من الملاحظ أن العلمانيين ومن عاونهم في إفسادهم يراهنون على فئة الصامتين- وهي الأكثر- ويستغلون صمتها في الكذب عليها، في تحقيق أهدافهم؛ وذلك حين يزعمون أن من يعارض مشروعاتهم التغريبية هم فئة قليلة من المتشددين فقط، مصورين للناس وللغربيين أن المجتمع كله يقف معهم، وأن إرهاب المؤسسات الدينية، وتطرف العلماء والدعاة والمحتسبين هو الحائل دون عجلة التحديث والتطوير على النمط الغربي المبيح للمحرمات، مدعين أنهم فئة قليلة لا تمثل المجتمع، ويستدلون على ذلك بصمت كثير من الناس، ووقوفهم من معركة مع الإسلام موقف المتفرجين. الخوف من الإرهاب العلماني، الذي حول بعض المنابر الإعلامية إلى محارق نازية لمن يقف في وجوههم أو يناقش أفكارهم، أدى بكثير من الكتاب والغيورين السلامة على مواجهة أباطيلهم ودحضها بالعلم والعقل، لا السب والتهديد والتهويل الذي بات شعارهم الوحيد. ولا تكاد تخطيء عين المتابع للشأن المغربي الهجمة العلمانية على الإسلام وحملته ودعاته ومناهجه ومؤسساته، مستخدمين كل الطرق والوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافهم التغريبية سواء كانت وسائلهم مشروعة أم غير مشروعة..أخلاقية أم غير أخلاقية، فالافتراء والكذب والغش والتدليس والبهتان من الواجبات في الدين العلماني العربي، إذا كانت تحقق أهدافهم، والانقلاب على المبادئ العلمانية المعلنة من نحو: مصادرة الرأي الآخر، وتكميم الأفواه، وإقصاء الخصوم، وتحريض القوى السياسية الداخلية والخارجية على استئصالهم يعد من الفروض إذا كان يحقق المقصود. وكل هذه الأخلاق الرذيلة، والقيم المنحطة التي تخلق بها العلمانيون في معركتهم مع دين الإسلام وحملته ودعاته وعلمائه تصبح من فضائل الأخلاق، ومن أوجب الواجبات على طريقة مكيافيلي ونيتشة ووليم جيمس وجون ديوي وأمثالهم من رموز التسويغية والنفعية. ومن المتفق عليه عند الجميع - عدا العلمانيين وهم يكابرون- أن مجتمعنا المغربي ينحاز إلى الدين فهو مقتضى الفطرة و أهل العلم والدعوة، ويثق بهم، ويستفتونهم في أمور دينهم ومماساهم في حملتهم الشرسة على المقدسات الدينية والثوابت أن التشريعات الوضعية الغربية ليست معنية بحماية العقائد والديانات من التجديف - حسب المصطلح الغربي- وإنما هي معنية باحترام رغبة الفرد في التدين، وهذا مبني على نظرتهم للإنسان بأنه مركز الكون، فالإنسان أهم من الإله ومن الدين، وهو ما ينادي بالأخذ به العلمانيون تصريحا أو تعريضا؛ ولذا يكثر حديثهم عن الإنسان والقيم الإنسانية؛ حتى صارت فضائل الأخلاق تنسب للإنسان فيقال هذا تصرف إنساني، والرذائل تنفى عنه فيقال هذا تصرف غير إنساني، ولا تنسب للدين، وكثرة تناول ذلك في الإعلام جعله ينتشر في استعمالات الناس، ويجري على ألسنتهم دون قصد. والفرق بين احترام الدين واحترام حق الفرد في التدين كبير؛ إذ إن أي شتم للدين أو إهانة له أو تشكيك فيه، أو قدح في حكم من أحكامه؛ يدخل ضمن إطار حرية الرأي فيسمح به، والتشريعات الغربية في حرية العقيدة لا تجعل قيداً على أي شيء من ذلك إلا إذا أدى إلى تحريض يشكل خطراً على أصحاب عقيدة ما، أو يحول بينهم وبين ممارسة شعائرهم. وأحياناً يوجد في التشريعات الغربية قوانين تمنع نشر الكتب التي تحوي تجديفاً لكن نادراً ما تستخدم، وبعض الدول مثل السويد واسبانيا ألغت قوانين التجديف، وفي أمريكا تهاجم المحكمة العليا بضراوة أي تشريع يحظر التجديف؛ لأنه ليس من شأن الحكومة أن تمنع تهجماً حقيقياً كان أم وهمياً على مذهب ديني معين. يقول دايفد سانتيلانا، وهو متخصص قانوني قارن القانون الغربي بالشريعة الإسلامية: إن معنى الفقه والقانون بالنسبة إلينا وإلى الأسلاف مجموعة من القواعد السائدة التي أقرها الشعب إما رأسًا أو عن طريق ممثليه، وسلطانه مستمد من الإرادة والإدراك وأخلاق البشر وعاداتهم... إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك؛ فالخضوع للقانون الإسلامي هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي فقط، بل يقترف خطيئة دينية أيضًا...فالشريعة الإسلامية شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلا ويقول مارسيل بوازار: ومن المفيد أن نذكر فرقًا جوهريًا بين الشريعة الإسلامية والتشريع الأوربي الحديث سواء في مصدريهما المتخالفين أو في أهدافهما النهائية، فمصدر القانون في الديمقراطية الغربية هو إرادة الشعب، وهدفه النظام والعدل داخل المجتمع، أما الإسلام فالقانون صادر عن الله، وبناء عليه يصير الهدف الأساسي الذي ينشده المؤمن هو البحث عن التقرب إلى الله باحترام الوحي والتقيد به. والعجيب أن هذا الفكر الإلحادي الغربي الذي نعاني الآن من تسلطه علينا نحن المسلمين سواء في نشر الإلحاد، بل فرضه بقوة السياسة وحماية الملحدين، وتسليط متعصبة النصارى على نبينا صلى الله عليه وسلم لانتقاصه والإزراء به، وحمايتهم بالقوانين التي صممت على وفق فكرة الحرية، ومحاولة تغيير التركيبة الاجتماعية للبلاد المحافظة ومحو دينها عبر الإيعاز لوكلائها في بلاد المسلمين بفرض تعاليمها بقوة القرار السياسي، ومصادرة النظام القضائي الشرعي وإحلال القانون الغربي الوضعي محله عبر خطوات مدروسةو مرسومة، تنتقل من خطوة إلى أكبر منها... أقول: أن هذا الفكر الغربي الإلحادي في أول مراحل تصديره للعالم الإسلامي رفضه المسلمون بقوة، وعلموا أنه يتعارض مع عبوديتهم لله تعالى، لكن مع جهود الغرب الدءوبة، وضعف المسلمين، وشراء بعض الدخلاءوالإنتهازيين حتى من أصحاب اللحى والعمائم الإسلامية استطاع الغرب أن يمرر كثيرا من أفكاره، ويفرضها على المسلمين عن طريق وكلائه، بقرارات سياسية استبدادية لا مشورة للناس فيها، وفتاوى مضللة قد قبض أصحابها ثمنها.. حتى صرنا إلى ما صرنا إليه الآن في انحدار شديد، نسأل الله تعالى الخلاص العاجل. هذا؛ وقد عايش المؤرخ المغربي اللامع أبو العباس أحمد الناصري (ت:1315) تسلل فكرة الحرية بمفهومها الغربي إلى المسلمين، فنقده بما يظهر مباينته لما جاءت به الشريعة الإسلامية، فقال رحمه الله تعالى: واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعًا؛ لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسًا: أما إسقاطها لحقوق الله؛ فإن الله تعالى أوجب على تارك الصلاة والصوم وعلى شارب الخمر وعلى الزاني طائعًا حدودًا معلومة، والحرية تقتضي إسقاط ذلك كما لا يخفى. وأما إسقاطها لحقوق الوالدين؛ فلأنهم خذلهم الله يقولون: إن الولد الحدث إذا وصل إلى حد البلوغ، والبنت البكر إذا بلغت سن العشرين مثلاً، يفعلان بأنفسهما ما شاءا، ولا كلام للوالدين، فضلا عن الأقارب، فضلا عن الحاكم. ونحن نعلم أن الأب يسخطه ما يرى من ولده أو بنته من الأمور التي تهتك المروءة، وتزري بالعرض، سيما إذا كان من ذوي البيوتات، فارتكاب ذلك على عينه مع منعه من الكلام فيه موجب للعقوق، ومسقط لحقه من البرور. وأما إسقاطها لحقوق الإنسانية؛ فإن الله تعالى لما خلق الإنسان كرمه وشرفه بالعقل الذي يعقله عن الوقوع في الرذائل، ويبعثه على الاتصاف بالفضائل، وبذلك تميز عما عداه من الحيوان، وضابط الحرية عندهم لا يوجب مراعاة هذه الأمور، بل يبيح للإنسان أن يتعاطى ما ينفر عنه الطبع، وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنا وغير ذلك إن شاء؛ لأنه مالك أمر نفسه فلا يلزم أن يتقيد بقيد ولا فرق بينه وبين البهيمة المرسلة إلا في شيء واحد هو: إعطاء الحق لإنسان آخر مثله، فلا يجوز له أن يظلمه، وما عدا ذلك فلا سبيل لأحد على إلزامه إياه، وهذا واضح البطلان؛ لأن الله تعالى حكيم، وما ميز الإنسان بالعقل إلا ليُحمله هذه التكاليف الشرعية من معرفة خالقه وبارئه والخضوع له؛ لتكون له بها المنزلة عند الله في العقبى. والحقيقة أن الغرب بهذه الحرية التي تحرر بها من عبودية الكنيسة والرهبان قد انتقل إلى عبودية أخرى لغير الله تعالى، وهي عبودية الهوى، الذي وصفه الله تعالى بأنه إله يعبد من دونه سبحانه في موضعين من القرآن هما قوله تعالى [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا] {الفرقان:43} وقوله تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] {الجاثية:23} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله يعبد من دون الله. وقال الحسن رحمه الله تعالى: لا يهوى شيئًا إلا اتبعه. وذكر الرازي رحمه الله تعالى أنه الحصر، أي: لم يتخذ لنفسه إلهًا إلا هواه. وهذا ينطبق تمام الانطباق على الحرية بمفهومها الغربي، فليست في واقع الأمر إلا تعبيد الناس لأهوائهم، فمنهم يترك هواه ويلتزم الهدى مستفيدًا من إطلاق الأهواء للناس باسم الحرية، فيجعل هواه في مرضاة الله تعالى وفقًا للحديث النبوي: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به. وهؤلاء هم القلة؛ لأن النفس البشرية نزاعة للشهوات، ومنهم من يركب هواه وهم الأكثر في الحضارة الغربية التي شيدت على هذه الفكرة، ويريدون تعميمها على البشر أجمعين. يقول برتراند راسل: إن الحرية بشكل عام يجب أن تُعرف على أنها غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات. ويقول لامونت: إن الإنسان لا يحيا إلا حياة واحدة، ولا يحتاج إلى ضمان أو دعامة من مصادر عالية على الطبيعة، وإن العالي على الطبيعة الذي يُتصور عادة على شكل آلهة سماوية، أو جنات مقيمة ليس موجودًا على أية حال...ففلسفة النزعة الإنسانية تسعى على الدوام إلى تفكير الناس بأن مقرهم الوحيد هو هذه الحياة الدنيا، فلا جدوى من بحثنا في غيرها عن السعادة وتحقيق الذات؛ إذ ليس ثمة مكان غيرها نقصده، ولا بد لنا نحن البشر من أن نجد مصيرنا وأرضنا الموعودة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه، وإلا فلن نجدهما على الإطلاق. وعدم الإيمان بالآخرة أو الشك فيها هو الذي جعل الغربي يعب من شهوات الدنيا؛ لأنها مضمونة عنده دون الآخرة؛ ولذا أتقن الغرب أمور الدنيا، وأهملوا ما يتعلق بما بعدها، وكانت حياتهم في الدنيا للاستمتاع لا لعبودية الله تعالى، فكانت معيشتهم سدى وعبثًا، والله تعالى يقول [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ] {المؤمنون:115} وقال تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] {القيامة:36} أي: هملاً لا يؤمر ولا ينهى.