رغم أن الدستور الجديد كان واضحا في التأكيد على أن الإسلام من أهم ثوابت المملكة المغربية، لا يزال البعض يصر على جعل حقوق الإنسان المسماة "كونية" هي الأسمى والأعلى في حالة وجود تعارض بين تلك الحقوق ودين الإسلام، ولهذا فهي تصر على إلغاء عقوبة الإعدام وخصوصا لمن قتل عمدا عدوانا، والتسامح مع مظاهر الشذوذ الجنسي وما يسمى بالمثلية وتعريف العائلة في هذه المرجعية بأنها كل من يضمهما أو يضمهم سقف واحد بما يتعدى الزواج الشرعي ، والإلحاد وتغيير المعتقد والخروج عن الجماعة، والمساواة الميكانكية بين الرجل والمرأة في مجال الإرث، وغيرها من المطالب التي تعارض بشكل صريح وواضح مقتضيات الدين الذي اختاره معظم المغاربة من قديم. فقد جاء في تصديرالدستور والذي اعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور: " المملكة المغربية دولة إسلامية"وكذلك" الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها" ومنها أيضا" تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة" وفي الفصل الأول من الباب الأول" تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي." وفي الفصل الثالث من هذا الباب أيضا" الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية." وفي الفصل الرابع" شعار المملكة: الله، الوطن، الملك" فالله أولا قبل كل شيء بأقواله وأوامره ونواهيه، وفي الفصل السابع عند حديثه عن الأحزاب" ولا يجوز أن يكون هدفها المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي، أو المبادئ الدستورية، أو الأسس الديمقراطية، أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة." وفي الفصل أربعة وستون استثني من حصانة البرلمانيين ما " إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي، أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك." وفي الفصل 175 استثني الإسلام من الأمور التي يمكن مراجعتها حيث جاء فيه"لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي" فالظاهر من هذا الزخم من النصوص أن أي شيء آخر مهما كان شأنه من أمر الوطن والملك والحقوق والأحكام والقوانين والمؤسسات والهيئات والسياسات والظهائر والمراسيم والمساطر.. ينبغي أن لا يعارض شيء من ذلك مقتضيات الدين الإسلامي إن لم ينبثق عنه ويصدر وفق روحه وأحكامه. وعليه تفهم نصوص الدستور الأخرى بما فيها التي تتحدث عن حقوق الإنسان، حتى وإن أوحى ظاهرها بغير ذلك مثل ما جاء في تصدير الدستور:" تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا،"ومثل عبارة" حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء" وللوعي التام بإمكانية حدوث تعارض بين حقوق الإنسان العالمية أو المسماة "كونية" وبين إسلامية الدولة تم تقييد سموها وملاءمتها بمسألة المصادقة عليها وليس كل تلك الحقوق، وفي نطاق أحكام الدستور الذي يؤطره الإسلام وثوابت المملكة وليس منفلتا عنها، وأيضا منسجما مع قوانين المملكة كمدونة الأسرة وليس مصادما لها، ومن هنا جاء التوضيح في نفس التصدير" جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة." ثم إن تلك المصادقة وخصوصا إذا تعلقت بمثل حقوق وحريات المواطنين، العامة أو الخاصة، لا تكون إلا بعد الموافقة عليها بقانون. والقانون ينبثق من البرلمان الذي يفترض فيه أن لا يمرر شيئا مخالفا لثوابت الأمة. ولعل هذا الأمر الواضح البين هو ما أزعج أمثال عصيد عندما قال بمرارة:" "يعكس الدستور المغربي في تناقضاته الفاضحة طبيعة الدولة المغربية، وطبيعة السلطة وأهدافها، فهو يضع على كل حق من الحقوق علامة استفهام تنتهي بإنكاره، ويرسم لكل مكسب حدوده التي تنتهي بخنقه وإماتته، دستور يرضي الحاكم المستبد ويتظاهر بإرضاء القوى التواقة للحريةّ، يكرس التفاوت ويتظاهر بإقرار المساواة، ف "ثوابت المملكة" تظلّ أشبه بالجدار الصفيق الذي يفصل الناس عن عصرهم، ويبعدهم عن بعضهم البعض. " عن مقالته: "السلطة وفقهاؤها" فيريد عصيد أن يميل الدستور ميلا عظيما يعطي الأولوية والسمو الكامل لحقوق الإنسان "الكونية" بعجرها وبجرها على مقتضيات الدين وثوابت الأمة وخصوصياتها الحضارية ويسمح فقط بما لا يراه ضارا من تلك الخصوصيات كالتعبيرات الثقافية واللغات والأعراس وما يليها من أشكال فلكلورية ونحوها، ومعيار الفرز عنده بطبيعة الحال بين الضار والنافع هو ما آلت إليه تلك "الحقوق الكونية" في نسبيتها المتطورة بحيث تغدو هي الحاكمة على قول الله ورسوله، فيحدد لنا هذا "الهوى الجمعي" ما نأخذ وما ندع. إن أولوية الإسلام والدين في عقيدة المومن عن الحقوق "الكونية" بل وكل المرجعيات والأعراف وغيرها، بالإضافة إلى ما يظهر من الدستور، هو منطق التاريخ ومنطق الواقع أيضا، ومن شك في هذه الحقيقة واعترته أحلام وأوهام فليعرضها على المجتمع المغربي ليحسم فيها عبر الاستفتاء لينظر بطلان تقديره ودعواه. والمسألة جزء لا يتجزأ من عقيدته في الإسلام، ألم يقل الله تعالى:" قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ" وقال سبحانه:" أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر" وفي الحديث الصحيح لا يذوق المومن طعم الإيمان وفي رواية حلاوته حتى يكون "اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهُما " وفي صحيح الجامع للألباني "الإسلام يعلو، ولا يعلى" فالدين عندنا بشموليته مقدم على النفوس والعقول والأعراض والأموال وزد عليه الأوطان وجميع مواثيق الدنيا، كذلك هو مقرر في الأصول ويدخل في المعلوم من الدين بالضرورة، وقد يضحي الإنسان بتدينه ظاهرا وقلبه مطمئن بالإيمان رخصة من ربه عند الإكراه، ولكن مع القدرة وفي الجماعة يضحى بالمهج والأرواح في سبيل الدين وإعلاء كلمة الله. نعم، من مرونة الإسلام وحيويته وقوة صلاحه لكل زمان ومكان مسايرة واقع الناس وأعرافهم وقوانينهم ومصالحهم وعدم تعمد مصادمتها بقدر الوسع والطاقة، ولكن في حدود لا تمس أصوله وثوابته وأركانه، فأنا أفهم من قوله تعالى:" الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ" أي يحسنون الفهم والعمل والتنزيل على خير الوجوه وأحسنها، انسجاما مع عموم القرآن وإرشاد السنة وفي ضوء الحكمة والمصلحة المعتبرة وجميل الأعراف وما تقتضيه العقول الراجحة، ووجدت شبيها من هذا المعنى عند الطبري شيخ المفسرين حيث يقول رحمه الله" "فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين، فيتبعون أرشده وأهداه، وأدله على توحيد الله، والعمل بطاعته، ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد، ولا يهدي إلى سداد." فمرحبا بالحقوق "الكونية" والقوانين "الدولية" إذا كانت تخدم الإنسان ومصلحة الإنسان ولا تصادم عقيدة وسيرة أكمل إنسان عرفه بنو الإنسان، ذلكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهديه خير هدي ودينه أكمل دين، بشهادة الله وشهادة المنصفين من عباد الله، وانظر رعاك الله "أعظم مائة شخص في التاريخ" لمايكل هارت والذي جعل على رأسهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. نعم، للحريات الفردية في الحدود التي لا تمس حرمة الدين ولا تنتهك أحكامه، سواء في الرأي أو الفكر أو الاختيار أو التنقل ونحو ذلك، وحفظ كرامة الإنسان باعتباره سيدا في الكون عبدا لله، فلا يظلم ولا يعتدى عليه ولا يعتقل أو يعاقب بغير قانون، نعم للشفافية والنزاهة والحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، نعم للمساواة ولكن في إطار الشرع والقانون المنبثق عنه، نعم للحقوق اللغوية والخصوصيات المحلية ولكن في الحدود التي تحفظ الوحدة ولحمة الكيان، نعم لحق السكن وحق العمل وحق الضمانات الصحية والاجتماعية والتأمينات ضد الشيخوخة والبطالة والمرض، وما شابه ذلك من حقوق، ولكن في حدود الإمكانات المادية المتوفرة، وعدم ارتهان الدولة للقوى الخارجية وفقدانها لمقومات السيادة، حيث وصف الدستور المملكة المغربية بأنها" ذات السيادة الكاملة" وأما ما يعارض ثوابتنا وأصولنا ومرتكزاتنا فليس هناك ما يلزمنا بخلخلة بنيتنا الاعتقادية والاجتماعية والثقافية به، ما دامت مختلف الدول في الدنيا تتحفظ على ما تراه يهدد كيانها وعلى رأس تلك الدول الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وغيرهما من الدول التي كان لها دور في بلورة تلك المواثيق الدولية، بل وتعطينا في كل مرة دروسا في دوسها وخرقها في شرق الدنيا وغربها، فكان لا بد من التريث وعدم التسرع في توقيع أي اتفاقية حتى ينظر في مآلاتها بخصوص فقدان السيادة الوطنية أوالتعارض مع الإسلام وثوابتنا الوطنية وعدم الانجرار مع بعض المنافع الوقتية أو الالتفات إلى ضغط وضجيج "بعض المحميين الجدد" الذين يحاكون أعمال "المحميين قبيل الاستعمار" والذين كانوا وبالا على البلاد والعباد. ولا بد من الفعالية في هذا المجال والتنسيق بين الهيئات الأصيلة والوفية لثوابتها والمؤسسات الرسمية وكذا التنسيق مع دول العالم الإسلامي والخيرين في دول العالم ممن يرفضون بعض الطروحات الشاذة في تلك القوانين والحقوق "الكونية". فالتعارض حاصل لا محالة بين بعض ما يطرح على مستوى "الحقوق الكونية" وبين ثوابت الإسلام، والترجيح لازم، والحذر واجب أيضا إزاء تنصل الأنظمة والحكام في عالمنا الثالثي من واجباتهم اتجاه شعوبهم باسم الخصوصية أو حتى باسم التأويل السيء للإسلام أحيانا، فوجب السير على هدى من الله لأخذ ما يناسب من الحكمة الإنسانية وما يحفظ كرامة المسلم وكرامة غيره بتوازن واعتدال، إذ الناس أمامك إما أخ لك في الدين أو أخ لك في الإنسانية.