الإطار التاريخي والاجتماعي بمغرب ما قبل الاستعمار الحلقة الثانية: البادية المغربية نواصل الحلقة الثانية من سلسلة "نشوء المدينة المغربية"، ولا جرم أن الاهتمام بالبادية من المواضيع التي شغلت بال المؤرخين والسوسيولجيين والأنثروبولوجيين بمختلف توجهاتهم واختصاصاتهم. بيْدَ أنه مع مطلع القرن 19 سنلاحظ تضخما في الكتابات حول "تاريخ" هذه المجتمعات لا سيما من لدن مُنظري الاستعمار، وذلك بغاية فهم خصائص البادية وسكانها ومختلف مستوياتها من أجل تشديد القبضة عليها معرفيا ليتسنى لهم الإمساك بها سياسيا. وقد مثلت بادية شمال افريقيا موضوعا خصبا لتحقيق هذه الأهداف، كما شكلت مجالا لاكتساب التخصص والشهرة والاعتمادات المالية. ولما كان هذا الاهتمام محكوما بخلفيات إيديولوجية واستعمارية، فقد انصبّت الجهود على رصد خصائص سكان البادية وقبائلهم، معتمدين على ذلك التهميش الذي كانت تعاني منه البادية العربية عموما، والمغربية خصوصا، وهذا ما يمكن التأكد منه من خلال المراسلات السلطانية، حيث نلاحظ أنه كلما ذُكر اسم المدينة إلا ويُسبق في الغالب بدعاء حافظ مثل "مدينة فاس حرسها الله ". ولعل ذلك التهميش الذي عرفته البادية المغربية هو ما حدا بالسلاطين إلى أن يتعاملوا معها بنوع من الحذر و"اللامبالاة"، مما ترتب عنه خنق وتعميق الهوة بين البادية والمدينة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي... مما قدم للسوسيولوجيين الاستعماريين المهاد الخصب لأن يقيموا فصلا عميقا ضمن المجتمع الواحد، تمثل في الفصل الشهير بين العرب والبربر، سكان البادية والمدينة. وإذا كانت بادية شمال إفريقيا عموما والمغرب خصوصا قد عرفت واقعا لا يمكن التنكر له هو واقع "التخلف" بالمقارنة مع المدينة، وكذا بالمقارنة مع النموذج الغربي، فإن هذا الواقع لا يمكن إرجاعه إلى طبيعة أصلية لهذا المجتمع -كما يدعي مُنظرو الاستعمار- أجل هناك عوامل تاريخية ساهمت في تكريس هذا الواقع ولكن لا يمكن رفعها إلى درجة الشذوذ، ولإثبات هذه الفرضية لا بد من تقديم رصد عام للمجتمع القروي ولبنياته المختلفة حتى يتأتى لنا دحض تلك الافتراءات المغرضة وإثبات أن البادية لم تكن كما صورها دهاقنة الاستعمار، الذين وجدوا أفضل مُعبر لهم في روبير مونتاني الذي ذهب إلى حدّ الزعم بأن البادية تمثل "جمهوريات مستقلة" تماما. لو صحّ ذلك لما أمكن فهم نشوء المدينة الإسلامية المغربية وهي وسط ضواح فلاحية بربرية مثل فاس، مكناس، مراكش... وبالتالي هل كان ممكنا أن تستمر مدينة مغربية كفاس مثلا، تُواجه تقلبات العصور والحقب طوال هذا الزمان، ولن نقف طويلا أمام هذه الأباطيل التي أضحت مجرد آثار تاريخية وصمت المجتمع المغربي في حقبة من حقبه التاريخية متوجهين إلى رصد هذا الواقع المغربي المتميز. لدى الحديث عن البادية المغربية فإن أول ما يخطر بالذهن هو طبيعة سكانها، ومن هنا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الوحدة الأساسية القاعدية التي يتكونون منها، ألا وهي الأسرة الأبوية التي تعتبر النواة الأولية التي نجدها سواء بالبادية أو المدينة وعنها تتفرع كل التنظيمات الأخرى، والجميع يرتبط داخل نظام القبيلة أو الحلف القبلي، حيث نعثر داخلها على مختلف العلاقات المترتبة عن ذلك. ونظرا لغموض مفهوم القبيلة فإننا سنكتفي برصد لخصائصها المتميزة. لقد تميزت البادية المغربية في هذه الحقبة ما بين 17 وحتى 18 بغياب كلي لأية مؤسسة مركزية. ومن هنا ما يمكن ملاحظته بصدد الاقتصاد المغربي هو عدم كفاية الفائض الفلاحي، فرغم الإمكانيات بهذه المناطق إلا أن استغلالها لم يتم بأسلوب جدي، وقد يكون ذلك راجعا إلى التكوين الاقتصادي والاجتماعي المعقد بالبادية المغربية والمؤسس على الأراضي الجماعية، وضمن هذا الإطار تلعب القبيلة دورا أساسيا بالنسبة للأعضاء المنتمين إليها، كما تعكس كل تناقضاتها بالإضافة إلى كونها وحدة سياسية – بناء على ما تتوفر عليه من مؤسسات تنبثق عنها وعن مختلف علاقاتها الداخلية والخارجية مع قبائل مجاورة لها. إن أهمية القبيلة كوحدة اقتصادية تبقى مسألة معترف بها حتى في الحالة التي يختفي فيها إنتاج العائلة الصغيرة تماما، حيث يكون أقل بكثير مما ينتجه أفراد القبيلة مجتمعين، بل يمكن القول إن المجهود الجماعي يفرض نفسه أمام قساوة الطبيعة وصعوبتها، ويتطلب تجنيد وتعبئة كل الطاقات في غياب تام لسلطة مركزية تتحمل مسؤولية الري، وهناك عنصر آخر يلعب دورا محددا في تحديد فضاء القبيلة هو تربية الماشية، ذلك أن النشاط الزراعي لا يغطي إلا مساحات أقل من تلك التي تتطلبها الأنشطة الرعوية. كل هذه الشروط تتدخل في تحديد الفضاء القبلي: فضاء للحرث، وآخر لتربية الماشية، وآخر للرعي... وقد تتدخل عوامل أخرى – كالنمو الديموغرافي مثلا، الذي يترتب عنه ضيق الفضاء مما يترتب عنه نشوء الرغبة في تحديده- ويؤدي إلى خلق صدامات مع الجماعات المجاورة والتي غالبا ما تكون لها آثار وخيمة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للقبيلة. وفي هذا المجال يلعب التعاون المتبادل داخل القبيلة دورا حيويا، لا سيما بالنسبة للري الذي يتطلب مشاركة فعالة لكل أعضاء القبيلة من أجل السهر على تنظيمه، بالإضافة إلى عناصر أخرى والتي يمكن اعتبارها مناسبات لمظاهر التعاون كالحراثة والحصاد والنقل... هذا المظهر التعاوني يحمل اسم "التويزة" والتي تُقدّم "لأولئك الذين يطلبونها، ذاك الذي لا يستطيع حراثة حقله نظرا لفقره فإنه يحمل العار إلى الجماعة... وفي الغد يجتمع الكل ويأتون لمساعدة ذلك البئيس، أو إلى أرملة بدون سند". وهناك شكل آخر يتجلى فيه تعاون أعضاء القبيلة، حيث يجتمعون كلهم لتنفيذ مشروع أو عمل اقتصادي محدد يعود بالمنفعة على كل أفراد القبيلة. أما من حيث علاقة القبيلة بالأرض، فإن الحق فيها يستلزم أساسا الانتماء إلى الجماعة، فكل عنصر قادر على العمل فإنه يملك الحق في الحصول على قطعة من الأرض يحرثها بحرية، ويتجلى ذلك من خلال الاستفادة من الماء... يتبين لنا أن أراضي البادية المغربية تنقسم إلى: أراض جماعية وأخرى ذات ملكية خاصة، كما قد نجد أنواعا من الأراضي المُحبّسة على "طلبة" المساجد... إلا أن هذا النوع لم يكن قادرا على سد الحاجات المتزايدة لأفراد القبائل بالإضافة إلى الأدوات التي ظلت جد تقليدية في استغلال هذه الأراضي، مما دفع بسكان القبائل إلى البحث عن وسائل تعوض لهم ذلك النقص الغذائي كاستحداث المتاجر الجماعية l'agadir التي تفتح أبوابها أثناء الكوارث... ويلعب السوق في هذا الإطار دورا حيويا حيث يساهم في سد حاجيات القبيلة. فهو بهذا المعنى ذو وظيفة تكمن في خلق التوازن والتكامل بين شتى القبائل، حيث يتم ترويج وتسويق البضائع بهدف تلبية الحاجيات لسكان السهول أو الجبال. كما يعد من الوجهة السياسية مناسبة لتكوين الرأي العام بغاية إدماج القبائل المتنافرة، وحل النزاعات في ما بينها، من هنا جاز اعتبار السوق مركزا لوحدة القبائل. ولهذه الغاية يتم تأمينه تلافيا للانتقامات والأخذ بالثأر، لذلك غالبا ما نلاحظ أنه يوضع تحت حماية ولي صالح أو أمغار حيث يتم منع حمل السلاح... ومن تجلياته الأخرى أيضا، ذلك التبادل الاقتصادي الذي يتم بين سكان الواحات الصحراوية وسكان الشمال، حيث نجد الأولين يتجهون أثناء فصل الصيف نحو الشمال حاملين معهم كل أنواع التمور وكذا منتوجات ماشيتهم حتى يقايضونها بالحبوب، وبحلول فصل الخريف يستعدون للعودة إلى واحاتهم. "هذه التبادلات المنتظمة تؤسس تضامنا حقيقيا يربط الرُّحل بالمستقرين وهو أحد الملامح ذات الدلالة في الاقتصاد المغاربي". وتضيف في نفس السياق مشيرة إلى ما يربط الريفيين وشبه الرُّحل بقبائل السهول، ذلك أن الأولين سواء كانوا بالمناطق الجبلية أو الساحلية، فإنهم يحملون كل أنواع الخضار والفواكه والزيوت... ومنتوجات صناعتهم اليدوية لمقايضتها بالحبوب التي يتميز بها سكان السهول. إن هذه اللقاءات التبادلية تعتبر وسيلة من وسائل تعويض الخسارات الاقتصادية المحلية، كما تقدم أيضا فرصة مناسبة لتجديد التعبير "عن علاقاتهم التضامنية". نخلص مما سبق إلى أن هوية القبيلة لا يمكن أن تتحدد من خلال انغلاقها على نفسها وإنما من خلال علاقتها بالعالم الخارجي. ولعل هذا ما دفع ببيير بورديو إلى أن يؤكد بصدد الجزائر قائلا: "ليس هناك أي دليل يحتّم الفصل بين العرب والبربر، بين الرُّحل والمستقرين، قبائل المرابطين أو قبائل ليست كذلك، إن نفس البنية توجد مشتركة لديها، بنية عائلية، بنية أبوية". من هنا نفهم كيف أن الظروف الطبيعية وضعف الإنتاج بهذه المناطق، يفرض على السكان بأن يختلطوا في ما بينهم من أجل خلق نوع من التوازن والتكامل الاقتصادي الذي يجد تعبيره الكامل في بنية فوقية ملائمة لهذه القاعدة الاقتصادية تشمل عدة مؤسسات اجتماعية وسياسية. يعتبر "الإخس" العنصر القاعدي للقبيلة، وبناء على ذلك يمكن القول بأن القبيلة تتكون من عديد من هذه الخلايا الاجتماعية متساوية نسبيا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، مما جعلها تنتظم ذاتيا من خلال حكومة تضمنها "الجماعة" التي تتشكل غالبا من رؤساء العائلات (الإخس) وهذه الحياة (الجماعة) هي التي تعكس النظام الاجتماعي للقبيلة، وحسب الأعراف القبلية، فإن "الجماعة تكون مفتوحة أمام كل فرد ذكر متزوج على الأقل منذ سنة، وتُتخذ القرارات من قبل كل الممثلين، رؤساء "الإخس" الذين يسنون القوانين ويضعون الإجراءات التي يجب اتخاذها باسم الجماعة كلها. وتتكون الحياة السياسية عموما من أبكار كل إخس فهم في مجموعهم يشكلون هذا المجلس "الجماعة". فعلى المستوى الاقتصادي تقوم الجماعة بمراقبة "المتجر الجماعي l'agadir" كل سنة، حيث يجتمع رؤساء العائلات في بناية المتجر ليعينوا المراقبين، كما يسهر أيضا على صيانة النزاعات، كما يحدد فترات استغلال الغابات وحقول الرعي، كما يتدخل في استصلاح السواقي وتعيين موظفين يقومون بتنظيم الري، أما على المستوى القانوني يسُن ويُشرّع، كما يعمل على تنفيذها وتطبيق العقوبات على المتجاوزين... أما على الصعيد السياسي فإن الجماعة هي التي تقوم بتجنيد القبيلة أثناء نشوب نزاعات ما، كما تقوم بعقد التحالفات مع المتحدات القبلية الأخرى، تُقرر الحروب، وتفاوض، وتعقد الاتفاقيات... كما تتدخل في تحديد النهج السياسي الذي يجب السير وفقه تجاه القبائل الأخرى، أو تجاه المخزن. ويُعرف أعضاء هذه الهيأة باسم "الديوان" أو "الأيت أربعين" وهو الاسم الشائع، وقد يعينون من بينهم رجلا أكثر حكمة، أو أكبرهم سنا ليشغل وظيفة رئيس الهيأة، يتحمل مسؤوليات تمثيلية تجاه الخارج المقدم أو الشيخ، إلا أن سلطته تكون جد محدودة، لأنها لا تمارس إلا في الحدود التي تعبر عن رأي وطموحات أعضاء الجماعة، وعندما يُثار مشكل ما مهم يتم عرض المسألة على رؤساء "الإخس" ليُدلوا فيها بآرائهم ونصائحهم. وهناك بعض المهام التي تظهر بحسب الظروف، كقيام حرب مثلا، حيث تُشجع على إبراز رجل ما، يتخذ المبادرة في توجيه العمليات العسكرية، إلا أن هذا المنصب المؤقت، لا يلبث أن يختفي بمجرد انتهاء الحرب. إن هذه التنظيمات تبدو متوافقة مع طبيعة المجتمع البدوي وقساوة الحياة بها، إلا أن ما يمكن ملاحظته بصددها هي كونها مؤسسات يمكن وصفها بأنها تتميز بنوع من "الديموقراطية العفوية" البدائية التي تنبني على قواعد مؤقتة وعابرة، كما تقف عائقا أمام أي نمو متميز لفئة ما على حساب الجماعة، إلى درجة منع وجود أية اختلافات اجتماعية... كل هذا ساهم بفعالية في تغييب ظهور فئة اجتماعية متعالية على القبيلة. لقد ساهمت هذه التنظيمات القبلية بالنسبة لأعضائها في تحقيق نوع من الاستقلال الذاتي، إلا أنه استقلال لا يمكن رفعه إلى درجة الانغلاق والانعزال عن بقية القبائل الأخرى إلى حد تكوين "جمهوريات مستقلة" كما ذهب إليه روبير مونتاني. لم يكن المجتمع القبلي مجتمع أغراب، ويتضح ذلك من خلال علاقات التحالفات بين القبائل المجاورة، كما أن العامل الاقتصادي يفرض على هذه القبائل ضرورة التعاون بينها، نظرا للكفاف الاقتصادي المميز للإنتاج القبلي. من هنا كان ضروريا تجسيد التعاون من خلال ربط علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية بين مختلف المجتمعات القبلية.