كيف يطيق المُقَدَسون أنفسهم؟ المقدِسون معذورون إنهم ضحايا التباس عيونهم، ضحايا اللغة وضحايا مكرها وضحايا التأويل. لكن الذين يثيرون السؤال حقا هم أولئك الذين يصنعون كرسيا من كل أشياء هذا العالم النسبي ثم يخطبون بالمقدس ويصنعون أوهامهم المقدسة. كيف فجأة وفي يوم من أيام هذا العالم الحزين يحاربون الله ويتسلقون عرشه في رعونة وصلف وكأنهم يعاركونه كيعقوب كما تدعي الكتب فيسميه الرب إسرائيل؟إنهم يريدون الكلام بالمقدس من خلال لغة نسبية، حاجتهم للغة فضيحتهم وعريهم حاجتهم للتسليم بقانونها تلك مأساتهم ومقتلهم. مشكلة المقدس كل مقدس ليس في جرأته على الناس بل في جرأته على الله، المقدس حرب على الله بسيف الله. في مغربنا اليوم، المغرب الذي هو بحاجة للمصالحة مع نفسه ومع قيمه ومع كل جراحه التي عطلت صلته بمستقبله يخرج علينا مدعون ينافحون عن الدين وهم بعيدون جدا عن روحه وعن مقاصده باسم الدفاع عن الرسول والدفاع عن الله وباسم الغيرة على الإسلام والحق أن نظرة عميقة في تاريخنا، التاريخ الذي يدرس لأبنائنا تطرح دائما نفس السؤال: هل قرار القتل قرار أمة رشيدة؟ يجمع كثيرون على حب الشيخ الجليل شيخ الإسلام لكن كتبه وتأليفاته الإسلامية الرصينة لم تشفع له على عهد الموحدين حيث قتل عام 544 هجرية بسبب رفضه الامتثال للموحدي ابن تومرت الذي وبعد أن تحمل القاضي عن أهل سبتة كل شيء لينجيهم من بطش ابن تومرت طلب منه هذا الأخير الذي ادعى أنه هو الإمام المهدي المنتظر أن يألف كتابا يقر فيه أن ابن تومرت هو هذا الإمام المنتظر وعندما رفض العلامة المسلم والعالم الجليل أن يساومه أحد على الحق تحت عنوان الدين أمر بقتله فتناوشته الرماح وقطع جسده إربا إربا ثم جمعت اشلاء جثته وامر ابن تومرت ألا يدفن في مقابر المسلمين من قضى كل عمره في الكتابة عن شمائل الرسول وعن دين الله العظيم بل تجاوز الموحدون الذين يوحدون الله كل حد وأقطعوا النصارى تلك المنطقة المجاورة لقبره ثم كان ينبغي انتظار الدولة المرينية ليجبر ضرر هذا الإمام الفذ. أسوق هذه الواقعة التاريخية من تاريخنا المغربي لأقول إن كل فتوحات الموحدين وكل ما حققوه تحت راية نشر الإسلام لايشفع لهم في قطرة دم واحدة من دم هذا العلامة المسلم. كل ذلك تم تحت عنوان حماية المقدس وكل ذلك تحت سماء الغيرة على الدين بتكفير اهل الدين، إن تحويل الدين إلى عشائر دلالية وإلى كانتونات مقدسة وعلب ومنتوجات دينية تتولى كل شركة الترويج لمنتوجها مستغلة أبشع استغلال رموزا دينية مشتركة بالوصاية على الله ورسوله إنما تقدم خدمة جليلة لأعداء الدين. وكما حدث عندما قام بعض متخلفي الغرب بإذاية الرسول والإسلام إما بحرق القرآن أو رسم رسوم كاريكاتورية عنه. فقد وجدوا من ينصت لهم ويقع في فخهم من المسلمين، والأمر هنا يحتاج إلى شرح وتبصر، فكثير ممن يشتغلون لتشويه دين الإسلام يسمون الإسلام بالديانة المحمدية أي اشتقاقا من اسم محمد تجاوبا مع اشتقاق المسيحية من المسيح وهو أمر مقصود ومتعمد رمزيا ودلاليا ليقع المسلمون في فخ الربط بين الدين من خلال مدخل اسمي يرتبط بالرسول أكثر مما يرتبط بالله فيعمدون إلى ضرب الرمز بعد تشكيله مدخلا لتقع التسوية في الحكم وتغيب عن المسلمين كل الشواهد الكثيرة التي وقع فيها عفو الرسول عن كثير من الذين آذوه أذى كبيرا. إن الوقائع التاريخية الكثيرة تشهد دائما على أن الفهم القاصر والسطحي للدين والذي مسح من الذاكرة مثلا كل كتابات ابن تيمية المستنيرة سواء في جوهر الدين أو في التصوف أو سواه و شغل الناس فقط بفتاواه المتصلة بسياقات محددة ومبنينة وفق ضروراتها وتنسيباتها الزمانية والمكانية وإحداثياتها التأويلية كل ذلك جعل من المقدس أداة تفقير دائم أداة للغة الجفاف والتسخيف وتحويل الدين إلى ممارسة بشعة تقترب من الكانبيالية. واليوم أكثر من أي وقت مضى يرتفع صوت الحلاج ضحية القمع والتفسير المغرض لدين الله الحلاج الذي قال: "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقربا إليك، فاغفر لهم فإنك لو كشفت لهم ماكشفت لي مافعلوا مافعلوا وإنك لو سترت عني ماسترت عنهم مالقيت مالقيت، فلك التقدير فيما تفعل ولك التقدير فيما تريد". وبصرف النظر عن كونه كان محقا في اعتقاداته أوغير محق فإن القاعدة تقضي أن نترك سؤال الحق للحق سبحانه وألا ننازعه في سلطانه. وسيبقى الصراع مشتعلا بين الشعور والمنطق في حرب لاهوادة فيها الشعور والانفعالية تزعج المنطق والمنطق له حربه أيضا لكن الأهم هو ألا نضع أنفسنا حكاما في هذه الحرب، الأهم هو ألا نزاحم الله في ألوهيته تحت أي عنوان. هي علاقتنا المأزومة دائما بكل مقدس سواء أكان مقدسا دينيا أو مقدسا سياسيا وإذا صدقنا الأنتروبولوجيا، فللمقدس ميسم جماعي تنتجه وتحميه الجماعة فينسحب على كل أفرادها، غير أنه لحظة يكون فرديا يكون ملزما بالتعالي و الاحتماء بالميتافيزيقا. لحظة يحتمي بفكر الجماعة يصير نافذا في اللاشعور، متفاعلا مع حركية الذات في علاقتها بنفسها وبالواقع. لحظة يأخذ ميسمه الفردي يصير الخوف صديقه الوفي وسلاحه الباتر -إذا صدقنا مونتيسكيو- لكن ماذا عن المقدس والمغاربة؟ فقد صنع هذا الشعب على مدار تاريخه الطويل رزنامة من المقدسات، متح بعضها من الدين وفكر القبيلة والجماعة والميتولوجيا، ومتح بعضها الآخر من طبيعة الفكر السياسي الذي رسخ وتعايش مع تقاليد معينة طيلة قرون تداولت حكم المغرب خلالها أنماط فكرية وسياسية مختلفة.لكل أمة إذن مقدساتها، وكل شعب يصنع مقدساته خلال صيرورته التاريخية بتعالق مع دينه ومعتقداته وثقافته. لذلك نقول مع الفلاسفة (لو لم يكن المقدس لصنعه الإنسان). السؤال اليوم الأكثر إلحاحا في العهد الجديد هو عن علاقة المقدس بالفكر الديمقراطي، عن فكرة المغاربة عن المقدس، كيف يعجل المقدس حركيتنا نحو الديمقراطية؟ وكيف يضعنا في مدار الحرية السياسية المطلوبة؟ لنتعلم أن المقدس ليس رهنا بالفكر الديني أو القبلي أو حتى بنمطيات و بروتوكولات حكم معين. ففي رحم العلمانية والفكر الشيوعي تفتقت بذور مقدسات كثيرة. المقدس الفاعل يرضع دائما من الشمس و لا ينمو في العتمة، لأنه حينذاك يتشرب مذاق و طعم الخوف، ولنتذكر أن النبي محمد (ص) كان يرهن حركته وقدسيته بقدسية الموقف المبني على الاقتناع، ولنتذكر أن مقدس الوطن والحق التاريخي هو دينامية الحركة الفلسطينية التي نقف متفرجين على تحولاتها الإرتكازية الكبرى. المقدس الأمريكي كان دائما هو المصلحة القومية لأمريكا والشعب الأمريكي. المقدس الذي ننتظر دسترته يوما ما هو المقدس الفاعل المتنامي مع ثقافة التحول و ثقافة الحداثة، هو المقدس الديناميكي المحرر (بكسر الراء لابكسر الرأي) هو الذي يتكيف مع توق المغاربة للحداثة ويتحدد كرافعة تاريخية تقطع مع كل ما يكبل الإنسان أو يعوق استحقاقه لعصره. المغاربة اليوم يطالبون بفهم منتج للمقدس، مقدس المجتمع المدني ومقدس الفكر الديمقراطي الصحيح ومقدس الحرية الفكرية التي نتحلب شوقا لرؤية بصماتها في مشهدنا الثقافي. إنني أخشى على المغرب حربا مقدسة ضد الحياة.