وردتْ هذه العبارة، في كتاب «طرفة بن الوردة» للصديق الشاعر، قاسم حداد. وهو يعني به طرفة بن العبد، هذا الشاعر «الغلام»، الذي قُتِل وهو في مقتبل الحياة. للعبارة سياقُها الشعري، وهي عبارة تعني إدانة قَتَلَة هذا الشاعر، وإدانة عشيرته التي أفْرَدَتْهُ، وتحامَتْه، وفق بيته المعروف، لا لشيء إلا لِجُرْأَتِه، ولكونه كان صاحب رأيٍ ونَظَر، أو صاحب فكر، بالأحرى، واختار أن يكون حُرّاً في حياته، وفي ما اختاره لنفسه من مُتَع الحياة، أو كما قال عنه طه حسين؛ فهو كان مَيَّالاً إلى حياة «النعيم»، ولم يكن «يؤمن بشيء بعد الموت»، وكان واضح «الإلحاد» [!] وإباحياً. رغم ما سيراه الرسول، في قوله، برواية لعائشة، عندما سمع بيتَه «سَتُبْدِي لَكَ الأيامُ ما كُنْتَ جاهلاً …»، أنه من كلام الأنبياء. فطرفة كان شاعراً «جاهلياً»، وهو مات قبل مجيء الإسلام بنحو سبعين عاماً. لا علاقة له بالإسلام، كما ظهر في ما بعد، ومعنى الإلحاد، كما أشار إليه طه حسين، أنه كان خارجاً عن مفهوم الدين والإيمان، واختار لنفسه أن يكون خارج معتقدات القبيلة، وخارجَ معتقدات الزمن الذي عاش فيه، وكان اعتقادُه، أن لا حياة بعد الموت، والحياة، عنده، كانت هي ما يجري هنا والآن. لا قَبْلُ ولا بعدُ. ولهذا السبب، ربما، دعَا لَهُ أبو العلاء المعري، بقوله «يا ابْنَ أَخي، ياطرفةَ، خَفَّفَ الله عنك». فحين تتنكَّر الجماعة لفكرِ الفرد ولرأيه، وتفرض رأيها هي بالقوة، دون أن تقبل هذا الفكر الآخر، أو تعتبره رأياً يحتاج إلى المناظرة والاحتجاج، وتعمل على إدانته وإقصائه، واتِّهامه بالمُرُوق، فهي إنما تعمل على قَتْلِه، أو تُهَيِّء لِقَتْلِه، سواء أكان القتل رمزاً، أم حقيقةً. فحتى عندما جاء «المشركون»، للرسول، وطلبوا منه التناوب في عبادة الآلهة؛ أن يَعْبُدَ الرسول آلِهَتَهُم سنةً، ويعبدون الله سنةً، فهو رفضَ، واعتبر دينَهَم غير دينه، وعبادتهم غير عبادته، ولاشيء يجمع بين ما يؤمنون به، وبين ما آمن به، أي ما يَفْصِل بينهما أكبر مما يمكن أن يجمعهما، فكان جوابُه، وفق ما جاء في سورة الكافرين؛ « لكم دينُكُم ولِيَ دِينِ» [آ. 6]. في هذا ما يَخْتَصِر معنى الخِلاف، ومعنى الفكر، أو الإيمان، الذي ليس هو بالضرورة إيمان الآخرين ولا فكرهم. رغم أن هناك مَنْ سيرى أن الإسلام، خرج عن هذا المعنى وأمر بالحرب، وبمواجهة «المشركين»، وقتالهم. فما ينساه هؤلاء، هو ما جرى من تطوُّرات، في العلاقة بين الطَّرَفَيْن، وما وقع من احْتِدامات، كانت وراء خروج الإسلام عن هُدْنَتِه، وإقرار الحرب، بدل المُحاجَجَة التي لم يتنازل عنها القرآن، وكان في كل ما ذهب إليه، إنما يعمل على تأكيد إقناع غير المسلمين بالإسلام، وأن عبادة غير الله، إنما هي ضربٌ من الشِّرْك، بتأكيده على مبدأ الوحدانية، وأن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له. الديانات والمُعتقدات، جميعُها، هي إما صحائف، أو كتُبٌ، وما تدعو له قائم على الحُجَّة والدَّليل، والقرآن هو في ذاته، بما فيه من سورٍ وآيات، مُعْجِزٌ في حدِّ ذاته، وفيه ما لم يكن يعرفه الناس من قبل، وفيه ما تقاطع فيه الإسلام مع غيره من الديانات، مما هو معروف، وما اختلف فيه معها، أي ما انْفَرَدَ به كمُعْتَقَد جديد. لم يَجُبّ الإسلام ما قبله، مما كان في جزيرة العرب، من عادات، وسلوكاتٍ، اجتماعية وثقافية، وحتى في ما كان من معاملات تجارية، وعلاقات «سياسية»، ومعاهدات مع دول الجِوار، بل إنه نازع في أمور، وكَرَّسَ غيرها، أو أكّدَها، لأنه لم يكن ليأتي من فراغ، فهو جاء في سياق مجتمع وثقافة، كان لا بد من مراعاة أهميتها عند العرب، ممن جاء القرآن بلسانهم. في العلاقة بين الرسُل والأنبياء، كان التوحيد مبدأ العلاقة بينهما، لا أحد أنكر وجود الله، ولا أحد قال بغير الوحدانية. وبقي الله هو خالق الكون والعباد، وهو مصدر الحقيقة، و«عالم الغيب والشهادة». إلَهٌ واحد لا آلهة كثيرة؛ هذا ما جاءت الرُّسُل والأنبياء لتأكيده، ونَفْيِ غيره مما كان داخلاً في الاعتقادات الجارية في زمنهم. ما سيَحْدُث، ليس في الإسلام، بل عند اليهود وعند المسيحيين، ظهور أشخاص، وضعوا مفهوم الله نفسه في سياق شخصي، أو إيديولوجي سياسي، بمعنى ما يخدم مصالحهم، وأفكارهم. فهم بدل أن يعملوا على خدمة الدِّين، وطاعة الله، عَمِلُوا على استعمال الدِّين لخدمة مصالحهم، وأصبحوا ينطقون باسم الله، أو يتكلَّمون مكانَه، ويتَّخذون منه ذريعةً لتبرير أفكارهم. فالله، عندهُم، أصبح ملكية فرديةٍ، يتصرفون في كلامه، كما يشاؤون، ويُزَوِّرون قوله، بما يخترعونه من تأويلات، لا علاقة لها لا بالكتاب، ولا بما في بعض السنة من الصواب. فإله السلفي الإصلاحي، ليس هو إله السلفي الجهادي، ولا هو إله غيره ممن يستعملون الله في غير ما وُجِدَ له. إلى درجة أننا لم نَعُد أمام دينٍ واحدٍ، بل أمام ديانات، ولا أمام كتابٍ واحدٍ، بل أمام كُتُب. مِلَلٍ ونِحَلً، بتعبير الشهرستاني، وهي مما ابتدعته الخلافات السياسية، وما فَرَّق بين المسلمين، وأدَّى إلى توسيع المعنى الواحد، وتشتيته، في شكل مذاهب وتيارات، ما انعكس على ما هو حاصل، اليوم، في فهمنا للدين، ولدوره في حياة الناس، وما انعكس على مفهوم «العالِم»، و»الفقيه»، فأصبح كُلّ يُفْتِي بِلَيْلاه، وبما طاوَعَ هَواه، لا بما هو «أصلٌ» في الكتاب «، وببعض ما في السنة، بتعبير الشيخ محمد عبده. بهذا المعنى، ماذا تبقى، إذن، من الله فينا ؟ وهل صورة الله، وفق تَمَثُّلِنا لها، هي نفس صورة هؤلاء، ام أنَّ كل واحد مِنَّا يستعمل هذه الصورة، كما يشاء، ووقتَما يشاء، وفي ما يشاء ؟ إن أخطر ما تفعله هذه السلفيات المختلفة، ممن أعْتَبِرُهُم سلفيات عمياء، هو تكثير ذات الله، وتنويعُها، ليس بما تعنيه من حضور في الزمان والمكان، بل بما يَتَأَوَّلُونه من هذه الذات، ذاتِها، وبما ينسبونه لها من أقوال و[أفعالٍ]، هي من ابتداعهم وصُنْعِهِم، أو هي مجرد خيالات، وتَوَهُّماتٍ، الغرض منها، إضفاء شرعية دينية على فِكْرِهِم، الذي هو فكر شاذّ، خارج عن نطاق الدين نفسه، لأنه فكر مُغالاةٍ وشَطَطٍ، وانحراف عن «الأصل». وكما حاول أن يتمثَّل هذا المعنى أحد الفلاسفة المعاصرين، ففكرة « الإلحاد «، عند هؤلاء، كانت « تُسْتَخْدم سياسياً لإقصاء وتمييز وتعنيف الشخص الذي لا يؤمن بإله آخر غير ذاك الذي تستند إليه سلطة المرحلة والمكان في إرساء نفوذها وسلطانها «. ما جعلهم يَدَّعُون « أنّ الله قد ولاّهُم ليتكَلَّمُوا ويَسُنُّوا القوانين ويُصْدِروا الأوامر ويتحرّكوا في السرَّاء والضَّراء باسمه». ولعل في صَمْت الإله « ما « سمح بثرثرة وزرائه [هؤلاء] الذين يُسيئون استغلال هذا النعت: فمن لا يؤمن بإلههم لا يؤمن بهم «. فهُم الإله، والإله هُم. لا فرقَ. في هذا تَتَبَيَّنُ مأساة الحلاج الذي أُدين لأنه ذهب إلى ما يُشْبِه هذا المعنى، وتَتبيَّنُ مأساة طرفةَ بن العبد، الذي كانت قبيلتَه، حتى قبل ظهور الإسلام، تعتبره « مُلْحِداً « خارجاً عن آلهتها، وعن إيمانها، ما سَهَّل فَرْزهُ، ووضْعه في يَدِ قَتَلَتِه، عِلْما أن القبيلة كانت، مهما لَفَظَتْ بعض أعضائها، فهي تحتكم، في علاقتها بمن لا ينتسب لها من القبائل الأخرى، إلى مبدأ النُّصْرَة، أي « انْصُر أخاك، ظالِماً كان أم مظلوماً «. وفي هذا تتبيَّن استمرارية هذا النوع من الفكر الأُحاديّ، الذي يختصر الكون والمعرفة، كما يختصر الحق والباطل، في نفسه، وفي ما آمَنَ به. المشكلة، في تصوري، لا توجد في المُعْتَقَد، في ذاته، فهو مهما يكن مجرَّد فكرة، أو مجموعة من الأفكار، تدعو لشيء ما، وهي أفكار تتوجَّه للإنسان. بل إنَّ المشكلة، في أساسها، توجد في طريقة الاعتقاد، في مَنْ يَعْتَقِد، وفي كيفية الاعتقاد. أي في طريقة فهم هذه الأفكار، وفي طريقة تفسيرها وتصريفها. ولعلَّ الفرق بين الفكر الديني، والفكر الفلسفي، هو طبيعة الرؤية التي يصدر عنها كل فكر من هذين الفكرين. فإذا كان الفكر الديني، بتعبير أونفري، مشدوداً بنوع من الحنين الدائم إلى الماضي، أي إلى ذلك « الفردوس المفقود «، فالفكر الفلسفي، هو فكر يتَطَلَّع إلى المستقبل، أو هو مشدود إلى الأمام، فكر غير مريض بالوراء، يعيش على تَخَيُّل الماضي، أو استعادته، بنوع من التأويل الفردي، الذي يتجاوز ما جاء به الدين نفسه. إنَّ ابْتِداعَ هذه السلفيات الراهنة، ليس ابتداعاً بمعنى الإضافة، فابتداعهم هو إفقار للنص من معناه، وتحوير ما تبقى منه في يدهم، وهو نفسه ما تبقى من الله في فهمهم، وفي رؤيتهم، وفي فكرهم. إنها ابتداعية ارْتِكاسِيَة، تعود بالدِّين نفسه إلى الوراء، حتى ولو كان في الدِّين ما يدفعه إلى الأمام. كان في الفكر الإنساني، دائماً، مؤمنون أو [سلفيون] مُبْتَدِعُون، والعبارة لأونفري، أطلقها على إيرازم ومونتيني وغاسيندي وبيير شارون وهوبز، باعتبارهم مفكرين متحرِّرِين رغم أنهم مسيحيون، أي يعتقدون بالمسيحية. وهو ما يمكن أن نعود به إلى فقهاء وعلماء ومفكرين مسلمين، يدخلون في هذا المعنى، من أمثال أبي حيان التوحيدي، وابن عربي، وابن رشد، وعلي عبد الرازق وطه حسين. أليس في ما كتبه طه حسين، في كتابه «على هامش السيرة»، بأجزائه الثلاثة، وما كتبه في كتابه «الشيخان»؛ أبوبكر، وعمر، وما كتبه في كتابه «الفتنة الكبرى» في جزئين، عثمان وعلي، ما كان بمثابة الضوء الذي كشف عَرَاء كثير من الكتابات التي كانت لا تتحقَّق من الروايات، وتأخذها كما هي، دون تَقَصٍّ ولا تَثَبُّت. أوَ ليس في هذه الأعمال، ما فتح هذه المرحلة من تاريخ المسلمين والإسلام، على بعض الحقائق التي كان السلفيُّ المُتَزَيِّدُ، لا المبتدع بالمعنى الذي أشرتُ إليه، يعتبرها من المقدسات، رغم ما أحاط بها من شكٍّ واهتزازٍ ؟ هذا النوع من الإيمان المُبْتَدِع، المُضيف، الذي يُنْصِت للحقائق، يَتَمَلاَّها، ويتأكَّد من صحتها، ورجاحتها، هو وحده الكفيل بإعفائنا من فكر لم نخرج منه، لا قبل الدّين ولا حتى بعده. فما حاقَ بطرفة، وهو مثال فقط، في ما سُمِّي ب «الجاهلية»، هو ما حاق بابن عربي، وبابن رشد، وبمحمد عبده، وبطه حسين، وغيرهم ممن تحرَّرُوا من فكر التبعية والتكرار، وابْتَدَعُوا، بمعنى الإضاءة والإضافة، لا بمعنى التَّزَيُّد والتَّمَحُّل، بتعبير القُدماء.