كان بول سيزان يقول: "إن ذروة الفن كله في رسم الوجه البشري"، لذلك كان التشكيليون يتهيبون من رسم البورتريه، للتعقيدات الملازمة لهذا الفن القديم تاريخيا الذي التصق بالإنسان منذ الحضارات القديمة، غير أن التشكيلي محمد السالمي وجد في هذا الفن المستعصي ضالته وفيه علا كعبه إلى جانب باقي مجالات انشغالاته في الرسم والنحت، إنه مبدع البورتريه بامتياز. منذ بروز أعماله في بداية الألفية الثالثة، وجدنا أنفسنا أمام فنان متمكن من صناعته خبير بتقنيات مجال تخصصه الذي عمل فيه مدرسا للفنون التشكيلية ومبدعا مداوما على الحضور، إنه طاقة من العطاء لا تنضب ويمتلك أفقا إبداعيا مبشرا بالكثير يؤثثه بصبر النحات، لقد ظل مواظبا ودائم الحضور باستمرار وله مؤهلات فنية هائلة للذهاب إلى أبعد الحدود تعبيريا. تبدو لوحات/بورتريهات محمد السالمي ليست محاكاة للواقع، بل إعادة خلق إنسان بملمس مختلف حسب التقنيات التشكيلية الجديدة التي تميز بها وتفنن في مجالها، إن النموذج المصور هنا تضاف إليه التعبيرات واللمسات الفنية لريشة المبدع، فهو ليس "رساما عموميا" على شكل الكاتب العمومي الذي يوجد رهن الطلب، لأن السالمي لا يقبل إلا برسم تلك الوجوه الإنسانية التي خلق معها وشائج سرية للألفة، يرسم الصورة الشخصية بعين ثالثة، يؤثث على فضاء القماش حياة أخرى لصاحب البورتريه/النموذج، حيث تصبح الفرشاة لصيقة بالقلب، ترسم الملامح بماء الحياة، تتحول الصباغة إلى أنسجة وخلايا حية، تجعل البورتريه ناطقا مبهجاً تسري فيه دماء الحياة، بكثافة من الحزن الغامق أو المرح الجميل. يرسم السالمي البورتريه بحذق كبير وبدقة عالية، يحتفظ بالملامح الواقعية للشخص لكنه يهبه حياة أخرى، الرسم/الديمومة، وجه الخلود، استدامة الأثر في الزمن، يقبض على اللحظة المنفلته، يعيد المتلاشي في الزمان إلى قلب الحياة النابضة، يبعث في الوجوه التي يرسمها نوعا من السرمدية التي لا تطاردها عوادي الزمان، فيما يشبه استعادة التمثل القديم للبورتريه كما جسدته الحضارة الفرعونية في الألف الثالث قبل الميلاد، حيث كان الدافع إلى رسم الصورة الشخصية هو البعد الديني والإيمان بالعودة إلى الحياة بعد الموت، كأن السالمي يمنح وجوه شخوصه نبتة الخلود التي قضمتها الأفعى من يد جلجامش. لذلك، اختار بحرفية عالية الألوان المائية (Watercolor painting)، التي تملك سحرا وجاذبية كبرى تجعل الصورة شفافة وتحصنها ضد التلاشي، إنه يرسم معظم لوحاته بالألوان المائية الشفافة (الأكوريل)، التي لا تسمح بالخطأ، الضربة الأولى للريشة التي تمر على القماش بدقة تخط مسار البورتريه، وطبقات الألوان التي تتراكم فوق بعضها تمنح الشخصية أبعادا متعددة، يمكن النظر غليها من زوايا متباينة بدلالات مختلفة. في بورتريهات السالمي لا مجال للمديح والإطراء، التزيين والتجميل أو التقبيح والتسويد، ولا تعلو الصبغة التجارية أبدا على القيمة الفنية للعمل الذي لا يقبل بإنجازه إلا وفق شروط جمالية لم يتخل عنها أبدا. من هنا العمق الإنساني الذي نجده في لوحات البورتريه التي أنجزها الفنان محمد السالمي حيث يخلبنا شعاع سري في لوحات صوره الشخصية التي تبدو دوما مثل معمار باذخ مشع ومسكون بقدسية ما، فيه الكثير من أسرار الطفولة، تلك الحميمية التي تتمثل في الإنسان المجسد بمشاعره وأحاسيسه، بذكرياته وأحلامه، بانتصاراته وانكساراته، يلتقطها الفنان ببراعة نادرة، ويفتح دربا للغواية، للتورط في عمق شخوصه الذين عشقهم قبل أن يرسمهم. يعكس تصوير البورتريه مفهوما للجمالية ورؤية فلسفية للإنسان وأبعاد وجوده، إن الصورة/النموذج موجودة هنا ليس لبغية طالب البورتريه وما يريده من اللوحة، التزيين، الفخر، إبراز الفخامة والتجميل والحظوة الاجتماعية، ليس هذا ما يعبر عنه السالمي في أغلب بورتريهاته، بل على العكس من ذلك إنه يغور في أعماق نفسية من يصوره، تبدو الخلفيات وراء ظهر البورتريه جزءا من الشخصية، إن الإنسان أقوى وأسمى، لذلك يكثر اللون الأزرق السماوي الدال على بعد التسامي الروحي، فالبورتريه يركز على الجزء العلوي في الإنسان، الوجه مفتاح شخصية المرء، ومركز سموه من انفعالات وحواس وعقل وقلب. لذلك، نجد بورتريهات السالمي تحتل الجزء الأكبر في الصورة، تبدو كأنها مستعدة ل"الهروب من الإطار" كما في اللوحة الشهيرة للرسام الإسباني بيردل بوريل، تستطيع أن تحلق بعيدا، متحررة من جاذبية الأرض وثقل اليومي وقيد التقاليد والمواضعات، حيث لا نحتاج إلى الجزء السفلي لمعرفة محكيات شخوصه وما قالته أو ما تود قوله أو ما تفكر فيه وما تحسه، "لم سأحتاج إلى القدمين إذا كانت لدي أجنحة لأطير"، كما عبرت فريدا كاهلو. لذلك، يحيل هذا المعطى على جانب روحي/إيماني واعي أو غير واعي لدى الرسام السالمي. لا يوجد الكثير من الحشو ولا خلفيات في البورتريه لدى مبدعنا، فقط انسيابية الخطوط، ضوء الظلال الذي يعطي للبورتريه ملمح الحركة لا السكون، العبور في الزمن بلا خلفيات أمكنة حيث الشخص/الإنسان هو أسمى ما يحفل به البورتريه ومشاعره الدفينة المنعكسة على اللوحة هي التي تقودنا إلى السراديب العميقة للروح. يركز على العين، النظرة المتحركة، تبدو تفاصيل الوجه واضحة ليس كما الصورة الفوتوغرافية، لأن ريشة الفنان تضفي أبعادا درامية على الصورة الشخصية مجسدة على القماش. لا ينشغل السالمي ببعد التطابق والتماثل والشبه مع النموذج، إنه يضفي ملامس الجمالية ويعكس نفسه في صورة وهيأة البورتريه الذي يرسمه، لا يرسم السالمي للنخب المتهافتة لإبراز تفوقها وسعيا وراء وقار فني ووشاح يستر حقيقتها، وإنما أغلب بورتريهاته من وحي إعجاب شخصي بأصدقاء ومفكرين ومبدعين كبار تركوا وشمهم على الثقافة المغربية، ونسج معهم الفنان ألفة جميلة، إنها المصاحبة السرية. يرسم السالمي بورتريهات الآخرين كما لو أنه يؤرخ لذاكرته الشخصية ذاتها، إنها الأنا/ ذات الفنان مندمغة في بورتريهات الغير. لذلك، تعكس بورتريهاته، خارج التزويق والتزيين، بعد الإعجاب والاعتراف الرمزي، هناك ألفة فيما يرسمه، يجسدها الضوء المبهر الذي يغلب على معظم بورتريهاته، تغدو مخلوقاته ذات أبعاد نورانية مشعة تماثل أو تحاكي أثر ما قدمه هؤلاء للرأسمال الرمزي للأمة. وإذا كان رامبرانت قد ترك لنا من خلال رسم البورتريه الذاتي حوالي 90 بورتريها لمختلف مراحل تطور حياته، حيث يغدو البورتريه سيرة ذاتية توثق مختلف مراحل نمو رامبرانت والمسارات التي عبرها، وإذا كان فان غوغ قد رسم أغوار نفسيته من خلال 43 بورتريها، حيث صور شخصيته في لحظات متقاربة زمنيا لكنها تختلف من حيث المشاعر والوضع النفسي الذي كان عليه بين الأمل واليأس، المرح والقنوط، الانشراح والانقباض، إذ تنطق صور بورتريهاته التي خطها بريشته بمختلف أطواره النفسية، فإن محمد السالمي يكتب ذاكرته من خلال البورتريهات التي يرسمها، حيث يغدو "الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات"، كما يقول بابلو بيكاسو، يرسم الفنان حياته ومختلف الوقائع الكبرى التي عبرت حياته بالألوان لا الكلمات. وهو بارع في ذلك بشكل مذهل.