سيدي الفاضل، دعني أبدأ رسالتي هذه بتوضيحٍ يبدد اللبس والالتباس: اني أنتمي للفئة التي تخالفك الرأي ومع ذلك تحترمك وتقدرك ولا تنوي أبدا الحط من قدرك أو السخرية من أفكارك. لذلك أناشدك أن تستمر في قراءة هذه الرسالة الموجهة أساسا إليك وأيضا إلى من يشاركك نفس المبادئ. فرب حكمة تأتيك من خصمك قبل المناصر المتحمس لمبادئك.. وأقول لك بداية ما قال أحد الحكماء الغربيين لخصمه السياسي: سأدافع عن رأيي بكل ما أوتيت من قوة، وأدافع عن حقك في أن تقول ما بدا ويبدوا لك حتى النهاية. فإن شئت فلتومن وإن شئت فلتكفر، فلا إكراه في الدين. إن كفرت فلست الوحيد الأوحد في وطنك. وإن أيضا جهرت بكفرك فلن تكون الوحيد الأوحد الذي يجهر بما لانحب. على أرض هذا الوطن الممتد من غابر الأزمان الى الآن، مرت الكثير من الأفكار والآراء والأطروحات والأيديولوجيات والمعتقدات وحتى الديانات... والبقاء للأقوى كما يقال. البقاء للأفكار النيرة وللسلوكيات النبيلة وللأخلاق الفاضلة وللأيديولوجيات المتينة القوية. فقل ماتشاء فحقك حق مشروع في أن تقول ما تشاء. وعبر عما تشاء، فإن لك أيضا الحق المطلق لأن تعبر عما تشاء. فقط... ينبغي أن تأخذ سيدي الكريم، بعين الإعتبار أن حقك في التعبير عما تشاء وفي قول ما تشاء، ينتهي عند حدود خدش أو جرح كرامة وعزة مواطنين آخرين - سواء قلوا أو كثروا - وإن بدوا لك سيدي الكريم، بدائيين ظلاميين جهلاء سذجا بلداء وربما أغبياء. حرية التعبير وإبداء الرأي ينبغي أن تتوقف عند المساس بحق آخرين في التمتع باحترام الجميع لهم وإن كانوا متشبثين في نظرك سيدي الفاضل، بمعتقدات مهترئة وديانات قديمة لم تعد تساير العصر. فمن حقك أن تظن ذلك بل وتؤمن بذلك، ولكن ليس من حق مثقفي هذا الوطن أن يستهزئوا بمشاعر جزئ من هذا الوطن... ببساطة لأن الحقيقة المطلقة لا يكتسبها أحد، وإن كنا أحيانا كبشر نؤمن كل الإيمان أننا محقون والآخرون مخطئون. فكم من مؤمن أصبح ملحدا وكم من ملحد أصبح في آخر المطاف مؤمنا... لسبب بسيط هو أنه ليس باستطاعة أحد أن يثبت بالملموس وبما لايدع مجالا للشك وجود الإله من عدمه. لاأحد يستطيع أن يهدي من أحب ولا أحد يستطيع أن يكرِّه من آمن في إيمانه ودينه. سيدي الكريم، أنا لن أخوض في أمر تأويل أقاويلك الأخيرة ولن اتخذ منها موقفا غايرا عما سبق أن قلت. ففكرك واضح وفلسفتك في الحياة واضحة ومراميك أيضا واضحة. فلا مجال لتوضيح الواضحات. فأنت كثير الحبر وغزير اللفظ. تتحدث وتكتب صباح مساء. من يفعل ذلك يضطر لإظهار الكثير مما يبطن، غير أن قمة جبل الثلج في المحيطات تخفي أكثر مما تبدي. فأنت تستعين بقيم الديموقراطية وتجاهر بها بل وتتسلح بها لمواجهة خصومك في الأيديولوجية وفي المعتقد. لذلك تعطي لنفسك الحق في أن تقول دائما ما تشاء. هذا جميل، غير أن الديموقراطية كالعملة. ذات وجهين. وأحيانا كالسيف: ذات حدين. تستعملها أنت ومن حق خصومك أن يستفيدوا من مزاياها أيضا. والديموقراطية هي لعبة استشارة الشعب. وإذا أردت كمثقف أن تؤثر في الرأي العام بأقوالك وآرائك فينبغي أن تفعل كل ما بوسعك لكسب الشارع وليس كسب عداء الشارع. فعداء الشارع في الديموقراطية الحقة يعني القضاء على مستقبل أفكارك وأطروحاتك. حتى وإن بدا الشارع جاهلا وغبيا، تبقى مسؤوليتك أنت كمثقف أن توضح رسالتك التي تبدو لك صائبة ونبيلة، بالطريقة وبالبساطة التي يفهمها الشارع ويتقبلها. فإذا فشلت في إيصال أطروحتك الى الشارع فستكون حينذاك قد فشلت في القيام بدورك كمثقف. لن يسعفك اتهام الشارع بالغباء والبلادة وعدم فهم الأطروحات النيرة كأطروحاتك. سيدي المثقف، لقد تعودنا نحن أبناء الشعب البسطاء، سماع شكوى بعض مثقفين المؤمنين بقيم الديموقراطية النبيلة حتى النخاع. فهم من جانب يطالبون بتطبيق قواعد الديموقراطية الحقة ومن جانب آخر يطالبون النظام والأجهزة الحاكمة بفرض هذا الأمر أو ذاك على الشعب. مثلا : يطالبون عن حق، بسلطة الشعب وبرفع دكتاتورية القرارات السياسية، ويطالبون في نفس الوقت بحذف إسلامية الدولة من الدستور وتطبيق العلمانية وفصل الدين عن الدولة. هذا تناقض سافر. فمن يؤمن بسلطة الشعب وبقرارات صندوق الإنتخابات، عليه أن يحاول فقط فرض اللعبة الديموقراطية ويحاول الى جانب ذلك إقناع الشارع بالتصويت على أطروحاته العلمانية أو اللاهوتية على السواء. أما أن تطالب النظام والحاكم بتطبيق هذا الأمر أو ذاك رغم أنف الشعب، فإنك كمثقف تطالب بتكريس الإستبداد والديكتاتورية وتطالب بفرض هيمنة المخزن على الشعب، وهذا بعيد كل البعد عن مبادئ الديموقراطية الحقة. سيدي، من أكون أنا لأقول لك ما قلت لك ومن أكون لإضافة أكثر مما قلت! ولكن من نِعم الديموقراطية وحرية التعبير، أن يقول كل من يشاء لمن يشاء. لذلك أود أنا العبد الضعيف، أن أدعو مثقفين الى الاستثمار في الشعب وفي الشارع. لا مناص لهم من ذلك، إن هم أرادوا تبليغ رسالة من رسائلهم. فلقد رأينا كم من طاغوت وكم من حاكم ألقاه الشعب أرضا ودون رحمة، حين استطاع الشارع لذلك سبيلا. الشعب مصدر القوة ومصدر التقدير الحقيقي ومصدر الاحترام المستدام. فالنخبة التي تقيم في برج عال وتتبرأ من جهل وبلادة وغباء الشارع لا مكان لها في المجتمعات الديموقراطية ولا مكان لها غدا في المغرب الديموقراطي. فتصفيقات القاعات قد تُطنب وتُثمل وتجعل المثقفين يتوهمون أنهم بلغوا المراد، غير أن مرايا القاعات لاتعكس نبض الشارع ولن تعكس أبدا نبض الشارع. ولا ننسى أيضا أن الزهو و الغلو الصادر منا يُبعد الشارع أكثر مما يقربه منا. لسبب بسيط: أكثر الناس في أكثر الأمم والشعوب هم وسطيون ويحبون الوسطية. والمغاربة كغيرهم من الأمم وسطيون ميالون الى الوسطية. ينفرون من التطرف والتشدد في كل شيء. وهذا لا يعني أننا شعب بدون غلاة متطرفين متشددين. لا، هم موجودون بين ظهرانينا ويمثلون كل أطياف الخريطة السياسية والدينية والأيديولوجية، ولكنهم قلة قليلة غير مؤثرة. وأخيرا أختم رسالتي بالتأكيد على أن من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فلا ينبغي على بعض مثقفين استعجال علمنة الشعب أو تمزيغه أو عصرنته أو أسلمته أو ما شابه ذلك، لأن ذلك يأتي بنتائج عكسية. ومن لا يصدق حكمة كهذه فما عليه إلا أن ينتظر القول الفصل في قادم الأيام و السنين. حينذاك تظهر لك الأيام ما كنت جاهل. . . وفقكم الله سيدي الكريم ووفقنا جميعا لما فيه الخير لهذا الوطن