حين بلغني أن دُمية من أنجب ما صُنِع على أعين الغرب "سَتُدَنِّسُ" أرض المغرب احتفاء بها واعترافا بفضل "الشاعر" على "الثقافة العربية" وعلى "الأدب العربي الحديث"؛ لم يحرك فيَّ الأمر ما كان يحرك من قبلُ، فإني قد اعتدت أن أسمع مثل هذه الأخبار في كل آن، وقد مضى عليَّ دهرٌ كان يقضُّ مثلُ هذا مضجعي، فلما كثُر ألفته: وَهَانَ. فَمَا أُبَالي بِالرَّزَايَا لأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالي !! ونعم، فقد استشرى هذا في الأمة حتى صار –من كثرة ما روج له الإعلامُ_ مستساغا في قلوبنا أن نُرمى فلا نألم، ومقبولا أن تُغتالَ ثقافتنا في أنفسنا فلا نحفل حتى اختلط هذا بدمائنا، وامتزج بطبائعنا؛ فقد تغيرت المفاهيم والمعايير في أذهاننا فصار الصدقُ كذبا والكذب صدقا، والحق باطلا والباطل حقا... وأي فسادٍ أكبر من هذا؟ وإذا انهارت أصول الأمة في نفوس أبنائها فأي شيء يأتي بعد ذلك لا يمكن أن يكون إلا تحصيلَ حاصل. فمن أجل ذلك تكون أغلب هذه المعارك التي نشهدها الآن في ساحاتنا الأدبية والفكرية –الفاسدة- معارك وهمية لا تثبت حقا ولا تنفي باطلا. وما أرى أحدا ظلمَ الأمة أكثر مما ظلمها المنتسبون إليها ممن تدفعهم الغيرة للدفاع عنها، فيوقعهم مَنْ ينازلون في ساحته، فيفرض عليهم قوانين الحرب كما شاء، ويملي عليهم أخلاق النزال فتجرهم الحمية إليها، فإن انتصروا فَوَهْمٌ، وإن هُزموا حُسب على الأمة انهزامهم. ولو أنهم نظروا في الأمور من أصولها، ورجعوا في كل مشكل يعترضهم إلى أساسه، لبطل كثير من هذه المعارك الزائفة المختلقة اليوم باسم الدين والدفاع عنه... ولرأيتَ فلول الغزاة تنسحب ذليلة. لأن أغلب المعارك يثيرها انصراف أبناء الأمة عن النظر في أصل المشكلة إلى فحص أمر فرع من فروعها، فما ينتهون منه حتى يرون فرعا آخر قد أصابه ما أصاب صاحبه، وهكذا... ولو أعملوا العقل لعالجوا الأمر من جذوره فأصلحوه في أذهانهم أولا، ثم في أذهان من يخاطبون، فإن لم ينفع العلاج والكيُّ استأصلوه فينتهي الأمر إلى غير رجعة إلا أن يشاء الله – ثم لم يكن بعدُ داع لأن يقف الواحد منهم في ساحة المعركة ينتظر أن ينافره أحد فيردَّ عليه... لأن ذلك فعلُ العاجز الضعيف الذي لا يملك إلا أن يقول للناس: إني لستُ ضعيفا، ولسان الحال أبين من لسان المقال !! إنه لم يقتل هذه الأمة العظيمة شيء بعد انتكاستها أكثر مما فعل بها التحزُّبُ وردة الفعلِ وطغيان الأحلام المجردة!! فالتحزب فرق فيها ما لم يفرقه الثلاثي المتلازم المدمر: الاستشراق والاستعمار والتبشير، وجعل أيام أبنائها وحياتهم كلها في أمرين: إما أن يفتعل الأعداء أو من يناصرهم ويتودد لهم من بني جلدتنا شيئا فيهب إليه كلٌّ منهم يسبُّ ويشتم وينتقص... ثم يمسكُ، وإما أن تضع الحرب أوزارها فيعود بعضهم إلى بعض يتلاومون ويختلقون حروبا بينهم لا أساس لها إلا حبُّ الرياسة، وهم يرونها –فيما يصور كبارهم وفقهاؤهم- أصلَ الأصول... لأنه لا بد من صراع لتستمر دورة الحياة، فإن لم تكن مع عدو حقيقي أو مصطنع، فلتكن مع أخ نجعله عدوا حتى يكشف لنا الزمان عن عدو آخر نتلهى به. ومن أجل ذلك لا تجد لهذه الأحزاب والجماعات - ولا أخص أحدا ولا أستثني- حَيَاةً تنفع الأمة إلا في الأزمات حين يُحكٍّمون سلطان العقل فيوحدون قُواهم لمحاربة العدو. فإذا انقضتْ الحرب كانوا همُ الأزمةَ. وهذه وحدها لم يستطع المستعمر أن يفرضها عليهم بالقوة، وكم جهد نفسه ليزرعها في جسد الأمة فلم يظفر بطائل، فلما تولى عنهم عمدوا إلى تلك البذور التي خلَّف فحرثوا الأرض وزرعوها، فهم يسقونها اليوم من دمائهم وإيمانهم وأنفاسهم... فأي حظ كان مع المستعمر؟؟ !! وأما ردة الفعل فأمرها أشنع وأخبث. فأغلب ما تراه اليوم من أفعال المسلمين ليس إلا ردات أفعال حين يُهَيِّجُهم العدو إلى شيء، فيندفعون إليه. ويعود هو إلى الخلف ينظر آثار لعبته فيهم ضاحكا مستبشرا بما فعل. فإن شئتَ أن تتحقق من هذا، فانظر إلى أكثر هذه المعارك الوهمية التي تدور في ساحاتنا تجدْ أنها في الحقيقة ليست شيئا في أصله. وإنما نفخ فيها وفي من تولى كبرها أبناءُ الأمة المندفعون فصنعوا منهم أبطالا. ونفخوا في نارهم فشبتْ على ما يريد هؤلاء ونحن غافلون. ودونك تلك الأفلام "المسيئة" والتصريحات التي تنبئ عن جهل بعض المتجرئين على الأمة، أ ترى أنها كانت ستكون شيئا لو لم يلتفت إليها أحد؟؟ أ ترى سيكسب مَنْ وراءها هذه الشهرة الزائفة التي أكسبناهم بجهلنا واندفاعنا؟؟ لا والله، ما يصنع بنا الأعداء أكثر مما يصنع بنا الاندفاع وراء ما يريد الساعون لمحو آثار هذه الأمة العظيمة من الوجود !! والناظر في حقيقة الأمة اليوم يجد أنها في زمن لا تنتج فيه غير النقد والانتقاد. وليست لها صنعة غير الطعن في كل ما يأتيها من خارج حدودها، ظنا من الذين يتولون النقد أن ذلك يدفع عنهم وعن الأمة خطر العولمة وخطر العدو المحدق، ولكن هذا الأمر لا يزيد على أن يكون حملة إعلامية لما هم منتقدوه، ثم لا يكون له من بعد ذلك أثر إلا قليلا، ف"شُخْبٌ في الإناءِ وشُخْبٌ في الأرضِ" كما يقول المثل. فما أتت به العولمة مما يفسد شبابَ الأمة ويهلكهم ويضعف فيهم الغيرة والحمية، لا يمكن صده بالطعن فيه فقط، فإن الشباب لا يقنعهم إلا أن تأتيهم بما تطيب به نفوسهم وترتاح له تماما كما يجذبها إليه هذا المنتوج غير الشرعي. فلا يكون للطعن معنى ما دام غير ذي أثر. فالانتقاد وحده لا يقدم شيئا ولا يصرف ضررا، فإنه إلا يكن دعاية للشر فإنه لا يدفعه. فإذا أتانا مبتدع بما لا أصل له في أمتنا ولا فصل مِنْ سُوءِ أخلاقٍ، وتجرئٍ على المحرم، وتجاوزٍ لكل الحدود، لم يكن من هؤلاء إلا أن يردوا عليه يسفهون رأيه، ويدفعون بالكلام فكرةً هو أثبتها بلذتها في عقول لا تميز الفرق بين الحسن والقبيح، فهي مستقرة فيها، لا تتزعزع إلا أن يدفعها شيء أكبر مما أقرها في تلك العقول. وقس على ذلك. ولا شيء يخرجنا من هذه الحالة إلا أن ننتقل من ردة الفعل إلى الفعل، فلا يكون من شأننا أن ننتقد كل شيء فاسد، أو كل شيء يخالفنا ويخالف أصول الأمة، ويخالف عاداتنا وتقاليدنا وأخلاقنا وثقافتنا، بل علينا أن نقدم بديلا عن كل شيء نرفضه، يكون قويا بما يكفي ليلفت انتباه هؤلاء الذين غرهم هذا الشيء الفاسد المفسد، وكلما قوي هذا الفعل آتى أكلَه. فلم يعد اليوم جائزا أن نهاجم الأدب السافل، فيكفيه من وصفه أن يكون سافلا، ولم يعد مسموحا لنا أن ننتقد الفن الوضيع في نظرنا لنسقطه، فوضاعته لا تدع لامرئ أن يلوث أوراقه بذكره، وما يكون السعي لإسقاط هذا الفساد المدمر، وهذا الإبداع الحيواني السافل بالطعن فيه إلا إعلانا عنه لمن لم يره بعد، ولا يكون تشهيرا به يحذر الناس منه. ولكن وجب أن نسقط هذا الذي نراه فسادا بعمل يصرف عنه الناس، ويدفعه عنهم، فإنه متى رأوا عملا عظيما نظيفا لم يكن لهم بد من الاهتمام به تماما كما اهتموا من قبل بأمر الآخر. ولا يكون العمل عملا حتى يلفت الناس إليه، ولا يلفتهم حتى يكون له من الإبداع والإمتاع نصيب وافر، ومن الحلاوة والطلاوة مما يجذب إليه القلوب والعقول الشيء الكثير. وهذا ما تفتقده الكثير من أعمالنا التي نقدمها للناس على أنها بديل للغناء الفاسد أو الفن الساقط أو الأدب السافل. فمناط الأمر كله أن نحسن تقديم الإبداع كما يحسن المفسدون تقديمه، ونجتهد في تنميقه كما يجتهدون، ونشقى في سبيل أن يصل كما هو كما يشقون، ونكابد في سبيل أن يقع منهم موقعا حسنا كما يكابدون. هذا وجهٌ في ردة الفعل، أما الوجه الداخليُّ الذي ينخر جسد الأمة من داخله كما تدمرُه الأولى من الخارج ففي هذه الاتهامات التي ترى الجماعات والأحزاب يرمي بعضها بها بعضا، وتطالعنا بها الأخبار كل يوم فيفرح بها قوم يريدون الفتنة، ويضيع قوم مندفعون للدفاع عن الأمة وقتا ثمينا في الرد على سهام إخوانهم في الدين والوطن. ولهذا أسباب ليس هنا محل ذكرها. (وقد شرحنا هذه الأشياء في كتابنا المطبوع في بيروت: "سحر الأدب ... الأدب مدخلا إلى النهضة"). فإذا نظرتَ في هذه الأزمات التي تمر بالأمة يوما، فلا بدَّ أن تجدَ لها بهذا الذي ذكرتُ صلة وسببا. ولو وقفتُ أعدِّدُ ما كفى وقت ولا مكان ليحصى هذا، ولكنها إشارات خاطفة إذا فُهمت أمكن أن يبنى عليها كل ما يتعلق بها. ويكفي أن تكشف عن العقل غشاوةَ الفساد المستبد في حياتنا الأدبية اليوم، وتبني الأشياء على أصولها الصحيحة بناء أساسه العلم والمنطق، ثم تدعه هو يكتشف زيفها من صحيحها بنفسه، دون أن تكره أحدا على شيء. وعلى هذا بُنيَ الإيمانُ. وهذه الأزمات واحدة من اثنتين: آثار معارك قديمة وبذور زرعتْ منذُ زمن، فنحن نحصد نتائجها الآن. وهذه تحاربُ بالعقل لتنتهي. ومعارك مفتعلة الآن لتعطي نتائجها غدا، وهذه التي كنتُ أعني من قبلُ. فمنها ما يجب أن يواجه بالتجاهل، ومنها ما وجب أن يُردَّ عليه بالعقل ويواجه بالحزم لا الاندفاع وحده حتى لا ينفلت زمام الأمر منا فنقعَ في مزالقها كما وقعنا في مزالقَ من قبل هذا كثيرةٍ. والأهم في هذا: أن الاندفاع لا يدفعُ مَكروها، ولا يُحِقُّ حقا أو يبطل باطلا، وإنما يصنع لمن تحارب هالةً لا يستحقها، ويحيطه بقوم يتعاطفون معه إن جهلا وإن جهادا في سبيل نصرة كل ما يهدم كيان الأمة، فتكثر من أعدائك، وتشكك مَن حولك حين تخطئ في صدقِ ما تقوله، بل ربما مال عنك إلى من تعادي, وتنَفِّر الناس من حقيقة دعوتك في الوقت الذي تظن أنك فيه على الطريق المستقيم. وأغلبُ أهلنا غفر الله لهم ممن لا يجيدون إلا السباب ينقلبون من معاركهم تلك كما عاد من قال: "أَوْسَعْتُهُمْ سَبا وأَوْدَواْ بالإِبِل". ثم إن المعركة بين الحق والباطل معركة بين الأفكار وليست بين أشخاص بأعيانهم، ويجب أن ندفع في كل معركة الأُسُسَ التي تحرك تلك العقول، وليس أن نذهب كل مذهب في السباب والشتم، لأن الذين نحاربهم ربما وقعوا في شباك تلك الأفكار المدمرة جهلا منهم أو تهاونا أو تغريرا بهم، فإن كان هذا؛ فلا يجوز أن نظلمهم كما ظلمهم من أوقعهم. ومتى واجهنا الفكرة التي نحاربُ بالعلم والعقل والبرهان والدليل، فإنها متى سقطت سقط معها كل بناء بُنيَ عليها. أما حين تهزِم من يُمَثل ذلك الفكر وحده، فأنت تعَلِّم من سيحاربك بعده مِنْ أصحابه كي لا يقع في الأخطاء التي وقع فيها صاحبه. فلتكن المعركة إذن على طريقها الصحيح حتى تثمر. قد أطلتُ في هذا، وجار بي هذا القلمُ الجموحُ، وجَرَّني إلى ما شاء دون ما قصدت إليه. وقد كنتُ قدرتُ أن أكتبَ في ما بدأتُ به المقالة، لكن الأحداث المتسارعة من حولنا تدعوني لأقول كلمة عسى أن تجد لها صدى في قلوب أبناء هذه الأمة، فتحركهم نحو المنهج الصحيح للدفاع عن الإسلام والمسلمين. فليعذرني القارئ الكريم، فلستُ أملك من أمري شيئا، إنما هذا القلم هو من يقدِّر فيسير على ما قدَّر فأتبعه. ولا حول ولا قوة إلا بالله. حينَ سمعتُ أن "الشاعر" سيحُلُّ ضيفا على المغرب، لم يستفزَّني الأمرُ لأني تعودتُ على ما هو أشنعُ، ولأني أعرف أن القضيةَ ليستْ في "هذا" أو غيره ممن باركتهم يد الحداثة وبعثتهم رسلا إلى شعوبهم. لينقذوها من "ظلام الجهل والتخلف"، ولا في هؤلاء الذين ينصبون لهم قبابا ويستقبلونهم فيها استقبال الملوكِ. ولا في هذا الشعب المسكين الذي ستراه غدا يصفق ل"رسول الحداثة" ويأخذ صورا معه، ولا في هؤلاء الذين سيحجون إلى حيثُ يُستقبل الرسول فينقلون إلى إلى الناس خطبه وآخر ما نزل عليه من "الوحي". وإنما القضية في أصل هذا البلاء الذي صرف العقول عن النظر في حقائق الأشياء، وشوه الحقائق في النفوس، فإنما هذه الأشياء التي نراها الآن وسائل لا غيرُ لتمكين ذلك المشروع في نفوسنا، وإنما هؤلاء الذين نراهم الآن يبشرون بالحداثة دُمى لا ينبغي – في الحقيقة - أن نلتفت إليها في ذواتها لأنها لا تملك لنفسها شيئا إلا بقدر ما تُشحنُ فتتحركُ وتتلفتُ وتصوِّتُ، ثم ما تلبثُ أن تسكنَ حتى تُدفع من جديد- وإنما وجب أن يكون الأمر مع من يحركها لأنه هو الذي ملك مفاتيحها وسر عملها على الوجه الذي نرى. وقد انصرفَ أهلنا إلى هذه الحركات المثيرة لتلك الدُّمى، وأغفلوا التماس الطريق الصحيح إلى فهم الظواهر على حقيقتها، وفي ذلك ما يُرضي هذا العدو ويُطربه: فَقُلْتُ: أَ ظَنَّ ابنُ الخبيثَةِ أَنَّنِي شُغِلْتُ عنْ رامي الكِنَانَة بالنَّبْلِ؟ ! ومضيتُ كأن شيئا لم يكُن، ودأبي كلما بدا لي شيء مثل هذا أن أرَدِّد ما كنتُ أقول: دُمَى الغَرْبِ في أرضي لَهُنَّ دَبِيبُ وصَوتٌ كَكُلِّ العالمين.. عَجِيبُ !! هَواءٌ، وعَيناها تدورُ بمَحْجَرٍ جَمَادٌ، ويبْلَى جِسْمُهَا.. وتَشِيبُ !! إذَا صَوَّتَتْ –كالبَبَّغَاء- فَبِالذِي حَشَاها مُرَبٍّ، ما لَهُنَّ قُلُوبُ فَمٌ تَلْدَغُ الأسماعَ منه –برُغْمِهَا- أفَاعٍ لها في المخزِيات دَبيبُ حتى إذا انبرى أستاذنا الفاضل "عبد العالي مجذوب" في رسالته "المختصرة" التي سماها "إلى المعجبين بأدونيس من أبناء المسلمين وبناتهم" ليكشف للناس عن حقيقة "رسول الحداثة"، وقرأتُ مقالته الكاشفة َ المبيِّنةَ، فعُدتُ إلى نفسي وعادتْ إليَّ كل صور الهموم والآلام التي تنصبُّ على أبناء أمتي من حيثُ لا يدرون. وتصورتْ أمامي كل صنوف العذاب الفكري الذي يمارس علينا بكرة وأصيلا، وعادتْ أشباح الدمى تتحرك أمامي وتتحدثُ وتكبرُ وتشيبُ كأنها من بني البشر !! وهذا الضربَ من المعارك الضاربة في عُمق الثقافة أشدُّ فتكا بالأمة من تلكَ التي تبدو لنا واضحة المعالم من باب "الإساءة للإسلام" و"تشويه صورته". لأن المواجهة المسلَّحة في ما علَّمنا التاريخ لا بدَّ أن ينتصر فيها المظلومُ، ولكن حين تحتال على خصمك حتى تشغله عنك بأخيه فيومئذ وقعتِ الواقعة. والمقالة قيِّمة، بذل فيها أستاذنا الكريم جهده لبيان حقيقة هذا الذي ارتضى لنفسه اسما مشتقا من "الدنس"، وكشف الغشاوة عن وجه يحاول الإعلام دائما أن يطمسه حتى يستمر الفساد في نفوس أبناء الأمة وهم يرونه تقدما وصلاحا وحداثة. فهل يأذن لي أستاذي أن أُعقب على مقالته الجليلة، فأوافقه في الغاية وأخالفه في المنهج؟؟ وهل يشَرفني الأستاذ فأشاركَهُ ببضاعتي المزجاة في بناء هذه المقالة على قواعدَ تعيد للأمة هيبتها، وتسقط أقنعة الوهم، وتعَبِّد الطريق أمام من يسعى لدرك الحقيقة؟؟ فإما قبلتَ مني هذا التطفلَ، فتفضلا منك. وإما رفضتَ فكانَ كلاما عابرا كسحابة صيف سرعان ما تنقشع. ولستُ في مقام التقييم أو التقويم ولكني قارئٌ أخَذَتْهُ الحمية لنصرة أمته. فعسى أن يشفع ليَ الحِلمُ إن لم ينفع العلمُ. بَدَأَت المقالة قلقَةً كأن كاتبها غير مقتنع بأن الناس سيسمعون ما يقولُ، فأخذ يحَدد الذين يوجه إليهم خطابه، ويقسِّم من سيتلقى المقالة إلى أصناف. وكأني به كان كلما كتب سطرا تخيل التعليقات "المستفزة" تنهال عليه من كل جانب، فيتوقف حائرا في أمره، ثم يندفع من جديد "هذه كلمة صريحة وقوية لن تعجب اللادينين..." محاولا أن يخرج هؤلاء من دائرة نقاشه ويبعدهم عن تفكيره حتى يستقيم له نظم الكلام ونسقه، وإن كانَ عالما أن الذي يتحدث عنه ساع لنسف فكرِ هؤلاء، فمن الطبيعي أن يسعوا لتفنيد ما يقول إنْ حقا وإنْ بالباطل. ولم يستطع أن يتفلت من سلطان تلك الحيرة، وقد تعرض من قبلُ لكثير من النقد، فهو يعترف من حيث لا يشعر أن هذا حقا يضايقه، وهذا وحده يخلق متعة لهؤلاء. فقد فتح لهم بابا للطعن في ما يكتب سواء بالجد أو الهزل. وما كان عليه أن يفعل "ولو تُركَ القطا لنامَ". وثانية: أحبُّ أن تكون على ذكر أستاذي الكريم دائما أن من يتلقى كلمتك القيمة هذه ثلاثة أصناف من الناس: عالم بالحقيقة التي تحاول أن توصلها من خلال المقالة، وجاهل بالحقيقة، ومتجاهل لها. فالأول: صنف المتجاهلين: وهم قوم إما من أعداء الأمة أو من أبنائها الموالين للأعداء، يعمدون إلى حقائق فيشوهونها كيما يزل بها من يخاطبون، ومنهم قوم علماء تحركهم أهواؤهم، والهوى داء متى ابتليت به أمة هانت وهامت. وآخرون لا علم لهم بلغة الأمة وثقافتها إلا قليلا، ثم يتهجم بعد ذلك على الحقيقة يشوهها دونما حذر، متعمدا في ذلك، غير ناظر إلا إلى قصده. فيكون تجاهلا يدفعه جهل من وراءه علم بما يقصده، فيصير جهلا مركبا ذا منظر خلاب، وسل صاحب "أسلم تسلم" يخبرك، ف"عندَ جهينةَ الخبرُ اليقينُ". والثاني: صنف الجاهلين: وهم عامة الناس وطلبة العلم ممن تم تفريغهم من كل ما يرتبط بتراث أمتهم. وهذه الأجيال التي سلبت من عقولها كل علاقة بأصول الأمة، ونزع من العلم الذي تتلقاه كل ما يربط أبناء الأمة بماضيهم هم، وخلتْ مناهج التدريس التي درجوا عليها من الاهتمام بحقيقة الثقافة والدين والأمة. ولأنه لا يمكن بعد ذلك أن تبقى المناهج فارغة؛ فقد حُشيتْ خليطا من الأفكار الغريبة والثقافات الغازية التي استطاعت أن تحول عقولهم من ثقافتهم إلى الانبهار بثقافة الغازي المستعمر، وأن يغتر أغلبهم بألفاظ فضفاضة مغريةٍ لا تحمل في حقيقتها إلا معاني الاستعباد والاستعمار "الثقافة العالمية""القرية الصغيرة""العالم الجديد"... فهم يستقبلون الحقائق المشوهة – تبعا لهوى المتحكمين والمتجاهلين– استقبال المسَلمَّات، فما ينكرون من ذلك شيئا. خصوصا وأن هالة من التقدير تحاط بتلك المشوهات، ترفعها المكانة التي يفرضها المتحكمون في سوق الأدب حين عبثت بها أياد غير أمينة. وأخطر من ذلك أن يأتي جيل يكون كل علمه هذه الحقائق المشوهة، دون تبين ولا إنعام نظر. فيبنون عليه علمهم وأدبهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ثم يأخذ عن هؤلاء أقوام يأخذ عنهم أقوام. فيكون ما يتلقاه جيلنا هذا ومن سيأتي من بعدنا نسخة مشوهة عن الحقيقة المشوهة أصلا. ولا يرى هذا الاعوجاج إلا من خبِر العلم، وتحقق من دعوى قديمة لم تُردْ للعلم والأدب إلا أن يهوى ويندثر. فطبقة الجاهلين هذه لا تؤاخذ على جهلها بحقيقة الأمر، ولكن على قبولها كل شيء دون تمحيص، وإقبالها على كل بعيد عن هذه الأمة. وهي معذورة في جانب ما تمليه مناهج التعليم الفاسدة. ولا يمكن أن تصحَّح الأخطاءُ إلا بالأناة والتروي، والحُجة والدليل والبرهان. والصنف الثالث هو الذي يعلم بهذه الحقيقة، سواء عمل بها أو أغفل النظر فيها. فمن يقاسمك هذا الهم الذي تحمله لا بد أن يكون عارفا بهذا الأمر كما تعرفه، فأنت لا تقدم له المقالة إلا من جهة التذكير وتثبيت ما كان يعلمه. والصنف الأول والثالث غير معني بالمقالة من جهة النفع، ولا ينبغي أن يشغلنا هؤلاء عن المستهدف الأول من الرسالة، الذين هم في حاجة إلى أن يقتنعوا بهذه الحقائق. فإن كان الأمر كذلك. فوجب أن نقدم الحقيقة على الوجه الصحيح لتؤتي أكلها. وهؤلاء لا يحتاجون في البداية أن نحشد لهم الأمثلة الدالة على فساد عقيدة تلك الدمية أو تلك. وإنما أن نصحح المُعتقد من أساسه، ونناقش أمورا لا بد منها في أمر الثقافة والأدب، فإذا اتفقنا على الأسس، كان الحديث عن الأشياء والحكم عليها في يد من يقرأ، فنتركه يقرر هو بنفسه. فكثير من الأمور نختلف فيها بسبب اختلاف فهمنا لها، ولو اتفقنا على مفهوم واحد أو تعريف شامل لخفت وطأة الخلاف. ثم إني أرى أن غلبة الجانب العاطفي في هذه الحالة لا يكون له أثر، إلا ما يكون من التأثير اللحظي الذي لا يستمر. وهذا لا معنى له في سياق الثقافة والأمة. والناس اليوم يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما كان عقليا، وعملية الإقناع في هذه الحالة لا بد فيها من المزج بين العقل والقلب كي تنجح. وإذن، فإني أحب أن يتركز الحديث في مقالات الأستاذ التالية عن صناعة الثقافة، وصناعة الشعر والأدب، وعلاقة هذا بذاك. فيجب أن يعرف هذا الجيلُ الذي نزلت عليه صواعق الإعلام، وقنابل المناهج التعليمية الهدامة أن الثقافة مجموعة هويات يؤلف بينها دين واحد، والهوية تحدد ما يميز كل طائفة عن غيرها في العرق واللغة والعادات والتقاليد، والثقافة بهذا تتعدد مشارب أهلها ومذاهبهم وأفكارهم، ويختلفون ويأتلفون، ويتآلفون ويتنافرون، وتختلف بينهم اللغات والعادات والتقاليد وطرق العيش، ولكن هذا كله يكون مصبوغا بصبغة الدين الذي يؤلف بين هذه القلوب ويجمع من حوله كل هذا الشتات، فيغني بالتنوع هذه الثقافة، ويمنع بالتآلف ووحدة المصير والهدف هذه الطوائف أن تقتتل فيما بينها إلا أن تبغي إحداهما على الأخرى. وهذا أمر شامل كل ثقافة لا تنفك منه أبدا. ورأس كل ثقافة هو الدين أو ما كان في معناه، سواء كان ذلك دينا كتابيا أو وثنيا أو بدعا مختلقا، فإنه غير ممكن أن تجد ثقافة لا تقوم على الدين أو ما في معناه، وحتى الذين ينكرون الدين ويدعون إلى الانصراف عنه إلى الدنيا، فرفضهم لهذا الدين هو في حقيقة أمره دين يحكم سلوكاتهم وأعمالهم، فما ينطلقون إلا منه، ولا يعودون إلا إليه في كل ما يقومون به. فالثقافة منغمسة في الدين انغماسا لا انفكاك لأحد منه، و"الأصل الأخلاقي" هو الذي يحفظها من الانهيار والتفكك، ويرقى بها إلى درجات الرقي والحضارة. فعليه تبنى الأمة حين تسري دماء الثقافة في أبنائها، فلا يصدر منهم إلا ما يوافق نهجها، ولا يأتي الواحد منهم إلا ما هو خليق بأن يضفي إليها قوة ومجدا. وهو الضمير الحي الذي يحرك في أبناء الأمة الإحساس بخطورة ما هم مقبلون عليه من الدراسة والإبداع، ذلك أن حياة الأمة لا يكون لها معنى إلا حين يبعث أبناؤها في نفوسهم الحياة، فإذا حيوا حيت الأمة. ولذلك تضمن الثقافة استمرارها وانتقال خصوصياتها من السلف إلى الخلف بشكل لا يشوه صورتها ولا يقتل أصولها. ويجب أن نُعَرِّفَ هذا الجيلَ بحقيقة الشعر، وما يقوم عليه، وعلاقته بأصول الأمة، ومعنى أن تكون آية القرآن الكريم قائمة على البيان، وأن السبيل إلى تذوق القرآن الكريم قبل الإيمان به هو الغوص في بيان الشعر الذي كان أرقى مظاهر البيان وما يزال، حتى يكون لما نقولُ عن ما يسمى اليوم "شعرا حديثا" معنى في قلوبهم وعقولهم. فإذا فهمَ الناس هذا، فسيعرفون أن أي مس بأصل من أصول الأمة لا يكون إلا محاولة لإسقاط تاريخها جملة وتفصيلا, وأن الظاهرة القرآنية مرتبطة بالشعر ارتباطا وثيقا متى تزعزعت قيمةُ الشعر ومكانته صعُبَ أن نفهم القرآن الكريم. ولا يتسع المقام للخوض في هذه التفاصيل، ولا أريد أن أسابق الأستاذ الفاضل في نقاش بعض جوانبها. فأنتظر منه أن يفعل مشكورا. ولي عودة إن تطلب الأمرُ في استكمال النقاش في مقالة مستقلة بإذن الله تعالى، وإن كنا قد ضمَّنا الرأي كاملا في كتابنا "سحر الأدب ... الأدب مدخلا إلى النهضة" الذي أشرت إليه آنفا. وليعذرني الأستاذ الكريم على الجرأة، وليغفر لي أن أقدمتُ على المقالة مرة أخرى. فإنْ وُفقتُ فيما قصدتُ فمن فضل الله، وإلا فهي جرأة جاهل غِرٍّ. فلعلَّ حرصَه على أمته يشفع له. ربنا إنا مخطئون فتجاوز عنا سيئاتنا، مُفَرطون فاغفر لنا واستر عيوبنا يا رب العالمين. اللهم اكفنا سوءَ الظنِّ، وظنَّ السوءِ، وعملَ الشَّر وشرَّ العَمَلِ. اللهم إنا فقراء إليك فأغننا، واغفر لنا وارحمنا. اللهم يسر وأعن.