من الناحية النظرية، يبدو ما أقدم عليه الاجتماع الأخير للمجلس الوطني لحزب الاستقلال، وهو يقرر "إعلان الانسحاب من الحكومة الحالية"، مسألة مشروعة وسيادية وتدخل في إطار اللعبة الديمقراطية، بل ويمكنها أن تعطي حيوية وديناميكية لحياة سياسية وحكومية عادة ما ظلت مطبوعة بالكثير من الرتابة والدوران حول ذاتها. وهناك ثلاثة اعتبارات، على الأقل، تؤكد ذلك: أولا، التحول الذي حصل على مستوى حزب الاستقلال وجاء بقيادة جديدة وإن كان معظم أعضائها كانوا جزءا من القيادة السابقة فإنهم لم يكونوا مؤثرين في المفاوضات التي أدت إلى مشاركة الحزب في حكومة عبد الإله بنكيران. فالأمين العام الجديد ليس فقط لم يكن يخفي عدم رضاه على موقع الحزب داخل الحكومة واعتقاده أن القيادة السابقة لم تحسن التفاوض حول شروط المشاركة، وإنما وضع هذا الموضوع كجزء من برنامج حملته الانتخابية، بل وربما لهذا السبب استطاع أن يستقطب إلى جانبه العديد من الوجوه الحزبية، وفي مقدمتهم أولئك الذين ظلوا يشعرون بأنهم ضحية إقصاء من مناصب وزارية كانوا يطمحون بقوة إلى احتلالها. ولذلك، فما أن تمكن من الوصول إلى قيادة الحزب، حتى أخذ حميد شباط يعبر عن رغبته في إعادة ترتيب الأوراق داخل البيت الحكومي، وهي الرغبة التي ستظهر بشكل رسمي من خلال المذكرة التي وجهها إلى الأغلبية الحكومية، وتضمنت إشارة واضحة إلى التعديل الحكومي، الذي يعني ببساطة إعادة النظر في تركيبة الفريق الحكومي للحزب من خلال إبعاد الأسماء المحسوبة على الطرف الآخر، والتي يشعر شباط وأعضاء القيادة الجديدة للحزب أنها لا تسايره توجهاته واختياراته وتبدو أميل لمهادنة بنكيران وحزبه، وتعويضها بأسماء تدين له بالولاء، أو لنقل هو المدين لها بمساهمتها الكبيرة في سباق المسافات الطويلة التي قادته إلى دخول "باب العزيزية"، ثم مراجعة خريطة تمثيل الحزب في جغرافية الانتشار الحكومي، حيث عين الاستقلاليون على "قطاعات اجتماعية"، يقدرون أهميتها من ناحية تعميق نفوذهم الانتخابي، هي بالذات القطاعات التي يشرف عليها حليفهم السابق في "الكتلة الديمقراطية" حزب التقدم والاشتراكية. ثانيا، الموقف الذي يبديه رئيس الحكومة إزاء مطالب حليفه الرئيسي في الأغلبية، ذلك أن الأمين العام ل"الحزب الإسلامي" وإن كان لا يرفض من حيث المبدأ فكرة التعديل الحكومي، فقد ظل، على العموم، يتجاهلها. إما لتقديره أن الوقت غير مناسب لإجراء مثل هذا التعديل، سيما وأنه منذ "حكومة التناوب الأولى" أضحى من باب التقليد أن يتم مثل هذا التعديل في منتصف الولاية الحكومية، أما إجرائه ولم تمر سوى بضعة أشهر على احتفال الحكومة بعيد ميلادها الأول فقد ينظر إليه كما لو أنه عنوان أزمة حكومية، ومؤشرا على هشاشة تركيبتها وتحالفاتها. أو لأنه يستصغر تهديدات حليفه الرئيسي في الحكومة ولا يأخذها على محمل الجد ويعتبرها مجرد "مزايدات" ليس إلا، خصوصا عندما تظهر له قراءة التاريخ السياسي للمغرب كم يتقن الاستقلاليين لعب مثل هذه الأوراق. فهو لا ينسى، مثلا، كيف أن الأمين العام السابق لحزب الاستقلال عندما أراد أن يراجع وضع حزبه في "حكومة التناوب" الأولى لجأ إلى كتابة مذكرة طويلة عريضة تقول في الحكومة ما لم يقله مالك في الخمر، قبل أن يظهر أن الهدف الحقيقي لتلك الحركة لم يكن أكثر من استوزار السيد عباس الفاسي وإدخال بعض اللاعبين الجديد ضمن الفريق الحكومي لحزب علال الفاسي. أو لأنه يدرك أن ما يطالب به الاستقلاليون قد يشكل إخلالا بواقع التوازن القائم على مستوى مكونات الأغلبية، وعلى وجه التحديد بوضعية الحلقة الضعيفة فيها، أي حزب التقدم والاشتراكية، الذي يحظى بمكانة خاصة لدى "الإسلاميين" ليس فقط لطبيعة الارتباطات القائمة بين بعض الرموز التاريخية للحزبين (إسماعيل العلوي، والخطيب ..) ومن خلالهم أحد كبار المسؤولين الأمنيين في الدولة، وإنما أيضا لأنه يجسد أحسن مثال يسمح ل"الإسلاميين"، بتسويق أنفسهم خارجيا كحزب يبدي قدرة كبيرة على التعايش مع الآخرين، حتى لو كان هذا الآخر حزبا ذو "مرجعية شيوعية" يفترض أنها تختلف كثيرا عن المرجعية التي يمتح منها "الإسلاميين". ويمكن أن يكون موقف رئيس الحكومة يعكس، أيضا، تخوفه من بعض الأسماء الاستقلالية التي يريد حميد شباط الزج بها في معترك التدبير الحكومي. فعلاوة على أن شدة ولاء بعض الأسماء المرشحة للاستوزار للأمين العام الجديد لحزب الاستقلال قد يشكل مصدر إزعاج له، حيث سيجد نفسه في صراع مباشر مع "تماسيح استقلالية" داخل مجلسه الحكومي، فإن بعضها الآخر يشكل استوزارها إحراجا مباشرا له ولحزبه ككل، الذي لا يخفي أنها تقف بشكل مباشر وراء قضية توريط أحد قادته في تهم تتعلق بالفساد. كما يمكن أن يكون ذلك تعبيرا عن نوع من "الغرور" الذي أصاب رئيس الحكومة، وحزبه، حتى أضحيا يعتبران أن قضية استمرار الحكومة أو عدم استمرارها ليس "مسألة رقمية وعددية" مرتبطة بعدد الأحزاب الملتفة حول الائتلاف الحكومي، بل ترجع بصفة خاصة إلى اعتبارات سياسية يعكسها ما فرضه المناخ السياسي الذي أعقب أحداث الربيع العربي من حاجة إلى "الحزب الإسلامي" باعتباره "المفتاح السياسي الوحيد الممكن" لتجنيب البلاد إمكانية الغرق في أتون "الخطر القادم من الشرق"... ثالثا، ما أظهرته الحكومة، حتى الآن، من ضعف على مستوى أدائها وعلى مستوى عدم قدرتها على استثمار ما أتاحها لها السياق السياسي الذي جاءت فيه من فرص غير مسبوقة لإحداث الفارق مع التجارب السابقة. فعلاوة، على أنها اختارت أن تدفع في اتجاه تأويل غير ديمقراطي للدستور، وسمحت، بالتالي، للتفعيل التشريعي لمقتضياته بتكريس المزيد من انفلات دائرة المبادرة من أيدي المنتخبين، فقد أبانت عن استعداد كبير لاتخاذ قرارات ذات انعكاسات غير شعبية، سيما عندما تكون هذه القرارات تنطلق من فهم خاطئ للتمييز بين الغنى والفقر في بلادنا، وتستهدف بالدرجة الأساسية الطبقة الوسطى والفئات المتحلقة حولها. كما كشفت عن ضعف كبير على مستوى الخبرة والتمرس على الملفات والقضايا التي تواجه العمل الحكومي. ولكن، عندما يتم ربط القرار الاستقلالي ببعض الوقائع الأخرى التي سبقته، ويتم تحليل بعض المضامين التي حملها، يصبح هذا القرار مثيرا للالتباس، كما يصبح من المشروع عدم الاطمئنان لسلامة الأسباب التي تدفع بها الجهة التي أصدرته من أجل تبرير ما أقدمت عليه، وهناك ثلاثة أسباب، على الأقل، تبرر مثل هذا الاستنتاج: أولا، الكيفية التي وصل بها حميد شباط إلى "سدة الحكم" في حزب الاستقلال، وما أثارته من تساؤلات حول أهدافها وخلفياتها الحقيقية، خصوصا عندما يكون ذلك قد تزامن مع تحكم "قيادات شعبوية" في أحزاب أخرى، بشكل لم يتردد معه الكثير من المتابعين للشأن السياسي في القول إن الأمر يتعلق بالسعي نحو تكوين "حلف مقدس" مناوئ ل"الحزب الإسلامي" وحكومته.. ولذلك، فقد ظل "إسلاميو العدالة والتنمية" ينظرون لمعظم تحركات شباط وتصريحاته كمسعى لإفشال تجربتهم وتبخيس ما يمكن أن يحسب في خانة منجزاتها. وآخر هذه التحركات، استعراض القوة الذي قاده "الأمين العام للحزب والكاتب العام للنقابة"، بمناسبة فاتح ماي الأخير، عندما حشد آلاف الناس من مختلف بقاع المغرب، ليقول أمامهم كلاما يصعب تصور صدوره عن حزب معارض، فأحرى أن يصدر عن حزب يتوفر على ستة حقائب وزارية ويرأس مجلس النواب باسم الأغلبية. ثانيا، السياق الذي جاء فيه هذا الموقف الاستقلالي، والذي يميزه تنامي الاعتقاد لدى بعض الجهات النافذة في الدولة بأنها ربما أساءت تقدير أحداث الربيع العربي، وتداعياته مغربيا، وقدمت تنازلات كبرى لم تكن في حجم المخاطر التي كان يمثلها، أو على الأقل حتى إن كان ذلك الخطر قائما في ذلك الوقت فإنه لم يعد كذلك اليوم، حيث فقد "الاحتجاج المغربي" الكثير من زخمه وجذوته وأضحى بالكاد يتحرك فيما هو رمزي (قضية البيعة، ميزانية البلاط..). وهذا يعني أن الشروط التي فرضت "الحزب الإسلامي"، وجعلت منه الخيار الوحيد الممكن، لم تعد قائمة. وبالتالي، يحتاج الأمر إلى تغيير قواعد اللعبة. ثالثا، إقدام الاستقلاليين على الدفع بمقتضيات الفصل 42 من الدستور، والزج به في معمعان الصراع الذي يجمعهم بقائد الأغلبية الحكومية. ذلك أن إقحام هذا الفصل في مثل هذا الصراع، حتى وإن كان الانطباع الأولي الذي يفيده هو أن حزب الاستقلال ليس جادا في اتخاذ قرار الانسحاب من الحكومة وأنهم لا يطلبون أكثر من تحسين وضعهم فيها، فإنه، في تقديري، يشكل سابقة، ويثير الكثير من الالتباس حول أهدافه الحقيقية. من جهة، لأنه قد يسهم في إحياء هذا الفصل غير العادي، الذي ظل نائما حتى الآن، ويمكن أن يؤشر على بداية التحضير لاستعادة "الفصل 19" السابق، وهو بالمناسبة كان "فكرة استقلالية" وبالذات من ابتكار الراحل علال الفاسي، لحيويته في حقل الممارسة السياسية التي يؤطرها الدستور الجديد. ومن جهة أخرى، لأنه يسمح بإعطاء "قراءة جديدة" لمقتضيات هذا الفصل، وعلى الوجه التحديد الجانب المتعلق منه بوظيفة "التحكيم الملكي"، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا هو المقصود من طلب الاستقلاليين، الذين ظلت صحافتهم، حتى قبل اتخاذ هذا القرار، تتحدث عن إمكانية لجوء الحزب إلى "التحكيم الملكي". فالمعرف أن هذا الأخير لا يتم اللجوء إليه إلا عندما يتعلق الأمر بصراع بين المؤسسات الدستورية (الحكومة والبرلمان)، أما الطلب الاستقلالي فيرمي إلى إقحام الملك في النزاعات الحزبية، في وقت لم تكن فيه حتى ممارسة التحكيم السابقة على دستور 2011 تذهب في هذا الاتجاه. فهذه الأخيرة، وإن كانت قد سمحت، في كثير من الأحيان، بتحويل مفهوم "التحكيم الدستوري" إلى "تحكيم سياسي"، فمع ذلك فإن المناسبات التي مورس فيها كانت تتعلق أساسا بخلافات بين المعارضة والأغلبية الحكومية، أي البرلمان والحكومة، وليس بنزاعات حزبية. وهذا يعني أننا أمام دعوة صريحة للمزيد من تقوية صلاحيات الملكية وتوسيع دائرة نفوذها السياسي والدستوري. وفي ذلك، تناقض واضح مع هاجس التغيير الذي يفترض أنها كان دافعا لوضع الدستور الجديد.