لكل حقيقة لوازمها وعلاماتها الدالة عليها، والتي تُعرف بها، والفكر المتهافت علاماته كثيرة. أحدها: بناء الأحكام على العلل غير المناسبة عقلا وواقعا، وقد يكون ذلك عن ضعف في قوة الإدراك، أو عن جهل بصورة الموضوع، أو عن هوى يصد عن الجهة الموصلة إلى العلم الصحيح. وهذا الأمر (البناء على العلل غير المناسبة) قائم بالفكر العلماني على وجه راسخ في شأن تعليلهم لتصرفات المتدينين من المسلمين، وما هم عليه من أحوال. فتارة يعللون ذلك بأنه موجَب الفقر والحاجة والتهميش، وهذا كان قولهم في تعليل تصرفات الشباب الذين يفجرون أنفسهم، وعندما أثبت الواقع أن من هؤلاء الشباب من هم أرباب الثراء والمال والجاه قالوا : على هذا التصرف أن شيوخهم يعدونهم بالزواج من الحور العين في الجنة. وعلى قطعٍ، يعلم كل ذي بصيرة أن هذا القول ضرب من الهذيان الذي يلفظ به المبرسمون. إذ واقع الإنسان النفسي الطبيعي يشهد أن هذا التعليل يجافيه ويباينه تماما، إذ لا يتأتى في مجريات العادة أن يكون الشبَق موجبا لهذا العمل وإن بلغت قوته ما بلغت. وهب أن هذا كان صحيحا، فهل يُعوز ذا الشهوة البهيمية هذه أن يجد مطلبه في هذا الزمان على أقصى ما يريد؟ الجواب عن هذا معلوم، وهو النفي. ثم إن العلة العادية الأصلُ فيها الاطراد، فلو كانت هذه الشهوة توصل إلى أن يفجر نفسه لنيلها، لكان العلمانيون أولى بذلك لما قام بهم من الغلمة التي أفضت بهم إلى الانحلال المطلق، والواقع يشهد على ذلك، فهل ينكَر ما قام الحس والتجربة بإثباته. أما تراهم لا ينفكون يعادون على هذا الأمر ويوالون عليه، "والحب والبغض في الانحلال والفساد من العلمانية". وعلى هذا السنن العجيب في التعليل مضوا في تعليل هذه الصحوة الدينية التي تزعجهم، فتارة يعللونها بأنها موجب تدفق أموال الخليج، ويكاد المرء يصاب بالغثيان من هذا الهذيان، إذ ما علاقة تدفق المال بالمادة الروحية القائمة بالقلوب المؤمنة، والسلوك الحسن القائم بجوارحهم، والمتطلبات المعرفية التي لا تقتنع العقول إلا بوجودها، وذلك الاقتناع لا يكون إلا بصحتها، فهل إعطاء المال للمرء يترتب عليه كل هذه الأشياء المعنوية المعرفية الروحية العلمية، ثم هل كانت هذه الأشياء قائمة بنفوس أهل هذا البلد على مدى التاريخ الإسلامي أم كان هذا شيئا حادثا؟ ! سبحان الله العظيم، هذا بلد الإسلام، لا يحتاج أهله إلى مال أحد لكي يظهروا حقيقتهم. ثم إنه لو كان المال يعطي هذا لكان مكتسبا من المال الذي يوخذ من محاربي الدين الإسلامي، وبيته صناديق دعاة التغريب، الذين يستمتعون به، ويوهمون المانحين بأنهم قد أفلحوا في تغريب المسلمين، وإن حُدثوا بهذه الصحوة المباركة استروحوا إلى أن هذه سحابة صيف عن قريب تقشع. وهكذا حال كل التعليلات العلمانية لأعمال المتدينين وأحوالهم بلا استثناء، سواء كانوا أحياء أو أمواتا. وسبب هذا الخطأ والتخبط لدى هؤلاء العلمانيين في هذا الشأن كونهم يعلمون ظاهرا من الحياة فقط، وقياسهم الخلق على أنفسهم، وذلك مبني على جهلهم بحقيقة الإنسان، وبأنه مركب من مادة وروح، وأن سلطانهما جار عليه بالتوازن والاعتدال إن كان سويا. (يُتبع) * متخصص في علم أصول الفقه/ مدير مدرسة تنكرت العتيقة