ الوهلة الأولى وهو ما يزال يتابع أسطر القصّة الأولى- قصص جرجي زيدان، والواقع أنّ المجموعة لم تخرج عن نفس النسق الذي ألف جرجي به قصصه المعروفة التي إتّخذت من التاريخ الإسلامي مادة حيّة لها ، والتي كانت تمثّل مرحلة مّا من مراحل تطوّر الفن القصصي التاريخي في الأدب العربي المعاصر،غير أنّ هذه المجموعة تختلف عن روايات زيدان بالأمانة التاريخية والصدق في الرّواية،وخلوّها من أيّ تعصّب أو ميول أو خلط تاريخي ، كما تتميّز عنها بإختيارها فترات القوّة والظفر والنصر في تاريخ الأمّة الاسلامية (في المغرب) عكس ما قام به جرجي زيدان في قصصه حيث أنه كان يعهد أو يعمد الى إختيار فترات الضّعف والإنحطاط والتقهقر، لا فترات القوّة والعظمة والإزدهار في التاريخ الإسلامي. ولست أقصد هنا الى عقد مقارنة بين هذا العمل أو ذاك، وإنما توخّيت،فقط، مدى التقارب الفني ومحتوى المضمون الذي يجمع بينهما، وليس معنى هذا كذلك أن المؤلف وقع تحت تأثير هذا الأخير، أو أنه سعى الى تقليده عن عمد، وإنّما كان لزاما عليه، - وهو يكتب في هذا الباب- أن يسلك ذلك النّهج ما دام قد إتخذ من تاريخ المغرب العسكري مادة لقصصه. ولا غرو، فالمرحوم بنعبد الله كان رجلا مشهودا له بطول البّاع في تاريخ المغرب وحضاراته على إختلاف مراحلها. هذه المجموعة القصصية سدّت إبان صدورها فراغا كبيرا كانت تفتقر إليه المكتبة العربية ،ذلك أن المادّة القصصية من هذا النوع غالبا ما تكون محبّبة –خصوصا- لدى النشء من الشباب ، فلئن أولى البعض ظهره لتاريخه لطول الشروح الجافة، والسّرد الممل، وتفرّع الروايات وتنوّع الأخبار، فإنه واجد في هذه القصص، وفي مثيلاتها خير ما يشفي غليله من هذا المعين ، ويرسم بالتالى نصب عينيه صورا واضحة في قالب قصصي جذاب عن التاريخ البطولي ، والكفاح الوطني الذي خاضه أجداده من أجل تحرير أرضه، ونبذ المستعمرين الذين نهبوا خيرات بلاده منذ عهود ليست قريبة. ولئن لم يقدّم لنا بنعبد الله –في هذه المجموعة- قصصا بمفهومها الفنّي المعاصر، فذلك أنّ قصصه مستوحاة من التاريخ، ومن ثم كان لزاما عليه أن يكون أمينا في تصويرالأحداث ونقل الوقائع ، وهذا هو الشأن مع جلّ القصص التاريخية ،التي قد تفتقربعضها الى الجانب الفني –إلا فيما ندر-أكثر من غيرها التي تعالج مختلف القضايا الإنسانية أو الإجتماعية في حياة الفرد والجماعة، ولكنّ القارئ مع ذلك لا تغيب عنه قط –وهو يتابع أحداث المجموعة- تلك المتعة القصصية التي تخلق فيه روحا من التشوّف والتطلع أبدا الى ما سيحدث في النهاية، ولقد وفق المؤلف في هذا الجانب (القصّة الثانية والثالثة والرابعةعلى وجه الخصوص)فقد كانت هذه القصص أكثر فنيّة من الأخريين،وإن كان يتخللها هي الأخرى في قليل من الجوانب بعض المواقف الخطابية التي- وإن كانت تضرّ بالقصّة فنيا- فإنها تخدم الموضوع والسّياق العام للحكيّ. إن القارئ لهذه القصص الثلاث بالذات لينسى نفسه في غمرة الأحداث والمفاجآت والتطلعات التي تشدّه باستمرار الى المتابعة والركض وراء السطور بخلاف القصّة الأولى " شقراء الريف" والأخيرة "الجاسوسة المقنعة" فإنهما يأتيان بعد هذه القصص ، بالدرجة، من الناحية الفنية وبجانب الكثير من الحقائق التاريخية الواقعية المستوحاة من التاريخ نفسه. وتغلف هذه القصص جميعها ألوان من الرّومانسية الحالمة ، ويلاحظ القارئ لها أنذ نهاية كلّ قصّة تكاد تكون متشابهة ،وهي حفلة زفاف مقرونة بحفلة النصر ،ولعلّ الكاتب يرمز بهذه الحفلات الى بداية عهد جديد في حياة المغرب والمغاربة بعد كل قصّة. عادات وأنماط من حياة الناس وتتجلى لنا في هذه القصص عدّة نواح إجتماعية، وتاريخية، وإقتصادية، ودينية وغيرها،طبعت حياة السكان على إمتداد القرون ، ففي القصة الأولى نلتقي مع كثير من العادات الإجتماعية التي جبل عليها المغاربة، إذ في معرض كلام الكاتب عن مدينة سلا يلفت نظرنا الى :"وجود كثرة اليهود والمسيحيين بهذه المدينة أكثر من غيرها من باقي مدن المغرب". كما نعرف أنه كان بالمدينة كثيرمن قناصل الدول الاجنبية منها "هولاندا، وانجلترا، وفرنسا..."وتظهر الحالة الإجتماعية واضحة في : "كثرة المواخروالقوارب وكيف أنّ مرسى مدينة سلا كان من أعظم المراسي المغربية يليه مرسى آسفي من الناحية التجارية". وتتجلى هذه الناحية كذلك في القصّة الثانية حيث يتضح لنا ان المغاربة كثيرو الأسفار والتنقلات ، ومن ثم كان تحذيقهم للغات الأجنبية على إختلافها "..فكان يجيب في لهجة إنجليزية صميمة حذقها عندما كان يرافق أباه في متجره الضخم بمنشستر".وفي نفس القصّة يصوّر لنا الكاتب طبيعة المرأة المغربية خاصة التى تعيش في الرّيف أو الأطلس حيث أنها كانت تتجشّم المشاق، وتواجه الأخطار، وتتحمّل الصّعاب " وكيف أنها تعالج ليل نهار ضروبا من الأشغال المرهقة منذ غضاضة الإهاب". وتتجلى لنا الناحية التجارية في وضوح عندما نقرأ :"...ثم أديرت كؤوس الشّاي الذي كان المغرب قد إستورد من ورقه الأخضر كميّات طائلة منذ شهور من بلاد الإنجليز قبل أن يصدر المولى إسماعيل الأمر بإجلاء حاميتها عن طنجة المغربية ، فتضخمت أصوات تلحن بردة البوصيري إحتفاء بربيع الأنوار شهر المولد النبوي الشريف". كما يتبيّن لنا شغف المغاربة عموما بهذا المشروب اللذيذ منذ بدأوا يستوردونه، وكيف أنّهم يقدّمونه في حفلاتهم وأفراحهم". قصور وأسواق وحدائق غنّاء وإذا إنتقلنا الى الجانب التاريخي في هذه القصص، فإننا نجده في الواقع من أكثر الجوانب إشراقا، فقد أرّخ المؤلف فيها لحقب متفاوتة من تاريخ المغرب حيث صوّر لنا بطريقة متناهية في الدقّة حياة الناس في ذلك الإبّان ، وبعض المعاملات التي كانت تجري بينهم في كلّ مكان ، في القصور، والدور، والأسواق ، والحدائق، أو المدن والأديرة...الخ.فقدّم لنا لوحات مختلفة حافلة بالعديد من الصور لأنماط متباينة من حياة هؤلاء وبعض عاداتهم وتقاليدهم حتى ليخيّل للقارئ أنّ الكاتب قد عايشهم في تلك الفترة أو هذه الحقبة من الزمان، كإحتفالاتهم بمقدم هلال رمضان ، او الأعياد ، أو كافة المناسبات الدينية والإجتماعية الأخرى "..ثم ما لبثت السبابات أن صوّبت أناملها نحو سماء صافية الأديم، دامية الجنبات محيّية مولد هلال شوال بالتهليل والزغاريد، فانصبّ الناس كالسّيل على الدكاكين لإبتياع لوازم العيد ، واندفع آخرون نحو بائعي الحساء يترعون على قارعة الطريق أواني الخزف الدكناء "بحريرة" ساخنة..ووقعت فترة كأنها فترة القنوت بعد آية الفجر فلم تكن تسمع خلالها إلا حركة المضغ الصّامت وقرقرة الحلاقيم وهي تحتسي المشروب اللذيذ".ونقرأ :"وقد أراد أن يتيمّن بالمديح النبوي فجمع حوله قواد المئات، وبعض أبطال الجيش للإنصات الى المسمعين وقتل الوقت بكؤوس الشاي . وكانت أعزّ ساعة لدى هؤلاء الرّووافة هي تلك التي تجمعهم حول صينيّة مفضّضة مترعة الكؤوس بالماءالأصفر الحلو". في هذه المجموعة ينتقل الكاتب بك حتى بين قصورغرناطة ولشبونة أو غيرهما واصفا لك كل ما كان يجرى فيها من أحداث، أو تدور فيها من دسائس، أو يحاك بداخلها من مكائد ضدّ الوطن، وهكذا تجد نفسك إمّا أمام وصف لمكان أو حادثة ، يقول:" وتراءت لنا من ناحية الشمال سلا القديمة محاطة بأسوارمهدّمة تنفذ من أبوابها الواسعة العربات والرّواحل ، وتحفّ بها مروج خضراء، يفصلها عن حدائق جارتها سلاالجديدة نهر صغير ..ثم شاهد من بعيد منارة سامقة (منارة حسّان) فسأل عنها أحد المارّة فأخبره بأنّها من بناء السلطان أبي يوسف يعقوب المنصور ، وأنّ المائتي سارية التي تتراءى من بعيد كان عددها يبلغ أربعمائة في الأوّل..) كما نعلم أنّ السلطان (المولى إسماعيل)"كان يعتمد كثيرا على إبن عمّه الذى جال في أوربا متنكّرا في بزّة كهل إسباني يدعى الدّون أنطون أوكستان، وكان له ولوع بدراسة المجتمعات الغربية وتقاليدها وخاصّة منها العسكرية، فانخرط في سلك الجيش الإسباني حيث نال رتبة كولونيل وهم يحسبونه مسيحيّا ، وعاد الى المغرب منذ أربعة عشر عاما خبيرا إستخلصه السّلطان لنفسه مستشارا في الشؤون الأوربية يتتبّع بواسطته ما يجرى في القارة المجاورة". "وكان هذا القنصل قد جاء خلفا لقنصل آخر يدعى "جان بيريّي"إستدعاه الملك لويس الرابع عشرعلى إثر معاهدة الصّلح المبرمة بين فرنسا والمغرب عام(1094) هجرية.أي قبل تحرير طنجة بعام واحد، ولكن المعاهدة لم تنفذ لأنّ السلطان أصرّعلى أن يبادل ما لديه من أسرى أربعة مغاربة مقابل أسير مسيحي واحد،وقد طالب ملك فرنسا بتسليمه نصّ الرسالة التي كان وجّهها الرسول عليه السّلام الى هرقل عظيم الروم يدعوه فيها الى الإسلام ، وكان ملوك الرّوم قد توارثوها فظنّ السلطان أنها عند لويس وطلبها منه بصفته وارثا لمملكة الأمير شارلمان". كلّ هذه النصوص وغيرها كثير –تؤكد لنا كيف أننا نقرأ بالفعل- تاريخا حيّا وقد تسربل بعباءة قصصية رائعة،لا مكان فيها لمملل أو سأم، ويتضح لنا بالتالي أننا إزاء مادة تاريخية غزيرة، ،فلئن كان القارئ مزجى البضاعة في المواد التاريخية فإنه سيغنم الكثيرمنها في هذه القصص،سوف يعرف – على سبيل المثال- حتى عددالجيش البرتغالي حينما خرج بقيادة مليكه الشاب دون سيباستيان أنه كان يتكوّن من مائة وعشرين ألف مقاتل فيهم الإسبان والألمان والطليان، وأربعة آلاف من جنود البابا ، و 1500 من الخيل ، وألف مركب .."كما سيعيش القارئ وصفا حيّا لمعارك كثيرة ستظل وضّاءة في جبين تاريخنا الوطني على إمتداد العصور،كمعركة الزلاقة،ووادي المخازن ، وأنوال ، وإن كان هناك تفاوت واضح في الفوارق الزمنية بينها جميعا. الأسلوب هو الرّجل وأمّا من ناحية الأسلوب فيلاحظ خاتم المؤلف اللغوي مطبوعا بإمتياز في هذه القصص ، ولا غرو فالرّجل كان من أكبر المشتغلين في حقل اللغة و شواغلها وتعقيداتها، كان ينام ملء جفونه عن شواردها...ويسهر الخلق جرّاها يختصم، بعد إستئذان أبي الطيّب ،وهكذا أجاد المؤلف وأبدع، وجال وصال فلا أجمل ممّا كتب ولا أروع ، إلاّ أنه يلاحظ في هذه القصص بعض المواقف الخطابية والحماسية المطوّلة التي تضعف - فنيّا- سياقها العام وبالتالي تنتقص من سبك وحبك وترابط العمل الأدبي والإبداعي،وتضيّع على القارئ روعة التتبّع، والتطلع ، وتقطع عليه متعة الحبكة والترقّب. ومن جانب آخركان المؤلف حريصا كلّ الحرص على إستعمال لغة عربية نقيّة سليمة بعيدة عن العامية والهلهلة والضعف ،عدا في بعض المواقف التي تناسب المقام، بل كانت في مجملها لغة إمتازت بالجزالة والخصوبة ، حتى أنها جاءت في بعض الأحيان مزدانة ببعض المحسّنات اللفظية ممّا جعل إستعمالها مقبولا وجميلا في آن واحد.( لأنّ في إرتجاف اللحظ، ما يغني عن اللفظ...).(...ولكن في قسماتها البضّة، وملامحها الغضّة.) . (..فكانا يتناجيان بالأرواح، بعد أن أوعزتهما وصلة الأشباح..).(..يتحمّل نصيبه من الحرّ، وقسطه من القرّ ، ولم يكن يشغله ما أحاط به من مرمر مسنون، وذهب موضون). وتتخلل القصص أوصاف رائعة تدلّ على مدى تضلّع المؤلف في الوصف،وقدرته على التشخيص،. كما يظهرأثر الصّوفية والتديّن واضحا في معظم القصص، ويلاحظ أنّ المرأة في هذه القصص تكاد تلعب نفس الدور، وهو دور الجاسوسة المستطلعة لأخبار العدوّ. والحقيقة أنّ قصص المرحوم عبد العزيز بنعبد الله أرّخت بطريقة سردية قصصية مسهبة ومشوّقة لفترات حاسمة في تاريخ كفاحنا المرير ضدّ الإستعمار بمختلف أشكاله ،في أسلوب سلس يحمل بين طيّاته كثيرا من الحقائق التاريخية لرجل وافر البضاعة، واسع الإطلاع فى هذا الباب، وبذلك يكون قد أضاف الى المكتبة المغربية عملا أدبيا جليلا يضاف الى العديد من مؤلفاته الغزيرة الأخرى في مختلف مناحي العلم واللغة واللسنيات والفقه والأدب والحضارة والتاريخ. وإن نسيت فإنّني لن أنسى قطّ تلك السّنوات الثماني الخصبة التي قضيتها أعمل إلى جانبه في المكتب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ،(ألكسو)، خبيرا ومحرّرا وكاتبا ومشرفا علي أبواب ثابتة في مجلته الرّصينة "اللّسان العربي". كان رحمه الله علما بارزا من أعلام المغرب المعاصر،تقياّ، ورعا، نقيّا ، وصديقا، عزيزا، وفيّا . *كاتب من المغرب يعيش بين حاضرة أجدير وغرناطة