كما نسمع عن العلمانية وتحرير السياسة من تسيير الدين، ونسمع أيضا عن الحداثة وتحرير المجتمع من قيود الدين، هناك ما يسمى بالليبرالية، نسختها الجديدة: النيو ليبرالية الليبرالية الجديدة، وهي فلسفة تدعو إلى تحرير الاقتصاد، عبر الأسواق التجارية الحرة المفتوحة، والخصخصة، ورفع القيود، وخفض حجم القطاع العام مع زيادة دور القطاع الخاص في المجتمع الحديث، أي باختصار وتبسيط: بيع الدولة من الحاكم والحكومة إلى الرأسماليين. بدأ يتطور مفهوم الليبرالية سنة 1930 من قبل علماء الاقتصاد الأوروبيين للترويج لشكل جديد من أشكال الليبرالية بعد أن فقدت أوروبا ثقتها واهتمامها بالليبرالية الكلاسيكية، حيث القطاعات أغلبها في ملك وتصرف الدولة. وبدأت المؤسسات الرأسمالية شيئا فشيئا تتحرر من قواعد وتوجيهات الدولة إلى فلسفة "عدم التدخل" أو ما يصطلح عليه "اقتصاد السوق الاجتماعي"، حيث الرأسمالية تقبل ببعض الضوابط الحكومية رافضة الرأسمالية المطلقة ورافضة الاشتراكية. فيما معناه، أنه نوع من الرأسمالية الأخلاقي الذي يستثمر مع احترام احتياجات المجتمع ومحاولة مساعدة الدولة في تخفيف الأزمات الاجتماعية كالبطالة وخدمات الصحة والتعليم وغيرها، وتوفير منافسة عادلة مع قطاعات الدولة. وقد كانت أكثر دولة تبنت هذا النظام هي "ألمانيا" بعد الحرب العالمية الثانية، وتبعتها كثير من الدول الأوروبية، ودافعت عنه أحزاب ديمقراطية واشتراكية وطبقته الحكومات بالتوافق مع كبار الرأسماليين الأوروبيين، حتى ازدهرت أوروبا ابتداء من منتصف القرن العشرين إلى الآن باقتصاد السوق الاجتماعي، وأصبح الاتحاد الأوروبي قوة عالمية عظمى اقتصاديا، وصارت بلدان أوروبا ملجأ لمواطني العالم الباحثين عن نظام اجتماعي معيل، أي يكفل العاطل ويوفر الرعاية الصحية المجانية والتعليم المجاني والخدمات الاجتماعية الكاملة التي تضمن للمواطن العيش الكريم سواء كان غنيا أم فقيرا. ومنها ظهر التعويض عن البطالة وظهرت سياسة الضمان الاجتماعي، وظهر نظام التأمين الصحي، وظهر نظام التقاعد، وفي نفس الوقت خصص نظام السوق الاجتماعي هذا مبالغ ضخمة للبحث العلمي والطبي. فكان ازدهار أوروبا المبهر رهينا بالرأسمالية التي تخصص الأرباح لرفاه المجتمع. وعلى النقيض، كانت الليبرالية الكلاسيكية تتطور في أمريكا بمنحى آخر، منحى السوق الحر والرأسمالية المطلقة، التي تتنصل عن كل قيود الدولة. بدأ ذلك مع معاهدة "بريتنوودز" سنة 1944، حين استحوذت أمريكا على حق استبدال العملات بالدولار ثم بالذهب، ثم نكثت ذلك واحتكرت قيمة الذهب في الدولار مع تضخيم هائل للدولار بأن طبعت منه أعدادا هائلة أكثر من احتياطها من الذهب. وكان لابد أن تخرج الدولة نفسها من هذا المأزق بأن تفتح للشركات حرية الاستثمار المطلقة لتنقص من التضخم، وتعطيهم المساحة الكاملة لتحقيق أمثل أداء اقتصادي، بأعلى درجة من الفعالية، بأقصى حد من النمو، بأكبر حجم من الأرباح، حتى وإن استلزم هذا استهلاك كل الموارد الطبيعية وبيع أي نوع من المنتجات، واستخدام كل المواد الصالح منها والكيماوي، واستعمال الإعلام لضخ الإشهار وترويض الشعب على الشراء وفتح أمريكا بأكملها كسوق استهلاكي. فتحررت الشركات بشكل هائل وساعد على تحررها وجود التقسيم الأمريكي للولايات، أي فرض الشركات السيطرة على الأسواق تحت سياسة الولاية التي تحدد الفئات الاجتماعية وبالتالي الخصاص، وتركز الإشهار ونوعية ومستوى الاستهلاك، فاشتغلت الشركات بإفراط وأنتجت بإفراط وارتفع الاقتصاد الأمريكي بشكل مهول لتصبح أمريكا خلال ثمانينيات القرن العشرين أقوى اقتصاد على وجه الأرض، ويصبح الدولار أعلى عملة على الإطلاق! ورغم الصورة المبهرة التي حققتها أمريكا خلال سنوات قليلة استعملت فيها لغاية القوة كل الوسائل، ظهر وجه قاتم لهذه الليبرالية الجديدة النيوليبراليزم داخل المجتمع الأمريكي، حيث أنتجت سياسة الاستثمار المطلق مقابل الربح المطلق في مقابل استثمار ضئيل للدولة في الخدمات الاجتماعية انفجارا طبقيا، بين نخبة من البيض الأثرياء، خاصة منهم اليهود الذي استحوذوا على كبريات الشركات واستغلوا هذا النظام الرأسمالي كاملا لمصلحتهم السياسية، مقابل طبقات مسحوقة من السود والمهاجرين فيما يسمى "الڭيطو"، أو الأحياء العنصرية حيث تفشت الدعارة والمخدرات والجريمة، وذلك أن كثيرا من الجمعيات الحقوقية التي كانت تدعو إلى الحريات الفردية لم تأخذ بعين الاعتبار تقنين مفاهيم الحرية التي سيستغلها أميون فقراء لاستخدام الجريمة كمنفذ وتفريغ لكبت النفس من التهميش والفوارق الطبقية. خوف أمريكا من نفاذ مواردها الطبيعية، وجشعها أمام هذه الليبرالية الجديدة إلى أسواق جديدة، قصد الترويج لمنتجاتها وتوسيع شركاتها، جعلها تطور أسلحتها الحربية مقابل وسائلها الإعلامية، لأجل سياسة التوسع فوق أراضي الغير طوعا أو كراهية. وجعلت كل الطرق إلى ذلك شرعية، وحاربت كل من يحارب هذه الرأسمالية اللاأخلاقية، ابتداء بالشيوعية في روسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، إلى الإسلام في كل دولة تقنن اقتصادها ببعض التشريعات وينقص عند مجتمعها الاستهلاك بأخلاقيات الإسلام، جاعلة حربها ضد الليبرالية الكلاسيكية، حربا ضد الإرهاب. مطالبة بفصل الدولة عن المتاجرة بالدين، لإدخال التجارة الحرة. هكذا توسعت أمريكا فوق دول العالم الثالث، بتوقيع اتفاقيات بأثمان بخسة لشراء الموارد الطبيعية، واتفاقيات بمزايا واهية قصد فتح شركاتها بعروض مجانية، ووعود لتشريع البلدان كأسواق استهلاكية حرة بتبادلات دون ضرائب ودون شروط، وأدخلت جمعياتها الحقوقية باسم مناصرة الشعوب، لتنشر الحرية، وهي حرية تمحو المبدأ كيف كان إن كان يقنن الاستهلاك، وتبدله بالحرية الفردية التي توجب الاستهلاك، لتحقق أسواقا استهلاكية ضخمة، تزيد من حدة الفوارق الطبقية في كل بلد. أصبحت للشركات الأمريكية قوة اقتصادية غريبة، طبعا فاقت قوة الدولة، وصارت لها لوبيات تدافع عن مصالحها وتبتز الدولة، وتحول الحكم في أمريكا من البيت الأبيض إلى "وولستريت"، وكذلك صار في كل بلد وصلت إليه أمريكا عبر "النيو ليبرالية"، لتصبح الرأسمالية الحكم عوض حكم الحكومة المنتخبة. ولا غرابة أن نرى اليوم، أن كل أزمة اقتصادية تمس الشركات الخاصة في أمريكا تنتج عن أزمة اجتماعية خانقة، تفقد بعض الرأسماليين الغير المحصنين أموالهم، وتفقد البرجوازيين المتسلقين تجارتهم، وتقتل الطبقة المتوسطة التي تعيش على الدخل الشهري بمدخرات بنكية تضيع مع إفلاس البنوك، مع طبقة فقيرة مسحوقة في كل الأحوال. ويبدو أن "أوباما" منذ توليه الحكم حاول إنقاذ الطبقة المتوسطة من أرجوحة الربح والخسارة التي تقوم عليها الليبرالية الجديدة وتفقد في كل مرة المجتمع توازنه والدولة قوتها، بأن وقع وثيقة "إصلاح نظام وولستريت" سنة 2010، متحديا مصالح اللوبي الاقتصادي النيوليبرالي الأمريكي. ونص العقد على أن لا تعطي البنوك قروضا للشركات الكبرى لأجل الاستثمار إلا إن وقعت على اتفاقية إنتاج الجودة العالية بالثمن المناسب لضمان المنافسة العالمية وضمان البيع عند الأزمات وبالتالي تخطيها، وهو في ذاته ضمان لاستمرار الوظائف في الشركات رغم الأزمة.. وذلك مقابل ما تفعله الشركات من إنتاج أي شيء لأجل الربح والربح فحسب، مما يجعلها تخسر المنافسة الدولية عند الأزمة وتفلس وتسرح العمال وتنتج البطالة وخراب اقتصاد "الدولة". كما تحتم هذه الوثيقة على البنوك تثبيت الفائدة عن القروض وعدم رفعها عند الأزمة، ما يخنق الطبقة المتوسطة ويعجزها عن السداد فيتسبب في إفلاس البنوك وإغلاق الشركات إلى نفس النتيجة السابقة، وهي البطالة ووقف حال الاقتصاد. ورغم محاولات "أوباما" لإنقاذ الطبقة المتوسطة من هذا الوحش المسمى ب"النيوليبرالية"، إلا أن ضغط اللوبيات الرأسمالية أكبر وأقوى، ثم أن الوقت قد فات بالنسبة لأمريكا لتعود عقودا إلى الوراء وتتخذ من سوق الاقتصاد الاجتماعي سياسة لضمان "الويلفير ستايت" أو دولة الرفاه لمواطنيها، فالعقود الموقعة لاستغلال الموارد الطبيعية والأسواق الاستهلاكية من طرف الهولدينڭز وكبريات الشركات تواريخ انتهائها لازالت بعيدة جدا، مما يعطيها حق الاستمرار في نهج نفس السياسة الرأسمالية دون قدرة للدولة على التدخل لمنعها أو تبطيء سياستها. في المغرب، منذ العقود الأخيرة لنهاية القرن العشرين، وتدخل البنك الدولي بقروضه لما يسمى "بالتنمية"، تنمية غالبا لا ترمي إلى إصلاح البنية التحتية ولا إلى تحسين الخدمات الاجتماعية، وإنما إلى الاستثمار فقط، بدأ الاقتصاد في المغرب يتخذ مسار "النيوليبرالية" بشكل واضح، عبر آليات من بينها سياسة الجهوية الموسعة، وهي نفس سياسة "الولايات" في أمريكا التي تقنن المجتمعات الصغيرة وتركز فيها الاستهلاك، أو بعبارة أخرى: سياسة الفردية، التي تسيطر عبر التقسيم والتمكن من الفرد، ثم عبر الانفتاح على الاستثمار الأجنبي، وسياسية تمكين المعارضة من الحكومة لخلق نوع من التشاركية، أو بصحيح العبارة إدماج كل التيارات والإيديولوجيات وإخضاعها تحت هذا النظام الاقتصادي. وهكذا وصل حزب "الاتحاد الإشتراكي" إلى الحكومة، واليوم وصل حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكومة، كل بأيديولوجيات مختلفة ومتباعدة 180 درجة، لكن راضخة تحت اقتصاد السوق الحر والاستثمار المباشر، وبوجهة سياسية واحدة وهي محاربة الإرهاب، واجتماعية واحدة وهي الحريات الفردية. وترك حرية وجود الحركات المعارضة والاحتجاجية كله سياسة تسمى ب"الحكامة الجيدة"، تناصرها أمريكا بما أنها حكامة تتيح مجال دخول النيوليبرالية إلى الدولة، وترخص لأن يسير هذا الاقتصاد في النهاية على الكل، أحزابا كانت أم جمعيات أم فئات اجتماعية، مادامت تعمل في الشركات الخاصة وتقترض وتستهلك، ومادام لصندوق النقد الدولي الكلمة الأولى والأخير عبر شروط السداد والفائدة والسنوات التي يدين له المغرب بالمال. فالبلد في جميع الأحوال، أيا ما شكل حكومته، مدين ويعمل لأجل السداد. وجود حزب "بنكيران" اليوم على رأس الحكومة، لا يزيد ولا يغير من الأمر شيئا، بل إنه لا يفعل إلا تضعيف أيديولوجيته الإسلامية بوجوده تحت إمرة البنك الدولي، بشركات ونخبة متواطئة، وإعلام متواطئ، وجمعيات حقوقية متواطئة، وشعب مسير سلوكيا نحو الاستهلاك. ومحاولاته لإخراج المغرب من الأزمة لا تعدو عن ترقيع لعدم زيادة إخضاع المغرب لسياسة النيوليبرالية، التي تشجعها أحزاب يسارية أو أحزاب ليبرالية أخرى، وترغب بالوصول إلى الحكومة لتمكين البنك الدولي من المغرب وإخضاع المغرب كليا له. محاولات "بنكيران" اليوم لإنقاذ البلد من مزيد من القروض وبالتالي مزيد من الاستعمار الاقتصادي، لا يمكن أن يتم مع شعب معرقل لمسيرة هذا الإصلاح، بسلوكيات تحمي النيوليبراية، بتشجيع الحريات الفردية عبر تطبيقها، بالتنصل من الدين عبر إهماله، وبزيادة الاستهلاك عبر الإقبال على القروض والرغبة في التملك. أي أجندة اقتصادية رامية إلى إخراج المغرب من سياسة النيوليبرالية التي توطأ لأجلها الكل ضد الشعب، لا يمكن أن يحققها إلا الشعب نفسه، بإيصال أجندة إصلاحية إلى الحكومة ودعمها. علما أن المغرب إن كان يمر بأزمة، فأزمته الحقيقية في عدم قدرة الشعب على فهم المؤامرة التي تحاك حوله وانسياقه وراءها بسلوكيات تزيد من قدرتها عليه. ومتى ما فهم الشعب أن كل هذه المحاولات التحررية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مرماها وهدفها الأسمى هو الربح، وتحكم فئة الرأسماليين في البلاد وتسيير شؤون الاقتصاد، وتحويل الشعب عبر الحرية والمساواة الشاملة الكلية إلى مكنات متشابهة من العمال المنتجين والمستهلكين دون قيود ولا شروط، لتصير %99 من الشعب تخدم وتنتج وتشتري وتؤدي رأس المال والجهد والربح للفئة %1 من المالكين، سيستطيع حينها أن يخترق هذه المكنة ويوقف هذه السياسة الجديدة ويحدد بنفسه عبر سلوكه الاقتصاد الذي يرغب برؤيته يحكم بلده. http://www.facebook.com/elMayssa مصادر: Trandfonline : Morocco in an age of neoliberalgovernment Academia : Trade, security and neoliberal politics Wikipedia : Neoliberalism Glodem : The Global Economic Crisis and the Future of Neoliberal Federalreserve : Monitoring the Financial System