دخلتُ السوق.. دغدغدتْ رائحة الشواء أنفي. لم ألتفت وتشاغلت بالنظر إلى حلقة نساء دائرية. كانت سيدة تتوسط الدائرة وتهمس كأنها لا تريد أن يسمع الرجال ما تقول. اقتربتُ فردني صوت المرأة القوي: "عافاك أولدي. هذا راه شغل العيالات". تراجعت خطوة إلى الوراء متخفيا خلف ابتسامة مرتبكة. الوقت عصرٌ و'أنسام' المساء شرعت تحرك العشب النابت على حافة الحائط الكبير. من بنى هذه القلعة الحصينة؟ لا أعرف. هرولت أشق الأزقة الضيقة للسوق وقد اختلطت رائحة الشواء في أنفي برائحة التاريخ. يا الله كم أحب هذه الأمكنة ! بدأ العرق المتصبب على جسدي يجف فسرت في أوصالي "حيوية" مفاجئة. "هنا كان يعيش أجدادي"، قلت لنفسي. وترامت تحت بصري سلسلة طويلة متصلة الحلقات تشد هذه السوق إلى تلك الأزمنة البعيدة الغابرة. تأملت وجوه الناس. لفحة الشمس على الجباه لا تخطئها العين. مددت يدي أصافح بائع أعشاب يعرض بضاعته على الأرض. ابتسم الرجل ولم يبتسم: كانت مقدمة أسنانه متهدمة تماما. نظر إلي فهزني السكون الذي يلفه رغم الضجيج من حوله. حدثت نفسي أن هذا العشاب ينتمي إلى هذا المكان، لا إلى زماننا. يعيش (تمغربيت) الجميلة الصافية المخلوطة بماء التدين الذي يرى فعل الله في كل شيء. في الأرض وفي العشب وفي الجسم. نفض عن يديه الطين ونظر إلي وقد انفرجت شفتيه عن بسمة حلوة راضية. - بكري ما كان خاصني خير.. كانت الصحة وكنا نخدموا مزيان.. أما اليوم شوية وصافي.. مازحته، ربما لأهرب من الموقف المحرج الذي بدأ 'يتصاعد دراميا'، فقلت له إنه لم يشخ بعد. "أنت كهل ماشي شيخ أصاحبي، وحتى الشيب مازال ما بدا فيك". لم يجبني لكنه رتل على مسامعي آية كأني أسمعها للمرة الأولى: "وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا. وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ". توقف الزمن فجأة في زوايا القرون الغابرة عند حلقة إنشاد صوفية. ترددت في أذني ترانيم الصلاة على النبي. ورأيت الجباه تقطر نورا. أرجعت البصر كرتين فعاد البصر حسيرا لم ير سوى 'بضاعة' معروضة على الأرض تسد فم الزقاق الضيق. السابعة مساء. وقع الأقدام لم ينقطع بعد. وصورة الأرض الهامدة وهي تهتز وتربو وتنبت تملأ أفقي الممتد. توقفت عند نسوة يعرضن ثيابا نسائية. علت الأصوات الحادة المحتدة. ثار الشجار اليومي، كما جرت عادة السوق، بين البائعات المتخاصمات أبدا. ضاع صوتي الجهوري وسط أصواتهن. - ما كان لا بيع ولا شرا.. علي وعلى عدياني، قالت إحداهن. - البيع؟ وراه ما بقا بيع دابا.. غ تهناي.. المغرب راها غربت.. - يا ربي تلطف بينا.. مقاتلين على جوج ريال.. ! هؤلاء النساء الطيبات يتعاركن الآن عراك الضواري في الغابات وينسين بعد لحظات كل مسببات الخصام. لا تخفى الطيبة المتخفية خلف الزبد المتطاير من الأفواه المزمجرة إلا على بعيد لم يُعير معدن الناس هنا..ها قد صدق الحدس. ارتمت أشدهن لجاجة في الخصومة في حضن امرأة طاعنة في السن وراحت تَشرق باكية. - الساعة لله.. زعاف الدنيا وصافي ! - وصلي على النبي أبنتي.. راه ما تاخذي غير المكتوب.. - (...) - والعيالات.. لي عندها شي دار تمشي ليها.. راه مشى الحال. كومت النساء الألبسة وحملنها على الظهور المقوسة ثم مضين، في رحلة جماعية، صاعدات حتى غِبْن وراء الظلام الذي بدأ يرخي أستاره. شعرتُ بوحشة قاسية تجثم على قلبي: ينشبن أظفارهن في الحياة هؤلاء النساء. يكافحن بالمخلب والناب من أجل قوت اليوم.. أعياني المسير فقصدت حانوتا أحاله صاحبه مقهى. دُرت بعيني في أرجاء المقهى فبدت لي الرؤوس غارقة في الصحون. نصحني النادل أن أتذوق جبانية مع الحامض. - خاطري في شي كاس أتاي، قلت له. - كاس؟ قل براد أصاحبي.. ما عندناش الكيسان هنا ! هنا، لا فخفخة ولا مظاهر كاذبات.. خرجت من باب القلعة الكبير وقد تخففت من عبء ثقيل وحققت إنجازا منقطع النظير: شعرت بانتمائي إلى شيء ما يشدني إلى هذه الحياة..إلى هؤلاء الناس الطيبين البسطاء.