أمام الكمّ الهائل من المنشورات، والمطبوعات،والصّحف،والمجلاّت، والكتب،والمقالات،والبحوث والدّراسات، والأطروحات والمؤلّفات ، والتحاليل، والتعليقات، والحوارات، والتحقيقات، وسواها من قوالب وأشكال الكتابة والنشروالتواصل والإبداع التي أصبحت تملأ علينا حياتنا، وتغصّ بها رفوف مكتباتنا، وأرصفة مدننا ، وجدران مواقع التواصل الإجتماعية المختلفة التي أصبحت من مميّزات وعلامات هذا العصر الذي نعيشه . لقد سبق أن فطن الشاعر أحمد شوقي فيما مضى لمثل هذا الزّخم والخضمّ الإعلامي والصّحافي والثقافي الذي تميّز به زمانه، وطبع عصره، من كثرة الصّحف، ووفرة الجرائد ، والمجلاّت، حيث قال فى هذا الصّدد : لكلّ زمان مضى آية... وآية هذا الزّمان الصّحف . فماذا تراه يقول لو كان يعيش بين ظهرانينا اليوم أمام ما نراه يترى وينثال أمامنا كشلاّل منهمر من الكتابات والمنشورات الورقية، والإلكترونية، ومن المسموعات والمرئيّات وسواها.. ؟. إنها إشكالية مثيرة كانت باستمرار ولا ريب فى الوقت الرّاهن وفى كلّ عصر ومصر حديث الكتّاب، والباحثين،والقرّاء، والمبدعين، والنقّاد، والإعلامييّن،والصّحافيين والناشرين والموزّعين فى مختلف اللقاءات، والمحافل، والمنتديات الأدبية ،وهذه الإشكالية سال لها وبها ومن أجلها مداد غزير، وهي تدور حول التساؤل التالي : هل كلّ ما يكتب هو صالح للنّشر.. ؟ وهل كلّ ما ينشر هو صالح للقراءة..؟ ، وهل كلّ ما يكتب وينشر يقرأ..؟ وكتّابنا الشباب، وغير الشباب هل هم يكتبون أكثر ممّا يقرأون..؟؟. ما فتئ هذا التساؤل يراود مختلف الأوساط الأدبية والثقافية والإبداعية والصّحافية فى كلّ وقت وحين ، ويرى البعض أنّ هذا التساؤل غالبا ما يطرح على وجه الخصوص حول هؤلاء الذين ما زالوا يخطون العتبات الأولى فى عالم القراءة، والكتابة، والأدب، والخلق، والإبداع، ثم بعد ذلك النشر. فعالم الكتابة بحر زاخر ، لا قعر ولا قرارله . ففى منظور هؤلاء أنّ بعض الكتّاب الجدد يرمون أو يرتمون فوق لججه ، ويغوصون فى أعماقه، باحثين عن درره وصدفاته، وعن لآلئه ونفائسه، وقد يصعب أو يستعصي عليهم فيما بعد العودة بسلام إلى برّ الأمان ، بل إنّهم قد يصبحون بعد ذلك عرضة للمحاسبة والمتابعة من طرف القرّاء والنقّاد على حدّ سواء.. !. الكتابة كياسة، وسياسة ، وفنّ ، وتمرّس، وصنعة، وصبر، وتحمّل ، وأناة ،وسهر، وسمر،ومواظبة ومثابرة، ومواكبة، وتتبّع ثمّ هي بعد ذلك خلق، ومعاناة، و مخاض، وإبداع ،وعطاء، وقد لا يتوفّرالكثير من الكتّاب الجدد فى بداية حياتهم الإبداعية، أو عطاءاتهم المبكّرة على هذه الصّفات التي ينبغي أن يتسلّح بها هؤلاء الذين ما زالوا حديثي العهد فى خوض غمار تجربة الكتابة والإبداع ، والكيّ بأوار لهيبهما، ولسعة جمرتهما . فى هذا السّياق تنعت بعض الأجيال الجديدة من "الكتّاب " من طرف بعض النقّاد أنهم ربّما يكتبون أكثر ممّا يقرأون ، وذلك نتيجة رغبتهم أو هوسهم فى الكتابة والنشرالمبكّرين . فهل تعاني أجيالنا الحاضرة كذلك من هذه الآفة، مثلما عانت منها أجيال أدبية سابقة ..؟ أيّ هل تعاني هذه الأجيال حقّا من صعوبات فى نشر إبداعاتها وذيوعها وإيصالها إلى القرّاء..؟ أو بتعبير أدقّ هل يعاني هؤلاء الكتّاب من أزمة نشر..؟ أم إنّما هم يعانون من أزمة إبداع حقيقية..؟ أي أنّهم يعانون من أزمة قراءة، وخصاص فى الإطّلاع والتحصيل ..؟. والمقصود هنا بهذه الأزمة هي الرّغبة الملحّة التي تراود بعض هؤلاء الكتّاب، والكاتبات ، وتدفعهم إلى الإستعجال في عملية الكتابة والنشر المتسرّعين . الكمّ والكيف لا يرتاب أحد في أنّ هذه الأزمة بمفهومها الواسع هي قائمة بالفعل ، خاصّة لدى بعض المبدعين والمبدعات ممّن إكتملت لديهم ولديهنّ عناصر النّضج الفنّي، وتوفّرت عندهم وعندهنّ مؤهّلات النّشر ، مع ذلك ما فتئ هؤلاء وأولئك يعانون ويواجهون أزمة نشرحقيقية، وما إنفكّت الشكوك والتخوّفات تخامر مختلف الجهات التي تعنى بالنشر وتسويق الكتاب وترويجه فى بلادنا وفى مختلف بلاد الله الواسعة فى مساندتهم، وترتاب فى تقديم الدّعم لهم لتحقيق أحلامهم أو بلوغ مأربهم الشباب دائم الحماسة والإندفاع، سريع السّعي نحو الشهرة والذيوع المبكّرين. وهو قد يجعل من ذلك معيارا أو مقياسا لمعرفة نفسه من خلال بواكيرعطاءاته وإنتاجاته الأولى. وقد يفوت بعضهم أنّ العبرة ليست في " الكمّ الكثيرالمهلهل" الذي ينتجه أو يقدّمه هذا الكاتب أو ذاك من أيّ نوع، بل إنّ العبرة الحقيقية تكمن في " الكيف القليل الجيّد " الذي تجود به قريحة هذا الكاتب أو سواه، والأمثلة على ذلك لا حصر لها في تاريخ الخلق الأدبي فى كلّ صقع من أصقاع المعمور ، فكم من كاتب يصادفنا أثناء قراءاتنا المختلفة ، ويحتلّ في أنفسنا مكانة أثيرة، ومنزلة مرموقة لعمل واحد جيّد من أعماله أو عملين بذّ بهما سواه من كتّاب عصره ، ومعروف عن الكاتب المكسيكي الكبير خوان رولفو أنّ مجموع إبداعاته الأدبية لا تتجاوز الثلاثمائة صفحة ، ومع ذلك قال عنه صاحب "مائة سنة من العزلة " الكولومبي " غابرييل غارسيا ماركيز: " إنّ هذه الصّفحات الإبداعية على قلّتها قد إرتقت برولفو إلى مصافّ سوفوكليس"، في حين أننا قد نجد كتّابا كثيرين غيره ممّن كثرت تآليفهم، وتعدّدت كتبهم ، وتنوّعت مجالات إهتماماتهم، ولكنّا مع ذلك قد لا نجني من وراء "غزارتهم" هذه طائلا يذكر .(أنظر مقالي الأخير حول هذا الكاتب المرموق فى هذا السّياق بجريدة "القدس العربي" اللندنيّة عدد 7447 بتاريخ 29 مايو 2013) . التسرّع و التأنّي فهل حقّا يكتب بعض الكتّاب أكثر ممّا يقرأون..؟ للإجابة عن هذا السؤال لا يمكن الجزم فيه نفيا أو إيجابا، ذلك أنّ كلتا الحالتين قد يكون لهما وجود بيننا بالفعل، فالكاتب المتسرّع سرعان ما يكتشف أمره من خلال كتاباته التي إستعجل نشرها ، فقد تكون هذه الكتابات تفتقد إلى المقوّمات الضروريّة ، وعناصر النّضج اللازمة التي تجعل من الإنتاج الأدبي عملا جيّدا أو على الأقل مقبولا، وصالحا للنشر ، وقد تصبح هذه الكتابات، فى بعض الأحيان، أشكالا بلا مضامين ذات قيمة، أو على العكس من ذلك، قد تكون مضامين قيّمة، في قوالب أدبية هشّة وضعيفة . أمّا الكاتب الجادّ المتأنّي ( الدّؤوب والمطّلع) فغالبا ما تظهر في كتاباته المبكّرة علامات تميّزه عن غيره، تكون بمثابة إرهاصات، وأمارات، وعلامات تنبئ بولادة كاتب جيّد وتبشّر( سوق الكتابة والقراءة والعطاء) بخيرعميم. وهنا يتّضح الفرق بين الأوّل الذي لا يبذل أيّ جهد يذكر في البحث والمثابرة والتحصيل والتتبّع والإطّلاع المتواصل ، وبين الثاني الذي لا يدّخر وسعا، ولا يألُو جهدا من أجل إقتفاء بلا هوادة ولا وهن خطى الفكر والإبداع في كلّ مكان داخل وطنه وخارجه ، أيّ أنّه يتتبّع ويقرأ ويهضم كذلك باستمرار كلّ ما ينشر في الثقافات الأجنبية الأخرى من جيّد وجديد الأعمال الإبداعية المكتوبة وأنجحها فى مختلف اللغات، ومن مختلف الأجناس والأعراق، ويغذّي كتاباته وإبداعاته وبضاعته الفكرية قبل كل شئ بالتراث الذي لا غنى له عنه. هوس بعض هؤلاء الكتّاب إذن هو إستعجالهم في عملية النشر،علما أنّ هذه الفرصة لن تفوتهم أبدا، أمّا الذي يمكن أن يفوتهم حقا فهو فرصة إطّلاعهم ، وتحصيلهم ، وقراءتهم ، وتتبّعهم ، وإقتفائهم لكلّ جديد في مجال تخصّصهم، أو ميدان إهتمامهم على الأقلّ ، فالعالم دائم التطوّر، وعجلات قطاره لا ترحم، تركض دون هوادة أو إنقطاع ، وفي كلّ يوم يقذف إليهم الفكر الإنساني بالجديد المذهل في كلّ فرع من فروع المعرفة، والعلم، والأدب، والإبداع، والثقافة بوجه عام.ممّا ليس للأديب الحقّ بدّ ولا مهرب ولا مناص من متابعته وهضمه وإقتفاء آثاره، والتسلّح بسلاحه الذي يواجه به العالم المحيط به، والذي يجعل منه غذاء روحيّا ثرّا لكتاباته وإبداعاته. آخر الليل.. نهار ينبغي إذن على هؤلاء أن يوجّهوا عنايتهم، وأن يركّزوا إهتمامهم في المقام الأوّل على الإطّلاع الواسع، وعلى المزيد من التحصيل والتتبّع، وأن يبتلوا بشره القراءة حتى التّخمة ، فكلّ إناء يضيق بما فيه إلاّ إناء العلم فإنّه يزداد إتّساعا ..! ،وقديما قيل " منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال" ..! وهذا الأخير أضحى فى زماننا الكئيب أكثر إلحاحا من سابقه، وهذا شئ يؤسف له حقّا، وعلى هؤلاء الكتّاب أن يضعوا في إعتبارهم دائما ونصب أعينهم أنّ سبيلهم الأوّل إلى الكتابة الجيّدة، والإبداع الناجح، وبالتالي إلى النشروالشهرة والذيوع ، هي القراءة أوّلا، وثانيا، وثالثا ، وبذلك يضمنون لأنفسهم المكانة المرموقة التي يتوقون إليها ليصبحوا فيما بعد كتّابا معروفين .وعليهم ألاّ ينسوا أنّ أكبر الكتّاب من مختلف الأجناس والأعراق يقضون الليل كلّه أو معظمه بين أكوام الكتب والمجلّدات حتى يغلبهم النّوم، ويلفّهم الكرى تحت جناحيه، فيبيتون بين أحضان الكراريس، والقراطيس، والأسفار ، والمجلّدات، وهم يعرفون ويستوعبون جيّدا فحوى تلك المقولة الشهيرة القائلة : من طلب المعالي سهر الليالي، كما أنّهم يعرفون كذلك كنه ودلالة وعمق الأحجية الأدبية اللفظيّة القائلة : إذا أردت الكرامة...فقل للكرى مه.. ! إنطلاقا من هذا المفهوم، قد تغدو الأزمة الحقيقية فى بعض الأوساط الأدبية والثقافية إذن هي أزمة قراءة على ما يبدو، قبل أن تكون أزمة نشر، ذلك أنّ الإنتاج الجيّد لابدّ أن يأخذ ويشقّ ويجد طريقه إلى النّور والظهور مهما أسدلت عليه حلكة الليل ستائرالعتمة والظلام ، واعترضت سبيله الحواجزوالصعوبات والعقبات الكأداء ، فبعد كلّ ليل طويل حالك مدلهمّ، لابدّ أن ينبلج صباح مشرق، ونهار وضّاء ،وقد عاش شكسبير،وتشيخوف،وفلوبير،وسيرفانطيس، ورولفو، والجاحظ،والمتنبّي، وإبن زيدون، وابن حزم وسواهم من الكتّاب، والشّعراء، والمبدعين العالميين الكبار عندما ماتوا.. ! *كاتب من المغرب يعيش فى إسبانيا (غرناطة) .