الإنسان حيوان عاقل ناطق. ومَهما تطورَ الإنسان إلا وكان تطورُه في حاجة إلى اللغة لكي يُترجَم إلى أثر ملموس يعود بالنفع والفائدة على صاحبه ونظرائه من البشر. يحتاج الإنسان إلى ترجمة المعارف باعتبارها أساسَ التطور؛ وكلما ارتفعتْ وتيرة التطور كلما ازدادتِ الحاجة إلى الترجمة. بل أكثر من ذلك، الترجمة هي قطاع من قطاعات التنمية التي تُساهم في تطور الأمم. وبذلك يكون تطوير الترجمة سبيلا من السبل نحو تحقيق تنمية حقيقية مستدامة، خاصة في الدول النامية والأقل نمواً. هذه مسلَّمة لا يختلف حولها عاقلان. غير أن الدول التي تسعى إلى الخروج من الهشاشة والفقر وتحسين ظروف عيش مواطنيها لا نراها تستثمر في الترجمة، بصفتها سلعة ثمينة ومطلوبة وقطاعاً حيوياً يدخل في تجارة الخدمات. الترجمة لا جنسية لها. والمقصود في العنوان ب"الترجمة المغربية" هي الترجمة التي يزاولها مغاربة أو تُزاوَل بالمغرب. بينما "التنمية المستدامة" هي عملية تطوير الأرض والمدائن والمجتمعات، وكذا الأعمال التجارية والخدمات، شريطة أن تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها. تنعقد في المغرب يومياً عشرات اللقاءات المِهنية التي تحتاج إلى ترجمة شفهية، فورية أو تتبعية. أقول مِهنية وأترك المُرشد السياحي المغربي يمارس مهنته دون إقحامه مع مهنيي الترجمة الفورية. هناك لقاءات سياسية، شخصيات سامية ونواب أمة، يزورون البلد؛ وهناك رجال ونساء أعمال يزورون البلد؛ وهناك ممثلو هيئات حقوقية ومدنية يزورون البلد؛ هناك بعثات عسكرية وأمنية ورياضية وثقافية وعِلمية ودينية تزور البلد؛ هناك برامج إذاعية وتلفزية تستضيف ضيوفا أجانب على البلد؛ وهناك محاكم مغربية بدرجات مختلفة تقاضي أجانب متهَمين بالجناية ضد البلد، إلخ. كل هذه المواقف تستدعي حضور المترجم الشفهي ليكون الوسيطة اللغوية الحاسمة في تواصل الأطراف المعنية وقضاء الأغراض العالقة. بصفة عامة، كل هذه اللقاءات، في البرلمان والوزارات والهيئات والمؤسسات العمومية والمقاولات والوكالات الخاصة وما إليها، تصب بشكل أو بآخر، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في تنمية البلد، من خلال تحليل الأوضاع التي تستبق التخطيط للتنمية، من خلال استقطاب الاستثمار الأجنبي الضروري للتنمية، من خلال بناء و/أو تعزيز القدرات الضرورية للتنمية، من خلال الاطلاع على أجود الممارسات العالمية الضرورية لتفادي السقوط في أخطاء من سبقوا إلى التنمية، من خلال التحادث والتفاوض بشأن الصفقات ذات الصلة بالتنمية، من خلال تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع جهات مانحة أو نافذة في سبيل التنمية، من خلال ردع المجرمين ومعاقبة ملوثي مناخ المال والأعمال ومنعهم من عرقلة سبيل التنمية، وما إلى ذلك من المظاهر والظواهر المرتبطة بالتنمية المستدامة. اللغات المترددة في مثل هذه اللقاءات هي: العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية. أما القائمون بالترجمة الشفهية فخليط: ثلثٌ يُشكله حاملو شهادات ابتدائية أو متقدمة في اللغات الأجنبية و/أو الترجمة، وثلثٌ يُشكله أساتذة لغات أجنبية في الجامعة المغربية، والثلث الثالث يُشكله أفراد ولجوا بيت الترجمة عبر الباب الخلفي. وفي الغالب الأغلب، خاصة في اللقاءات الرسمية أو شبه الرسمية، يكون التراجمة مغاربة، وتتم الاستعانة بخدماتهم عبر وكالات شبه متخصصة. أما في الندوات والمؤتمرات المفتوحة فثمة ثلة من الأجانب ممن يشاركون زملاءهم المغاربة في أداء المهمة داخل مقصورات الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية. هذه الثلة، ربما دزينة من الأفراد، أوروبية ومستقرة بالمغرب بشكل منتظم. وقد يلجأ المنظمون أحياناً إلى جلب تراجمة فوريين أجانب لتكميل العدد الذي تحتاجه ندوات ومؤتمرات دولية تنعقد بشكل متواز في أرجاء المغرب. يتم الاشتغال بالثنائي بدل الثلاثي (مترجمان بكل مقصورة، بدل ثلاثة، يترجمان فورياً بالتناوب). والمهنة، على وجه العموم، كغيرها من المهن، لا تخلو من عيوب تقنية/فنية وأخلاقية. ويُقدَر عدد المغاربة في حومة الترجمة الشفهية بحوالي أربعين نفراً؛ ثلاثون في المائة منهم تقريباً نساءٌ. وعند تقييم الأداء، يمكن القول إن التراجمة الفوريين المغاربة عادة ما لا يخيبون الظن؛ ومع مرور الزمن، كسبوا سمعة جيدة تضمن لهم دعوات متكررة للاشتغال في الخارج، لفائدة هيئات دولية، أممية وإسلامية وغيرها. يُصدّر المغرب الفوسفاط والحوامض والسمك و...الترجمة الفورية. الفوسفاط والحوامض والسمك سلع مادية ملموسة، أما الترجمة فتدخل في تجارة الخدمات. الترجمة خدمة عالية القيمة، كبيرة الأثر، غالية الثمن، وبذلك يمكن اعتبارها مورداً من موارد العملة الصعبة، ومصدرا من مصادر التنمية. هذه حقيقة لم ينتبه لها المسئولون عن التجارة الخارجية المغربية لبناء مشروع تجاري من حولها، ولا وزارة التربية الوطنية بإيلاء مادة الترجمة، ولو بشكل سطحي في المرحلة الابتدائية والثانوية، الأهمية التي تستحقها تمهيداً للسبيل نحو دراسة الترجمة لاحقاً، ولا وزارة التعليم العالي بفتح فروع/شعب لتدريس الترجمة كمفتاح لدخول سوق الشغل، ولا وزارة الثقافة بدعم الترجمة الرزينة والأنشطة الترجمية المساهِمة في التنمية الثقافية. الجائزة الوطنية للترجمة مثلا، التي ترعاها هذه الوزارة، ينبغي أن تستبعد في المرحلة الراهنة الأعمال النخبوية والكمالية وتمنح الأولوية للترجمات العِلمية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ذات البعد والأثر التنموي. حَبا الله المغرب بموقع جغرافي إستراتيجي عاد تاريخياً، رغم المساوئ بسبب الأطماع الأجنبية، بالفائدة على الشعب المغربي حضارياً وسياسياً. واليوم يجتهد المغرب ليكون قطباً اقتصادياً يُغري الرأسمال الأجنبي، وبلداً مضيافاً وعصرياً يجذب السائح الأجنبي، ومُصدّراً عالمياً للمواد السمكية والفوسفاطية والزراعية والطاقية... ولكن في قطاع الترجمة لا زلنا نراوح مكاننا. لقد فتح المغرب في العشرية الأخيرة أوراشاً تنموية كبرى شملت مشاريعُها البنيات التحتية والمرافق الحيوية ومحاربة الأمية والتكوين والتدريب وتوفير الماء والكهرباء والعناية الصحية والسكن ورفع العزلة عن العالم القروي والتقليص من الفقر والهشاشة وما إلى ذلك. وتهم هذه الأوراش كافة الوزارات والقطاعات، إلا أننا لا زلنا ننتظر ورشاً كبيراً في مجال الترجمة. الترجمة في الشُعب اللغوية الجامعية مادة تعاني من الارتجال وندرة المدرِسين الأكفاء. أمّا مدرسة الملك فهد للترجمة بطنجة فيمكن القول إنها لا تفي بالغرض. المتخرجون منها يتوفرون على كفاءات متفاوتة في حقل الترجمة التحريرية؛ وإذا اقتحم أحدهم مجال الترجمة الفورية ووجد لنفسه موطأ قدمٍ فالفضل يعود في الواقع إلى عصامية المتخرج وليس إلى مناهج ترجمية أهلته لذلك. ما يحتاجُه المغرب هو وضع تصور عِلمي في حقل الترجمة الفورية، مع الخبراء وليس مع الكواسر من أصحاب مكاتب الدراسات، وذلك عاجلا وليس آجلا. ويتحول التصور بعدئذٍ إلى مشروع يتم إنجازه في شراكة بين القطاعين العام (51%) والخاص، لاسيّما وأن المشروع مكلِف مادياً. وهنا أهمس في أُذُن السيد وزير التعليم العالي الحالي، الذي لا يرى في كليات الآداب نفعاً للبلد، لأقول له إن العلوم بدون آداب تكون "قليلة الأدب"، أي بعيدة عن الإنسان، الناطق. هذه المغالطة للأسف يُرددها عدد كبير من المغاربة، الذين يعتقدون بأن العلوم يمكن لها العيش بدون لغات وآداب. نُذكر بالمناسبة أنّ الترجمة، التي تتوقف عليها العلوم لكي تحيى وتنتشر وتُطبَق، تنتمي إلى حقل "الآداب". المشروع المنشود هو عبارة عن معهد عال للترجمة الفورية، مُجهَز بأحدث الأدوات والآليات، ومُؤطَر بطاقم تعليمي مؤهَل ومجرَب ومتخصص. ويتم الالتحاق بالمعهد من طرف الطلبة المتميزين في اللغات وبعد اجتياز مباراة الولوج. أما مصاريف التعليم فيتم التعامل معها على نحوَين: 1. عَقدٌ بين الدولة والطالب، مثل ذاك الموجود بين الدولة والطبيب، يحصل بموجبه الطالب على منحة كافية وتحصل الدولة فيما بعد على نسبة مائوية (60%؟) من عائدات الترجمة الفورية خلال فترة زمنية مُحدَدة مسبقاً (سبع سنوات؟). في كل الأحوال، تكون الصياغة مكتوبة وبكل التفاصيل. 2. يؤدي الطالب (الميسور) مصاريف التعليم كاملة ويصير حراً بعد التخرج. هذه المصاريف تكون مرتفعة بسبب كلفة الأجور المدفوعة للمُدرِسين. وحتى في هذه الحالة، تستفيد الدولة على مستوى صورتها في الخارج، بين الدول وفي أذهان الشعوب، ومن العملة الصعبة التي يعود بها المترجم إلى بلده بعد أداء مهمة في الخارج. أما الموقع فلا بدّ من أن يكون إستراتيجياً. الناظور من هذا المنظور مدينة لها موقع إستراتيجي، على أبواب أوروبا، وبها رساميل ضخمة، وتعددٌ لغوي مُهم وسهولة في تعلم الألسن، بسبب الحضور الاستعماري في الماضي وبفضل جالية الإقليم بالخارج في الحاضر. كل المدن الإستراتيجية المغربية فيها مراكز ومعاهد وجامعات عامة وخاصة إلا الناظور. الناظور توجد بها كلية متعددة التخصصات حديثة الإنشاء ولكنها بطيئة الإقلاع على كافة الأصعدة. ولعل مؤسسة ترجمية من هذا النوع ستعطي للمدينة الاعتبار الذي تستحقه، وتُشجع مستثمري الإقليم على الانخراط في المشروع، وتُحفز شبابَه على الاستفادة منه والإفادة به لاحقاً. بل قد تستقطب طلبة أجانب يَدرسون في المعهد بالعملة الصعبة ويساهمون في التلاقح الثقافي والإشعاع الفكري والعِلمي والسياحي للمنطقة. هذه التوصية المتواضعة مرفوعة إلى السلطات المركزية والجهوية والمحلية، وإلى رجال الأعمال والفكر بالمنطقة، وإلى كل من يشاطرني الإيمان بأن الترجمة الفورية في المغرب يمكنها أن تكون رافعة حقيقية للتنمية المستدامة. .......................................................................................................... *عُرضت مضامين الورقة يوم 30 أبريل 2013، خلال مؤتمر دولي بالرباط. **أكاديمي ومترجم