أشهر قياديان في حزب العدالة والتنمية استقالتهما في الوقت نفسه، أي يوم الجمعة 26 فبراير من السنة الجارية. استقالة وزير الدولة المكلف بالعلاقات مع البرلمان وحقوق الإنسان مصطفى الرميد، واستقالة عمدة فاس رئيس المجلس الوطني للحزب عضو أمانته العامة ادريس الأزمي الإدريسي. الأول طلب الاستقالة من مهامه الوزارية مع الاحتفاظ بمسؤولياته الحزبية، والثاني استقال من مهامه الحزبية مع التمسك بمناصب تمثيلية تدر عليه ملايين السنتيمات والامتيازات. شخصيا، لا أعتبر استقالة القياديين في حزب العدالة والتنمية "شيئا عجبا"، بل أرى أن توقيت إشهار الاستقالات وطريقة تصريفها وتسريبها هو المهم والأهم. في توقيت طلب الاستقالات وعددها جاء طلب استقالة وزير الدولة المكلف بالعلاقات مع البرلمان وحقوق الإنسان مباشرة بعد مصادقة الحكومة على مرسوم يتعلق بعقد دورة استثنائية للبرلمان بغرفتيه لغرض البت في مشاريع القوانين الانتخابية المؤطرة لاستحقاقات 2021، بما فيها حسم إشكالية "القاسم الانتخابي". كما يرتقب أن تصادق الحكومة في الأيام القليلة المقبلة على قانون "تقنين استعمال الكيف لأغراض طبية". ليست هذه هي المرة الأولى التي عبر فيها القيادي في حزب "المصباح" عن رغبته في الاستقالة؛ فعل ذلك أكثر من أربع مرات حسب علمي. طلب الاستقالة اليوم وفي هذا التوقيت بالذات، موجه أساسا ضد سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، وفيه ضغط هائل عليه. فقد يرفع طلب الاستقالة إلى رئيس الدولة حسب منطوق الدستور وقد لا يفعل، وفي الحالتين معا، سيكون الوزر على العثماني دون غيره. أيضا فيه إحراج لرئيس الدولة. والمثير في طلب استقالة الرميد في هكذا توقيت، مع الحرص على نشر الخبر على أوسع نطاق حتى قبل بلوغه إلى الديوان الملكي (على الأرجح)، جاء من وزير يشغل منصب وزير دولة، وهو منصب سام للغاية يفرض في مثل وضعه كياسة وحصافة. وطبعا هو منصب يفضي في الغالب إلى التقاعد السياسي (طريق المرآب كما يقول الفرنسيون). مصطفى الرميد يعلم قبل غيره أن طلب الاستقالة لن يقبل منه على الأرجح، لا من رئيس الحكومة ولا حتى من رئيس الدولة. كيف يمكن لمسؤول ووزير قضى أزيد من 480 أسبوعا في منصبه بكل "غنائمه" وبعدما لم يتبق من عمر الحكومة سوى أقل من 15 أسبوعا أن يتقدم بطلب الاستقالة والإعفاء من المهمة؟ إنها استقالة في الوقت الميت والتوقيت الخطأ. الثابت أن الخناق اشتد على حزب العدالة والتنمية وهو محاصر من كل الاتجاهات والزوايا. ومصطفى الرميد مطالب في الأيام القليلة القادمة، بصفته وزيرا لحقوق الإنسان، بالدفاع عن الحصيلة الحقوقية في المغرب التي عرفت تراجعات ملموسة في عهده. كما هو مطالب بالدفاع أمام الرأي العام والبرلمان على القوانين الانتخابية والتفاعل مع مأزق القاسم الانتخابي وتقنين نبتة "الكيف" والتطبيع مع إسرائيل الخ. أليس هو الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان؟ مهما تكن معقولية وصدقية الدواعي الصحية للرميد وجديتها التي أسس عليها طلب استقالته من الحكومة، يبقى طلب الاستقالة في جوهره مجرد "فدلكة" ومناورة مكشوفة للتهرب من المسؤولية أو على الأقل لتخفيف الضغط الذي يعيش تحته. ضغط "التناقضات المفجعة "والصمت المريب مقابل الامتيازات. مصطفى الرميد مدرك تمام الإدراك أن "طلب استقالته" لن يمر ولن ينطلي ميقاته على أحد، ولكن على الأقل يكون قد كسب "أجر المطالبة بها" على أمل تحويله لاحقا إلى درع واق أمام ما ينتظره في القادم من الأيام من انتقادات لاذعة بسبب التدبير الحكومي، وهي انتقادات متأتية من قواعد الحزب ومن الرأي العام. طلب استقالة لرفع الحرج راهنا ومستقبلا ولكسب نقط لغرض حسابات تنظيمية في الداخل الحزبي. استقالة ادريس الأزمي تشبه كثيرا استقالة مصطفى الرميد، مع اختلاف في بعض الأهداف والمنطلقات. فالأزمي، الذي ترأس المجلس الوطني الأخير لحزبه، تيقن أن الحزب لم يعد كما كان وأن سلطة التيار الدعوي/الحركي (حركة التوحيد والإصلاح) داخله بدأت تتآكل وتفقد مساحات لصالح "التيار الحزبي". وهي فئة المستفيدين الجدد من مغانم السلطة في الجماعات والدواوين والوزارات وباقي المؤسسات التمثيلية المنتخبة وغيرها من المجالس الإدارية. تميز المجلس الوطني الأخير لحزب العدالة والتنمية بكثرة الغيابات والصراعات والمشاحنات، وبروز انشقاق واضح في الحزب بين جماعتين. بعد المجلس الوطني، هبت قيادات الحركة والحزب لعقد اجتماعات مكثفة ومتواصلة لغرض التصدي وامتصاص الضغوط الممارسة على الحزب وهو مقبل على الانتخابات. وكل المؤشرات التي تجمعت لدى قيادات الحزب تفيد بأن الوضع الداخلي مقبل على الانفجار، استقالات بالعشرات، انكماش الانخراطات، تراجع أنشطة القطاعين النسائي والشبيبي، كما سجل تراجع أيضا في النشاط النقابي وانهزام الحزب في كل الانتخابات الجزئية مع ارتفاع وتيرة المتابعات القضائية في حق مجموعة من رؤساء الجماعات المنتمين إليه. إحراج ومأزق أمام هذا الوضع، رتب محمد يتيم لقاء بين بعض قيادات النقابة الموالية للحزب (الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب) مع عبد الاله بنكيران في بيت هذا لأخير، أملا في تجاوز انتكاسة المجلس الوطني الأخير للحزب وتطويق تداعياته، خاصة بعد التطبيع مع إسرائيل؛ اذ وقع زلزال داخل الحزب، خصوصا داخل حركة التوحيد والإصلاح. يمكن اعتبار خرجات بنكيران محاولات جس النبض للعودة إلى الساحة، أو هي مطاردة مزدوجة ل"سقطات" العثماني ومحاولات ظهور حميد شباط مجددا في الساحة السياسية. وفي كلتا الحالتين، فقد بات في حكم المؤكد أن بنكيران فقد الكثير والكثير من قوته. نعم مازال يحظى بمكانة داخل الحزب لكنها في حدود المجاملة لا أقل ولا أكثر، ومن غير الطبيعي ولا الواقعي عودته إلى سابق عهده. تأسيسا على ما سبق، وتفاعلا مع ما يروج داخل حزب العدالة والتنمية، ألقى ادريس الأزمي استقالته على إخوته، لغرض إحداث "صدمة" في قواعد الحزب. وقد يراد من طلب الاستقالة من رئاسة المجلس الوطني والأمانة العامة للحزب، إعادة فتح النقاش وترتيب القواعد الناظمة في أفق الانتخابات المقبلة، ولم لا تنشيط الماكينة الحزبية بتقنية "التجييش بالصدمة". هي مناورة تنظيمية، أتوقع أن يخطو عمدة مدينة فاس نفس خطوة وزير الدولة ويتراجع عن استقالته. وفي هذه الحالة، يستعيد التيار الدعوي/الحركي زمام المبادرة أمام زحف التيار الحزبي الذي أخد مسافة شبه كاملة مع فكر حركة التوحيد والإصلاح وأصبح أقل ارتباطا بها وبأنشطتها. نحن إذن أمام استقالات تكتيكية، تروم تنفيس الضغط ومحاولات فك الطوق والحصار والهروب إلى الأمام. مناورات أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة أن صقور حركة التوحيد والإصلاح غاضبون جدا ومتذمرون من تصرفات "التيار الحزبي" الذي بالغ في التنازلات واسترخص مبادئ ومرجعيات الحركة مقابل المناصب وامتيازات السلطة، على حد زعمهم (موقف الحزب من إصلاح التعليم واللغة العربية والقوانين المرتبطة بذلك، التطبيع مع إسرائيل، تقنين الكيف (المخدرات)، الإعدام والحريات الفردية...). لن يكون مفاجئا، تراجع مصطفى الرميد عن استقالته، كما قد يتراجع الأزمي بدوره عن طلب استقالته. يعلم قادة حزب العدالة والتنمية وقيادات حركة التوحيد والإصلاح قبل غيرهم أن الانتخابات المقبلة وتداعياتها ستكون حاسمة في مصير ومستقبل الحزب والحركة معا. ففيما يشبه رد الفعل والهجوم المنسق، خرج خمس من قيادات الحزب وفي اليوم نفسه تقريبا خرجات إعلامية كلها طمأنة ورفض لتقديم مزيد من التنازلات. كما يعي جيدا قادة التنظيمين (الحزب والحركة) أن شعبيتهم هوت كثيرا، وأن قواعدهم دخلت في احتراب سري وعلني، وأن موقعهم التفاوضي مع الدولة هش للغاية ولا يقارن بما كان عليه سلفا. وبين المتشبث بالحركة والآخر المتمسك بالحزب، بدأت تتسع الهوة وتزداد حدة الصراع الداخلي والتطاحن حول الشرعية والمستقبل. ولكي نقترب من الصورة أكثر، نضع النقط الخمس التالية: أولا، خلافا لانتخابات 2011 و2016 التي ضمن فيها حزب العدالة والتنمية الفوز بالانتخابات حتى قبل إجرائها، فان انتخابات 2021 لا تضمن للحزب لا المكانة الأولى ولا حتى الثانية ربما. أي إنه منافس على الصدارة مع أحزاب أخرى، وقد لا يتجاوز عدد مقاعده 60 مقعدا. يمكن لحزب "المصباح" الفوز بالمرتبة الأولى، هذا احتمال وارد، ويمكن أيضا أن يفقد الصدارة، وهذا هو الفرق بين الانتخابات القادمة والسابقة. ثانيا، فقد الحزب سيطرته على الساحة الحزبية والإعلامية. فلم تعد خرجات الأستاذ بنكيران تحظى بالشعبية الواسعة، ولا الفرق الإعلامية للحزب تنشط بالفاعلية نفسها التي كانت عليها (تحديدا شبكات التواصل الاجتماعي). استبعاد اكتساح حزب العدالة والتنمية للجماعات والمؤسسات المنتخبة كما كان عليه الأمر سابقا. انشطار التنظيمات الموازية وتجميد أخرى لأنشطتها، خاصة القطاع النسائي الذي كان فعلا ماكينة حقيقية داخل الحزب، قبل أن تتآكل قوته ونشاطه بعد ما سمي ب "فضيحة تبرج باريس لأمنة ماء العينين". لقد كان وقع هذا الحدث كبيرا جدا وأحدث رجة هائلة داخل الحزب، خاصة "اهتزاز الثقة الداخلية" بين المناضلين والمناضلات والعائلات. ثالثا، استمرار نزيف واستقالات المستشارين والمناضلين في العديد من الفروع الحزبية داخل المغرب وخارجه. انكماش قاعدة الانخراط، تراجع أنشطة القطاعات والعمل الإحساني والدعوي. التراجع الحاد على مستوى المتعاطفين مع الحزب، بل إن هذا التعاطف تحول إلى غضب وتهجمات علنية ضد الحزب وقياداته، ولا يخفى في هذا الصدد التأثيرات المباشرة لتقاعد بنكيران وتضرر صورته (تحديدا عند الطبقة المتوسطة وجمهور العاطفين). باختصار، أضاع الحزب جاذبتيه التي كان يتمتع بها، حتى تحول إلى عبئ على المشهد السياسي، حسب رأي عدد واسع من الرأي العام، وهو ما قد ينذر بأن الحزب قد يصاب بصدمة خلال نتائج الإنتخابات المقبلة. رابعا، عزلة الحزب الداخلية والخارجية. تآكل الخطاب السياسي وشعارات الحزب من محاربة الفساد والاستبداد. تضرر صورة الحزب وثقة الجمهور بسبب هزالة الأداء الحكومي وتواضع نتائج الأداء على مستوى الجماعات المحلية (تدبير الجائحة وفيضانات الدارالبيضاء وطنجة نموذجا). التناقض الصادم بين الفعل والممارسة. انطفاء جذوة تأثير الخطاب الديني والمرجعية الإسلامية كآلية للتأثير والاستقطاب والاقناع. خامسا، شيوع ثقافة الإثراء السريع وهاجس المكاسب المادية والترقي الاجتماعي بتوظيف "الريع الحزبي" مع اقتناص الفرص "الهمزة" بدل الانتصار للمرجعات الناظمة لحركة التوحيد والإصلاح، حتى إن المناصب التمثيلية تحولت إلى هوس لدى العديد من قيادات الحزب. ونحن نرسم هذه النقط الخمس، لا بد من الإشارة إلى أهمية تغيير السياق الدولي والإقليمي الذي أصبح معاكسا تماما لحزب "المصباح" ومتجاوزا لنخبه وأفكاره. كما وجب استحضار استهلاك الحزب لمدة زمنية طويلة وهو يدبر الشأن الوطني والمحلي، حيث النتائج في العموم متواضعة للغاية قياسا على ما أخذه وحصل عليه الحزب وتوفر له من إمكانيات. ومادام الشيء بالشيء يذكر، نشير كذلك إلى حرمان حزب العدالة والتنمية وقياداته من "كيس اللكم" والهدايا المجانية التي غالبا ما ينجح في استثمارها لصالحه. فقد كسب الحزب فيما مضى الكثير من الأصوات والنقط بسبب الخرجات والمواقف "البئيسة" لكل من حميد شباط، ادريس لشكر، والياس العماري، وقت كانوا في المعارضة ومسيرة "زروال" وغيرها. نتذكر كيف اشتغل وتهكّم بنكيران وقيادات حزبه على "لشكر، الياس، شباط" أكثر من اشتغالهم على البرامج الانتخابية ونجحوا ببراعة في تحويل الأنظار مع غير قليل من السخرية والاستهزاء بالخصوم وأخطائهم. واليوم، مفهوم جدا هذا الصمت والغياب الطويل لإدريس لشكر (الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، ولحميد شباط والياس العماري، وكيف يحاول الأمين العام الجديد للأصالة والمعاصرة عبد اللطيف وهبي، ونزار بركة، الأمين العام الحالي لحزب الاستقلال، عدم منح فرصة للعدالة والتنمية وتحويل حزبيهما إلى "أكياس للكم". في المقابل، تحولت وجهة الضرب والهجوم وبدأت السكاكين تشحذ بين الإخوة والأخوات داخل حزب العدالة والتنمية، والمرجح أن القادم من الأيام، ونحن على مقربة من سنة انتخابية، ستعرف مزيدا من الصراعات والتطاحن الداخلي حول المناصب والمقاعد. لا شك أن انتخابات 2021 هي محطة سياسية استثنائية في تاريخ المغرب المعاصر، مفتوحة على أكثر من احتمال وبرهانات بالغة متعددة ومعقدة. حكومة 2021 عليها تدبير مرحلة ما بعد " كوفيد-19′′ بكل ثقله الاقتصادي والاجتماعي، وعليها ثانيا أن تكون قادرة على إنجاح نقل المغرب إلى عالم جديد ماتزال خطوطه ملتبسة ومفتوحة على كل الاحتمالات. وعليه، فالمطلوب من انتخابات 2021، حكومة نجاعة ومصداقية وتحدٍّ، لا حكومة ترضيات وتسويات رقمية؛ حكومة "المغرب الجديد"، أي أن تعبر بالبلاد إلى بر الأمان، وسط محيط إقليمي ملتهب وعالم متقلب يجنح إلى الحرب أكثر من جنوحه إلى السلم. والجميع يترقب خلاصات وتوصيات لجنة النموذج التنموي، فمن المفيد والحالة هذه أن تتساوق مؤسسات الدولة مع نفس جديد بوجوه جديدة وآمال متجددة. يمكن اعتبار توصيات–خلاصات "لجنة النموذج التنموي" نموذجا مستنسخا ل"تقرير الخمسينية" الذي على مجاديفه وصلت سفينة العدالة والتنمية إلى الحكومة والهيمنة على المؤسسة التنفيذية والتشريعية والجماعات الترابية. تنتظر حزب العدالة والتنمية محاسبة عسيرة عند الرأي العام والناخبين خلال الاستحقاقات القادمة، ويستشف من المعطيات المتوفرة إلى حدود الساعة أن محطة الانتخابات المقبلة ستكون بداية تفكك ونهاية اكتساح حزبي دام عشر سنوات كاملة. ويبق السؤال الأهم من تداعيات الاستقالات داخل حزب العدالة والتنمية هو: هل ستحافظ حركة التوحيد والإصلاح على درعها السياسي حزب العدالة والتنمية أم ستفك الارتباط معه (أو على الأقل مع بعض قياداته) وتعود إلى شأن الدعوة وفعل الخيرات بدل الاقتتال من أجل عدد مقاعد الانتخابات ومنافع الوزارات أم إن الحركة ستنجح في استعادة المبادرة مع الاحتفاظ بوزنها في المشهد السياسي والحزبي المغربي؟ في انتظار ذلك، سيجد سعد الدين العثماني نفسه في موقف لا يحسد عليه، وقد يتواطأ إخوانه ضده ويدفعونه كبش فداء وقربانا لعقد دورة استثنائية للمجلس الوطني للحزب قد يتمخض عنها مؤتمر وطني سابق لأوانه وكل العيون شاخصة لانتخابات لن تكون عادية على الاطلاق.