شكل مطلب دسترة سمو المواثيق الدولية على التشريعات الخاصة و القوانين المحلية،مطلبا أساسيا لقوى سياسية و مدنية متعددة وهو ما حملته العديد من مذكرات الأحزاب و الهيئات المرفوعة إلى لجنة المنوني فضلا عن تصريحات فعاليات سياسية و مدنية متعددة.هذه القوى تعتبر أن إقرار هذا المطلب في الدستور سيعد ترسيخا للديمقراطية من خلال الاعتراف بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا بالنظر إلى طبيعتها الكونية,ذلك أن التشريعات المحلية قد تمس بهذه الحقوق بدعوى الخصوصية التي تستمد أسسها من الدين اوالعرف أو التاريخ أو الثقافة.وحسب هذا التصور،كلما تعارضت هذه الخصوصية مع ما يسمى بالكونية،حذفت الأولى بالضرورة لأنها قاصرة عن بلوغ ما ينتجه مركز العالم و نصفه الشمالي ثم يسوقه كإنتاج إنساني عابر للقارات وهو ما يحيل ضمنيا على تخلف الشعوب التي راكمت خصوصياتها التشريعية ،كما يحيل على افتقارها الوجودي إلى آليات إنتاج مبادئ حقوقية خاصة.هذا النقاش يحيل بدوره على إشكال حقيقي يثير موقع الحق بين الخصوصية و الكونية. أما قوى سياسية و مدنية أخرى(وأغلبها ذات مرجعية إسلامية)فسجلت مطلبا واضحا بعدم دسترة سمو المواثيق الدولية على القوانين الخاصة،لان من شأن هذه المواثيق التعارض مع الخصوصية المغربية وفي صدارتها التشريعات المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية أخذا بعين الاعتبار أن الشعب المغربي شعب مسلم لا يقبل أن يعيش انفصام شخصية فعلي حين تتجاذبه تشريعات متناقضة.هذه القوى أبرزت تأييدها للمواثيق الدولية ككسب إنساني لاعقدة لديها في الانفتاح عليها و الاستفادة منه كلما شكل تكريسا حقيقيا لحقوق إنسانية فعلية يعتبر خرقها مسا بالكرامة الإنسانية و انتقاصا من التكريم الإلهي للإنسان.لذلك طالبت هذه القوى بإحالة هذه المواثيق على البرلمان مع تيسير مسطرة اللجوء إلى تحكيم المجلس الدستوري الذي يحسم في النهاية في مدى دستورية كل قانون جديد يتم السعي لإقراره. مسودة الدستور المعدل كانت حاسمة في الانتصار للتصور الثاني مما حذا بمحمد الساسي احد أقطاب التصور الأول إلى اعتبار الصياغة الدستورية المتعلقة بهذا الإشكال طرفة ستدرس لطلبة القانون الدستوري.ورد في تصدير الدستور ما يلي:"المملكة المغربية تلتزم بجعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور و قوانين المملكة،و هويتها الوطنية الراسخة تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية و العمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة." لابد من الاعتراف بكون الصياغة يعتريها ارتباك كبير إلا أنها تحسم في كون الاتفاقيات الدولية التي سيصادق عليها المغرب،لا يمكن أن تتجاوز أحكام الدستور و قوانين المملكة و هويتها الوطنية التي يتبوأ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها حسب منطوق مشروع الدستور في تصديره،وهو ما يتكرر في الفصل 19 الذي يتناول الحقوق و الحريات التي يتمتع بها كل من الرجل و المرأة. يبقى أن الدعوة لإقرار سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية بما فيها الدستور،تطرح إشكالات متعددة منها: 1-هناك إجماع على اعتبار الدستور وثيقة تعاقدية بين الشعب و حاكميه حيث تعود السيادة للشعب الذي يستفتى على بنود هذا التعاقد فيقول كلمته بخصوص القوانين التي يختار الاحتكام إليها.فكيف نفهم إذن الدعوة إلى تجاوز هذا الشعب حينما نقر مبدئيا بتجاوز ما اختاره لذاته بدعوى أن كل المعاهدات الدولية هي بالضرورة أرقى من القوانين الخاصة. 2-النزعة الوثوقية التي تنحاز إلى الحق كما هو وارد في المواثيق الدولية باعتباره كونيا يحظى بالإجماع الإنساني، هي نزعة دكتاتورية ترسخ نوعا آخر من الاستبداد و التسلط حيث يتم تجريد الناس من ابسط حقوقهم وعلى رأسها اختيار هذه الحقوق التي يطالبون بالتمتع بها،فيصبح الخطاب الحقوقي كما يلي: "أنا اعرف حقوقك أكثر مما تعرفها أنت،لأنك قاصر عن فهمها."مثال ذلك المطالبة بإقرار ما يسمى "حق المثلية الجنسية" و هو ما يتعارض مع خصوصية المغاربة الدينية حيث يحسم الإسلام في التحريم القطعي لهذه الممارسة كما يجرمها القانون الجنائي تلاؤما مع هذه الخصوصية.من من المغاربة إذن سيكون فخورا بمنح هذا (الحق)لأبنائه و تهنئتهم عليه؟لا شك أن هناك فئة سترضى بذلك مادامت تطالب به لكن الديمقراطية و الحداثة تفرض عليها احترام اختيار المغاربة و حقهم في الاحتكام إلى التشريع الذي يرتضونه لأنفسهم إذا كان إقرار الديمقراطية و حقوق الإنسان هو مطلب هذه القوى و محركها الحقيقي. 3-تثير الاتفاقيات الدولية في بعض الأحيان قضايا لم تطرح يوما إشكالا بالنسبة للمغاربة،مثال ذلك الدعوة إلى اقرارمساواة ميكانيكية تامة بين الرجل و المرأة في حين يقر التشريع الإسلامي الذي تنهل منه مدونة الأسرة مقوماتها ،مساواة بين الرجل و المرأة على قاعدة الإنصاف ارتباطا بالحقوق و الواجبات و الأدوار التي تترتب عليها مسؤوليات.مثال ذلك عدم المساواة في الإرث بين الأبناء حيث ينال الابن الذكر ضعف ما تناله البنت الأنثى.حسب اتفاقية سيداو ،يشكل ذلك تمييزا عدائيا تجاه المرأة وجب رفعه وبذلك يجب إقرار المساواة في الإرث و العمل على ملاءمة مدونة الأسرة مع هذا المقتضى فور التوقيع عليها بدون تحفظ إذا ما سلمنا دستوريا بسمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية.و غير هذا المثال كثير. السؤال الآن:إذا ما استفتينا المغاربة الذين يدعي كل طرف النطق باسمهم عن اختيارهم الحقيقي تجاه هذا الإشكال،كيف سيكون جوابهم؟ إن مطلبا كهذا هو مطلب الذين ينادون به و لا يمكن أن يلزم غيرهم إذا ما كنا حقيقة نؤمن باحترام اختيارات الشعوب و خصوصياتها. 4-تعتبر العولمة شكلا من أشكال اكتساح الخصوصيات و القضاء على النتوءات الحضارية و الدينية و الثقافية و التاريخية للشعوب الإنسانية و العمل على تسويتها مع سطح كوني تختار القوى المهيمنة في العالم ملامحه و مواصفاته.لذلك تجمع القوى السياسية باختلاف تلويناتها على مناهضة العولمة.في هذا السياق,يدعم الجميع إعادة الاعتبار للتراث و الفنون و الآداب المنبثقة من تاريخ المغرب و عمقه الشعبي،فنعتز بخصوصياتنا في الموسيقى و الأزياء و الطعام و العادات و التقاليد،لان الخصوصية تعبير عن حق الشعوب في التفرد و إبداع ما يتلاءم مع مقومات شخصيتها الحضارية.أما المفارقة فتكمن في مناهضة الخصوصية على مستوى التشريع خاصة إذا ما كان مستمدا من أحكام الدين الإسلامي الذي يعتز به المغاربة. الغريب أن القوى التي تنافح بشراسة عن سمو المواثيق الدولية على القوانين المستمدة من التشريع الإلهي تمارس إرهابا فكريا حقيقيا في وجه من يتصدى لأطروحاتها بدعوى رغبته في احتكار الكلام باسم الدين و ممارسة الوساطة بين الله و المغاربة و توظيف الدين لأغراض سياسية متناسين أن نموذج ما هو مكتوب أعلاه يعبر عن قناعة حقيقية يتبناها جزء كبير من المغاربة. ليس من حق احد ادعاء كونه مسلما أو إسلاميا أكثر من الآخرين إلا أن النقاش الهادئ يفرض الإجابة عن تساؤل جوهري:كيف تقنع إنسانا مسلما برفض تشريع الهي بدعوى خرقه لحقوق الإنسان ،ليتبنى بالمقابل تشريعا إنسانيا نحسم مطلقا حد الدوغمائية بكونه أفضل و أرقى و أسمى من أي تشريع آخر،ثم تقنعه في الآن ذاته أن ذلك لا يمس بتدينه و عقيدته؟ هل يجب أن يكون المغاربة شيزوفرينيين،غامضين تتقاذفهم و تتجاذبهم عدة اتجاهات غير قادرين على الحسم فيها،جبناء حد العجز عن البوح جهرا عما يعتري أنفسهم،هل يجب أن يكونوا كذلك ليحظوا بشرف وصفهم بالحقوقيين و التقدميين و الحداثيين و يتخلصوا أخيرا من وصمهم بالظلامية و الرجعية و التخلف و الجهل؟ إن الاتفاقيات و المعاهدات الدولية تعتبر في جزء كبير منها كسبا ديمقراطيا و حقوقيا كبيرا بالنسبة للمغرب و غيره من البلدان،حيث تناهض التعذيب و تجرم الممارسات الحاطة من كرامة الإنسان كما تسعى لإقرار حقوق الناس السياسية والاقتصادية و المدنية و الاجتماعية إلا أن ذلك لا يمنحها الحق في تجاوز ثوابت الناس و مرجعياتهم و هوياتهم التي ارتضوها لأنفسهم لذلك يبقى السبيل الأمثل للخروج من هذا الإحراج هو إخضاع كل اتفاقية دولية يعتزم المغرب المصادقة عليها للنقاش العمومي و المؤسسي الواضح و الشفاف الذي لا يستبطن مواربة أو خداعا أو تضليلا.و إذا ما اختار الناس قانونا معينا و لم يجدوا فيه مسا بما يعتبرونه ثوابتهم، فلا احد يملك الحق حينها في رفضه أو التحفظ عليه. لنكن ديمقراطيين إذن و لنمنح للناس فرصة التعبير عن مطالبهم.