منذ أن استقل المغرب عن الاستعمار الفرنسي إلى غاية السنة الأخيرة من القرن الماضي ، ضاعت سنوات كثيرة من عمر بلدنا بلا جدوى . كانت كل السلط مجتمعة في يد الحسن الثاني ، وعن طريق أذرعه اليمنى الذين كان يضعهم على رأس وزارة الداخلية كان ينفذ ما يراه مناسبا في حق "شعبه الوفي" ، دون الرجوع إلى المؤسسة التشريعية التي كانت وما تزال إلى حدود اليوم مؤسسة شبحا ، لا تملك أي صلاحية ، رغم كل ذلك العدد الهائل من النواب الذين يسكنونها ، والذين من أجلهم تصرف الدولة ميزانية ضخمة من أموال المغاربة كل عام . "" كان الحسن الثاني هو الآمر الناهي في مملكته التي كان يتصرف فيها مثل رب أسرة في بيته ، وكل من تجرأ على معارضته يكون مصيره كارثيا داخل أحد المعتقلات السرية الرهيبة التي كانت موزعة على ربوع الوطن ، هذا إذا لم يرسلوه إلى الدار الآخرة . منذ ذلك الوقت تم تجميد دور السلطة القضائية والسلطة التشريعية ، وبقيت السلطة التنفيذية التي يملك الحسن الثاني كل صلاحياتها وحدها السائدة في البلاد ، فيما السلطة الرابعة المتمثلة في صحافة المعارضة يتم تكسير شوكتها من طرف وزارة الإعلام التي كانت في الربع الأخير من القرن الماضي تحت يد الراحل إدريس البصري ، الذي كان يشغل في الآن نفسه منصب وزير الداخلية ، في خرق سافر لأبسط القواعد التي تبنى عليها الدولة الحديثة ! حصاد كل هذه السنوات الطويلة من عمر المغرب الضائع هي ما نراه اليوم ، حيث البطالة والفقر والأمية مستشرية بشكل مخيف . وعلى بعد أربعة عشر كيلومترا فقط في اتجاه الشمال ، توجد مملكة جارة لنا في القارة الأوروبية ، كانت تعيش في حرب أهلية طاحنة إلى غاية النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي ، وكان وضعها أسوأ بكثير في ذلك الوقت من الوضع الذي كان يوجد عليه المغرب ، لكن الإرادة القوية للنظام الملكي الاسباني بقيادة الملك الشاب خوان كارلوس دي بوربون الذي قاد معركة شرسة ضد أزلام الجنرال فرانكو ، حولت إسبانيا من دولة غارقة في دمار الحرب الأهلية إلى واحدة من أقوى دول الاتحاد الأوروبي في ظرف قياسي جدا ، في الوقت الذي يتقهقر فيه المغرب إلى الوراء يوما بعد آخر ، وما زال هذا التقهقر لم يقف لحد الآن ، هذا إن لم يكن قد ازدادت سرعته بشكل أكبر . فقط لأن النظام الملكي عندنا لم تكن لديه أدنى رغبة في الرقي بالمملكة إلى الأمام ، وذلك بتمسكه بالفصلين التاسع عشر والرابع والعشرين ، اللذين يجعلان من الملك هو الحاكم الوحيد والأوحد في المملكة . اليوم هناك هامش من حرية التعبير والرأي في المغرب ، هذه الحرية – وإن كانت هشة للغاية – سمحت للرأي العام المغربي بالإطلاع على الكوارث السياسية والاقتصادية وحتى القضائية التي كانت تحدث في المغرب منذ الاستقلال ، وما زالت تحدث إلى اليوم . وإلى حدود الآن ما زالت الصحافة المستقلة تطالع الناس كل صباح على صدر صفحاتها الأولى بأخبار الاختلاسات المالية الفظيعة التي يتعرض لها المال العام في واضحة النهار ، لنكتشف أن هناك مشكلا لا يقل خطورة ، بل هو أخطر مما كان سائدا في عهد الملك الراحل . ففي ذلك الوقت لم يكن مسموحا للشعب بالإطلاع على ما يجري وراء كواليس الدولة التي يعمها الفساد ، لذلك كان لصوص المال العام ومزورو نتائج الانتخابات والقضاة الذين يصدرون الأحكام الظالمة في حق الضعفاء يفعلون ما يحلوا لهم دون أن يستطيع أحد فضحهم . اليوم يتم فضح هؤلاء أمام الملأ ، حتى صارت أخبار الاختلاسات المالية الفظيعة التي تذهب بمئات الملايير من أموال الشعب أخبارا عادية جدا ، يطلع عليها المواطن المغربي كل صباح دون أن يطرح علامة استفهام أو تعجب واحدة ، لأنه يعلم مسبقا أن الجهة القضائية التي تقع على عاتقها مهمة متابعة المتورطين في هذه الاختلاسات أصابها الشلل الكلي منذ عقود ، ولم تعد قادرة على التحرك إلا إذا تلقت الإشارة من جهة نافذة في العاصمة ، وهنا تكمن الخطورة الكبرى ، ففي الدول الديمقراطية بمجرد أن تشم النيابة العامة رائحة ملف فاسد معروض في الصحافة حتى تسرع إلى إنجاز مهمتها على أكمل وجه ، وتأتي بالمتورطين لمثول أمامها ، وعندنا في المغرب أصبحت أخبار الفساد تدخل في نطاق الطرائف . ومع كل هذا نجد أن هناك من يعتبر أن هذا الهامش الضيق من الحرية الممنوح للصحافة يشكل خطرا على أمن واستقرار البلاد . لقد قضى المغرب أربعين عاما صمت فيها الجميع على آفة الفساد المستشرية في شرايين الوطن ، وها نحن نحصد نتائج هذا الصمت الكارثي ، حيث تشير آخر إحصائيات الأمم المتحد للتنمية أن ثمانية ملايين مغربي يعيشون تحت عتبة الفقر ، و 83 في المائة من نساء العالم القروي أميات ، فيما مليونان ونصف المليون طفل محرومون من التعليم ، الذي ينص الدستور المغربي على أنه حق من حقوق جميع المواطنين . وعندما شرعت أقلام بعض الصحافيين المستقلين في نبش ملفات الفساد جاء أعداء الوطن يطالبون بوقف هذه الأقلام عند حدها . المصيبة أن الذين يطالبون بإخراس صوت الصحافة المستقلة لا ينتمون كلهم إلى الطبقات الفاسدة ، بل هناك أيضا مواطنون عاديون جدا يقولون بأن الصحافة عندما تمنح لها الحرية المطلقة يمكن أن يشكل ذلك تهديدا لأمن الدولة واستقرارها . الذين يقولون مثلا بأن انتقاد الطريقة التي يحكم بها الملك تشكل خطرا حقيقيا على المغرب هم واهمون ، لأن العكس هو الصحيح ، فعندما تكتب الصحافة عن الملك وتتناول طريقة حكمه بكل حرية فهذا يعتبر في حد ذاته ربحا للدولة ، فالدولة التي تسمح لصحافييها بفتح الملفات الساخنة وانتقاد كل من يتحمل مسؤولية مهما كان حجمها صغيرا هي دولة قوية بكل تأكيد ، كونها لا تخشى أقلام الصحافيين . وإذا أرادت الدولة المغربية أن تبرهن على أنها دولة قوية فعليها أن ترفع وصايتها بشكل كلي عن أقلام الصحافيين وتسمح لهم بالنبش في كل الملفات ، بما في ذلك ملفات القصر الملكي ، ما دام أن القرارات المصيرية تخرج منه . وفي المقابل يجب على المغاربة الأحرار أن يصطفوا جميعا وراء الأقلام التي تفضح الفساد ، وتضع حبرها في خدمة المصلحة العليا للمغرب والمغاربة ، بعيدا عن الخوف من فراعنة الفساد ، وبعيدا عن تقديس أحد . ولعل الذي يثلج القلب ويجعل الإنسان يقتنع بأن لا خوف على هذا الوطن هو هذا الحماس الكبير الذي يبديه شبابه في مناقشة شؤون وطنهم بحماس منقطع النظير ، وهذا ما نلمسه كل يوم في هذا الموقع . وهذا كله يدل على أن هناك رأيا عاما جديدا يتشكل في أغلبيته من الشباب يتبلور هنا ، وهذا هو الأهم ، فعندما ترى شباب اليوم جالسين أمام الحواسيب يقرؤون المقالات السياسية الطويلة ، ويناقشونها ويدلون بآرائهم حولها ، فهذا وحده يدعو إلى الاطمئنان ، فمستقبل أي أمة يكمن في وعي شعبها ، وهذا بالضبط ما لا يريده المخزن وأزلامه ، ألم يقل الحسن الثاني ذات حوار بأن التعليم العمومي ليست له أية قيمة ، لأنه ينتج في النهاية إما إسلاميين أو يساريين متطرفين همهم الوحيد هو الوقوف في وجه النظام !لذلك فإن أعداء الحرية والديمقراطية لا مستقبل لهم ، ويوما ما سينقرضون مثلما انقرضت الدناصير قبل ملايين السنين ، فقط يجب على الجميع أن يقف لهم بالمرصاد ، كي ينقرضوا في أسرع وقت ممكن . وهذا يقتضي منا أيضا أن نقتنع بأننا عندما ننتقد بلدنا فهذا لا يعني أننا نكن له الكره ، بل بالعكس تماما ، ولنا خير مثال في ما قاله المفكر التونسي العفيف الأخضر ، حيث كتب قائلا : " علامة نضج أي أمة هو الانتقال من التمجيد النرجسي للذات إلى نقد الذات " . هذا الكلام الدال يمكن أن نلخصه في جملة واحدة ، يجب علينا أن نرمي شعارات العام زين في قمامة النسيان ، ونشير بأصابعنا إلى مكان الخلل ، ونقول الحقيقة في وجه الوطن ، ولو كان وقع هذه الحقيقة قاسيا . فهكذا سنتقدم . وليذهب أعداء الحرية والديمقراطية إلى الجحيم . [email protected]