فرضت الجائحة على المنظومات التربوية والتكوينية خوض غمار نماذج بيداغوجية غير مسبوقة، ومنها التعليم حضوريا وذاتيا مناصفة؛ وهي تجربة أسالت من النقد والتجريح الشيء الكثير من طرف الأسر وممثليها، في حين استحسنت من طرف آخر، خصوصا الأساتذة وبعض ممن لهم من المشاريع التربوية والتكوينية لأبنائهم ما لم يكن يسمح الغلاف الزمني التقليدي بممارستها؛ كما كانت محط إشادة من الجهاز الوصي على القطاع التعليمي، استنادا إلى النتائج التي حققها التلاميذ في الأسدس الأول. التعليم بالتناوب اختيار المُضطر طرح في بداية الموسم الدراسي اختيار بين نموذجين بيداغوجيين أحلاهما مر، نظرا لما عانته الأسر جراء إغلاق المدارس أبوابها إبان الوباء، ونتائجه النفسية والتربوية وغيرها على الجميع؛ ما جعل اليونسكو والأمم المتحدة تؤكد في من خلال دراسات منسوبة إليها أن تأجيل الدخول المدرسي أسوأ من الجائحة نفسها. ولتفادي هذا الأسوأ كان لا بد من اعتماد نموذج بيداغوجي يضمن عودة الأطفال إلى مدارسهم، دون التفريط في النتائج الإيجابية التي حققتها بلادنا في مواجهة الوباء. ولكسب هذا الرهان، كان لا مفر من «سلوك وطني مثالي ومسؤول من طرف الجميع» (من خطاب العرش)، بدونه لا يمكن ضمان استمرارية تعلم أطفالنا وتكوين شبابنا؛ فحتم الأمر إذن على الأسر أن تتحمل جزءا من المسؤولية التعليمية لأبنائها، بتوجيه وإشراف من المؤسسة التعليمية، مستثمرة في ذلك الوسائط الاتصال التكنولوجية الحديثة، وتوفر المعلومة على أكثر من صعيد. وهو ما فتح المجال للأستاذ والتلميذ لارتياد آفاق تعليمية تعلمية جديدة، ونهج أساليب بيداغوجية مبدعة، أثبتت فعاليتها لدى أمم سبقتنا إلينا اختيارا لا اضطرارا، فيما سمي التعليم المنزلي والقسم المعكوس.. في إطار الثوابت المنهجية للنظام التربوي المغربي، والتجديد والابتكار على مستوى الآليات والأساليب. التعلم الذاتي تعلم مستدام طالما كان العجز والقصور سمتي منظومتنا التربوية في تعاطيها مع التكنولوجيا الرقمية، والاستناد إلى فتوحاتها العلمية في تقريب المعرفة والمهارة من المتعلمين. وبعد أن فرضت الجائحة شروطها وإكراهاتها، فمرغمون لا أبطال في مواجهة التحدي (الوباء) «بما كسبت يدي». وهي فرصة ومناسبة – و«المناسبة شرط»- للتلميذ لاستثمار مكتسباته في بناء مهارات ومعارف جديدة. فالكل بات مطمئنا إلى أن التعلم الذاتي هو التعلم الراسخ والمستدام، في ظل التجدد المعرفي الذي لا تنضب منابعه، وسيل مهاري هادر لا تتوقف عجلة إبداعه وإبهاره، يجرف كل قديم، ويبشر بكل جديد؛ ما يجعل من تجديد المعارف وتطوير المهارات حتمية لا يفي بمقتضياتها غير الاعتماد على الذات بتمرين الفكر على الدوام بجعله قابلا للنسخ وإعادة البناء. لذا تنادي بعض المدارس وتعطي الأولوية للمناهج على الموضوع، وللأداة والأسلوب على المعرفة التي قد لا ترسو على بر اليقين. وقد جعلت تكنولوجيا الاتصال من الإنترنت كفضاء للنشر وتقاسم المعرفة مدرسة، ومحرك البحث أستاذا افتراضيا، يعطي أطيب الثمار، وأحسن النتائج تحت إشراف مدرسة الواقع وأستاذ الحقيقة. وهذا التوجه التربوي والبيداغوجي ساد في سالف دهر الأمة الإسلامية، قبل ظهور المدارس النظامية والأوقاف العلمية، إذ كان طالب العلم يتحمل مسؤولية البحث عنه من مظانه، سواء لدى الرجال أو في الكراريس، ويسلك في سبيل ذلك الصعب والذلول. ومازال شيء من ذلك في مغرب اليوم، وخصوصا في الجبال والقرى في ما يعرف ب«التخناش». لكن الفارق بين هذا وذاك كبير، فالتكنولوجيا أراحتنا من قطع الفيافي والقفار لسماع حديث أو فتوى، والظفر بمتن مخطوط، في حوزة عالم ملازم لمسجد أو زاوية. فإذا كان «العلم يُؤتى ولا يأتي»، كما قال معلم الأمين والمأمون لهارون الرشيد، اليوم صار العلم يزور الإنسان في غرفة نومه، باحثا عمن يستيقظ لاستقبال نوره والاحتفال بحضرته. رفض التجديد حين يتباين السياق ولا نبالغ إذا قلنا إن التعليم بالتناوب بالصيغة المغربية، المعتمد على بناء التعلمات في القسم، وإنجاز الأنشطة التطبيقية في البيت، هو إبداع مغربي، يعكس الفصل المعكوس؛ هذا الأخير الذي يبني فيه المتعلم التعلمات في البيت، في حين يبقى الفصل مجالا للتطبيق والتمرين والوقوف على التعثرات والصعوبات. الذي ظهر في أواخر التسعينات مع الأستاذ: إيريك مازير، بجامعة هارفارد، كما انتشر في فرنسا وبلجيكا. وهي تجربة يتدرب من خلالها «المتعلم على التعلم بنفسه من أجل تعزيز استقلاليته» (مارسيل ليبرون وجيما سيرانو)، كما تعزز فاعليته في التحصيل الدراسي، وهو هدف سبق أن كان محل اشتغال لكل من: فرينيت ومونتيسوري. قد يُجابه مثل هذا القول بأنه قياس لا يستحضر الفارق، المتمثل في غياب العدالة المجالية، وضعف البنية التحتية الرقمية وغلائها، وإسناد أداء فاتورتها إلى التلميذ والأستاذ في حالتنا؛ لكن أيضا هناك نسبة كبيرة من الأسر التي تتوفر على الاشتراك في الأنترنت، وتتوفر على أكثر من هاتف بالمنزل، وتقضي أوقاتا طوالا أمام شاشاتها، وهو أمر يمكن لمسه ببساطة أثناء جولة قصيرة على أبواب الثانويات وطرق أبواب الأسر للبحث عن كيفية تدبير الزمن المنزلي. كما أن تلاميذ المغاربة ينفقون على الأكلات السريعة واللباس أكثر مما ينفقون على تعلمهم وتكوينهم. يعاين هذا المشتغلون بالميدان التعليمي، في غياب دراسات تثبته أو تنفيه. لكن المؤكد منه والمثبت رقميا أن الفيديوهات التعليمية التي ينجزها بعض الأساتذة بإمكانياتهم الذاتية لا تلقى نسب المشاهدة التي تلقاها فيديوهات الفرجة والتنكيت. وأصبحت الوسائل الرقمية ذات أثر جد سلبي على المتعلم، حين يعطيها من الاهتمام والوقت في الترفيه بالألعاب الإلكترونية، ما لا يدع له مجالا للاطلاع المعرفي، وقراءة أقصر النصوص التي يتضمنها كتابه المدرسي، وهذا ينطبق على شريحة ليست بالقليلة من المتعلمين؛ ما يجعل التساؤل مشروعا حول كيفية توظيف تكنولوجيا المعلومات بنفس القدر وقوة الاحتجاج على غيابها لدى البعض، الذي ليس مبررا بأي حال من الأحوال لحرمان هذا البعض من التعليم، كحق اجتماعي على ذمة الدولة أن تلبيه، ولتبحث عن السبل والطرق التي تلائمها. خاتمة إن الاعتماد على التعلم الذاتي لضمان الاستمرارية البيداغوجية في التعليم بالتناوب يعد فرصة لتأسيس التعلم مدى الحياة. فإذا كان المتعلم اليوم يتلقى التوجيهات لما ينبغي فعله في البيت، فما هي إلا مرحلة انتقالية للوصول به إلى القدرة على اختيار المضامين التعلمية، إن تم تثمين مجهوداته، وتأطيره في اتجاه الرفع من منسوب الثقة في النفس، ومده بالآليات التي تنمي استقلاليته بمعناها الإيجابي؛ فهو اليوم تعلم محروس، وغدا تعلم مبدع خلاق، واثقين من قول القوم: «لكل داخل دهشة، ولكل خارج بهجة».