يشكل الكرسي في المتخيل الثقافي العربي دلالة رمزية مكثفة في المضمون، بحيث يمثل أبعادا ثقافية واجتماعية وسياسية في سائر المجتمعات. كما شكل أيضا أداة للاغتناء والحصول على الثروة والريع. هذا في الوقت الذي يتطلب الحصول عليه توفر الاستحقاق والمصداقية والقيام بالمسؤولية الملقاة على عاتق المسؤول المسند له المنصب أو المنتخب. وإذا كان الكرسي يمثل هاجسا للتسلق الاجتماعي والسياسي عند البعض فإنه، على النقيض من ذلك، لا يغري البعض الآخر، وخصوصا من تربى على المبادئ والقيم الفكرية والسياسية التي تشكل البوصلة والموجه، في عالم هيمنت عليه الماديات والانتهازية والتفاهة. ويتنوع مفهوم الكرسي بدلالته الرمزية كتعبير عن المنصب السياسي والإداري، ليصبح أداة لممارسة السلطة وخدمة المواطن في المجتمع الديمقراطي، أو كأداة لممارسة التسلط في المجتمعات الاستبدادية حيث تتميز بأنظمتها الشمولية التي تغيب صوت المواطن ورأيه في تدبير الشأن العام. كما يعتبر أيضا منصبا عموميا قابلا للتداول من أجل خدمة مصالح المجتمع في إطار المقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة له. لكن عندما تهيمن عقلية الفردانية والأنانية وخدمة المصالح الشخصية فإن مصالح المواطنين تتعطل وخصوصا في المناصب الإدارية والسياسية. في حين عندما يتم تدبير المنصب بروح المسؤولية وبعقلية حداثية وقيم ثقافية نبيلة يساهم الكرسي العمومي في تطور وتقدم المجتمع. ويكسب رضا المواطن لأنه يعمل على حل مشاكله ويعطيه كل الاهتمام والعناية. وقد ارتبط الكرسي في الثقافة الديمقراطية بتحمل المسؤولية لواجب مهني في الوظيفة العمومية أو تأدية مسؤولية في منصب عمومي، من أجل خدمة الشأن العام المحلي أو الوطني، مع ما يتطلب ذلك من نزاهة واستقامة وإخلاص من أجل المصلحة العامة لتحقيق الأهداف المسطرة كالجودة في تسيير المرفق العمومي وتجويد الخدمات والقرب من المواطنين والإنصات إليهم والمساهمة في حل مشاكلهم وفق ثقافة ديمقراطية منفتحة على المواطن والقضايا التي تشغله. كما يشكل الكرسي في الثقافة الديمقراطية، أيضا، منصبا ومرادفا للمسؤولية كأداة للمساهمة في حل مشاكل المجتمع والبناء الديمقراطي وأي تقصير في أداء المهام أو استغلال المنصب من أجل الاغتناء يعرض المسؤول للمساءلة والمحاسبة في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة إرساء لثقافة الحق والواجب وحماية المال العام. لكن ما يلاحظ في المجتمعات العربية هو هيمنة المتخيل التقليدي للكرسي كمنصب يجلب المنافع والاغتناء والثروة. بحيث يتم استعمال جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل الحصول عليه في ظل عقلية تقليدية لم تنفتح بعد وبشكل كاف على القيم الديمقراطية داخل مؤسسات ديمقراطية حقيقية، تشتغل بمنطق حداثي وديمقراطي. وتعبر بشكل جيد عن طموحات المجتمع وتطلعاته في التقدم والتنمية ومواكبة العصر. فانقلبت المعادلة ليصبح المواطن في خدمة الكرسي أو المسؤول بمختلف الأشكال والأساليب. ويؤدي هذا الوضع إلى تفاقم المشاكل وتراكمها دون حل، وخصوصا أمام البطء في البحث عن الحلول والبدائل. الشيء الذي يزيد من تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمواطن في المجتمع العربي مع ما يصاحب ذلك من توتر اجتماعي أو سياسي. في المقابل تعرف الدول المتقدمة تطورا وتقدما في شروطها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، على الرغم من الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي، لأن المسؤول عن الكرسي العمومي يقوم بواجبه ويجيد تدبير المرفق المسؤول عنه سواء كان موظفا أو منتخبا، لأنه يعلم أن المحاسبة تلازمه في صميم مهامه ولا بديل له من غير العمل والتفاني فيه في إطار المقتضيات القانونية المنظمة لعمله. كما أن الوصول إلى الكرسي أو المنصب يتم بشكل قانوني وشفاف ونزيه وفق الكفاءة المطلوبة. وعندما تغيب الثقافة الديمقراطية والمحاسبة يحضر الارتجال في القرارات دون الاستناد إلى دراسات علمية وموضوعية. وتصبح مناصب المسؤولية لا يتم إسنادها إلى من يستحقها. كما تصبح العملية السياسية تفرز كائنات سياسية غير مؤهلة لتسيير الشأن العام لأنها بكل بساطة لا تمتلك برنامجا وثقافة سياسية تقنع المواطنين لخدمة مصالحهم في الجماعات المحلية أو الجهوية أو البرلمان. ويصبح هاجس هذه الكائنات هو حصد الكراسي والمناصب باعتماد الدعاية والديماغوجية الشعبوية التي أصبحت للأسف مهيمنة حاليا في العالم كله وبدون استثناء. هذه الشعبوية تستغل هامش الديمقراطية والحريات المتاحة للهيمنة عن طريق الفوز بالمقاعد أو الكراسي، حتى وإن كان نصيبها من تدبير الشأن العام كارثيا ويساهم في تدهور مؤشرات التنمية والحالة الاجتماعية العامة للمواطن. إن الوضع الثقافي العام للمجتمع العربي أصبح يعاني من الهشاشة الثقافية. تنضاف إلى الأمية والجهل والتخلف الذي يزيد من تعقيد إمكانية التنمية والتقدم والإجابة عن أسئلة الواقع هنا والآن. في سياق عالمي هيمنت عليه التفاهة حسب تعبير الفيلسوف الكندي الآن دونو. هذا الواقع أنتج متخيلا ثقافيا تقليديا سلبيا للمسؤولية، يساهم في إعادة إنتاج الواقع السوسيو ثقافي دون أفق للإجابة بشكل عملي عن قضايا العصر. في هذا السياق، تتحمل النخب المثقفة المسؤولية في تحديث المجتمع عبر إشاعة ثقافة التنوير والتفكير العقلاني الرصين، لبناء معالم المجتمع العربي المعاصر القادر على الإجابة عن قضايا العصر من خلال بناء مؤسسات يكون فيها الكرسي العمومي في خدمة الدولة والمجتمع بعيدا عن الفردانية والأنانية والمصلحة الخاصة، بهدف تخليق الحياة العامة وإشراك المواطنين في التنمية والاستفادة منها. وعليه، فإن الاشتغال على الثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية وترسيخ مبادئها وفكرها وقيمها سيمكن من جعل الكرسي العمومي في خدمة المواطن عبر البحث عن الحلول والبدائل لمعالجة مشاكل المجتمع بكل نزاهة وشفافية؛ في وقت أصبح المتخيل التقليدي للمنصب العام متجاوزا بمنطق التطور التاريخي والطفرة الرقمية ومتطلبات العصر.