انقضى شهر مارس شهر الاحتفال بالحريات النسائية.. أقصد ذلك اليوم الواحد العالمي للمرأة !! فما بال أيام الله الباقية من كل سنة ؟ هل رفعت أقلام وشعارات الحرية فيها وجفت صحفها بعد يومها العالمي هذا؟ لتصير المرأة بعدها دمية مكدودة معبودة يُفعل بها ولا تفعل؟ أو تطيش كفتها فتتعسف على مفهوم الحرية وتلوي عنقها طلبا للحرية والمساواة والمناصفة؟ في زمن العبودية والربيع المزهر بشلالات دماء الإنسانية الزكي، وكيف نسميه ربيعا؟ إنما هو هشيم تدروه رياح غدر الفساد بشعوب تتشوف لبصيص فجر حر عله يتسلل ليجلي ظلمتها بعبق نسماته النقية الزكية ؟ هذا الدم الذي ألفناه سيَّالا في ميادين التحرير صورة مألوفة من خلال شاشاتنا التلفزيونية ليصبح طلاء جدراننا ودسم موائدنا ومذاق خبزنا وغم قلوبنا في كل نشرة إخبارية.. في حين نتحدث عن يوم المرأة وحرية المرأة .. هذا المخلوق الذي جاء من كوكب آخر ليحتفل به باعتباره أقلية أو قضية منفصلة عن عالمها الأسري والمجتمعي والإنساني ككل .. أليست هذه المرأة مستضعفة المستضعفين من الرجال والنساء والولدان والشعوب ككل؟ فتبقى الحرية مطلب للجميع ؟ حرية أم تحرير من منا لم يتساءل يوماً عن معنى الحرية ومفهومها في عصرنا هذا !؟ و كم واحدا فينا وجد الإجابة عن هذا السؤال ؟ أو عاش معاني المفهوم وتلذذ عبق نسائم فجره وشروقه؟ من منا يشعر حقاً بحريته وإذا كان كذلك فهل يستطيع أن يحدد لنا مصدر هذا الشعور؟ لهذا يبقى الكلام عن الحرية في وقتنا الراهن من الأمور التي يصعب على الباحث تحديدها لما لها من التباس مفهومي يطرح التفكير فيها رهانات فكرية وأخلاقية وسياسية ، فرغم غموض المفهوم وتحديده يشكل قيمة عليا يطمح إليها كل فرد وكل جماعة، إلا أنها راهنا أضحت من المفاهيم التي يأنس بها عامة الناس وتتلاعب بمشاعرهم وعواطفهم، أو قل إن شئت مجرد ورقة يرفعها شعاراً كلّ من يريد تغييراً أو إصلاحاً في أي مكان وأي زمان زاعما الدفاع عن المرأة وحرية المرأة وعمل المرأة ومظلومية المرآة ويبقى الإسلام المتهم الوحيد في هذه السوق بأنه الظالم والعدو الذي يشكل خطورة على مستقبل المرأة. ويبقى السؤال المطروح كيف يمكن للإنسان أن يمارس حريته وكيف تسمح القيم والأديان بتحرر الإنسان و هي في حد ذاتها تقنين لتصرفاته؟ كيف يمكن ممارسة حريته داخل جدلية الإلزام والالتزام و قوانين تحد من هذه الحرية ؟ إن الأديان السماوية وخصوصاً الإسلام منها كان هدفها الأول الدعوة إلى مكارم الأخلاق وتحرير الإنسانية من العبودية لتحقيق السعادة للناس والأخذ بأيديهم نحو بر الأمان، وبما أن الإسلام دين ودولة، كان لا بدّ من وضع الأنظمة وسنّ القوانين لتوصل الإنسان إلى السعادة، وإذا ما أُريد لأي تشريع أن يكون عادلاً، فلا بد وأن يكون منبثقا عن الحرية، وإلا أخطأ هدفه، وفَقَدَ غايته. ثم إننا إذا أردنا تحرير مفهوم الحرية في المنظور الإسلامي نجد أن كلمة الحرية لم ترد في القرآن الكريم، وإنما وردت مرادفاتها ومشتقّاتها كحرّ، وتحرير، ومحرر، وعتق، وما شابه ذلك. ومفهومها نجده تارة يطلق ويراد به معنى مقابل العبودية، وأخرى يراد به الاختيار والقبول والرضا، فيقال: فلان حرٌّ في تصرفاته، أي غير مجبر أو مكره، وقد تطلق ويراد بها غير ما ذُكر. وكيف كان، فإن الإسلام جاء ليكسر هذه القيود والأغلال عن الناس التي هي من كسب أيديهم .. فيبقى السؤال المطروح بإلحاح: هل مفهوم الحرية مركب إضافي لمفهوم المرأة، حرية المرأة، أم هو مطلب إنساني منذ بدء الخليقة الكل يسعى إلى التحرير من تقاليد الجهل والتسلط ؟ الجواب نجده في كلمة جامعة مانعة لامرأة وجدت في عصر الوأد والتشييء.. وعدم الاعتراف بالمرأة بوصفها مواطنة أو كائن بشريا هبط من الجنة رفقة ادم عليه السلام ليحقق أو تزني الحرة: كلمة قوية قالتها هند بنت عتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ردا عن اللاءات الست في بيعة النساء ..لا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن من إملاق ولا يأتين ببهتان ولا يعصين رسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف أو منكر ..البيعة عقد عظيم يرفع المرأة المسلمة إلى درجة من القيمة والمسؤولية والمواطنة بجانب الرجل... فقالت بكل استغراب وغرابة المرأة العفيفة الحرة من كل هوى واستعباد نفس وعبودية هوى .. أو تزني الحرة ..؟؟ لا تحتاج الحرة أن تسرق من فتات الزنا وقد رفعتها مكارم الأخلاق والقيم النبيلة ومطالبها العالية التي كانت تقوم بها في بناء صرح مجتمعها الجاهلي .. بيعة اختيارية رافدها الاقتناع القلبي والحضور العقلي فتحرر إرادي من كل قيد وسيطرة المحيط العجاج. هند بنت عتبة وما أدراك ما هند بنت عتبة القرشية الكنانية، وهي إحدى نساء العرب اللاتي كان لهن شهرة عالية قبل الإسلام وبعده. زوجة أبي سفيان بن حرب، وأم السلطان الأموي معاوية بن أبي سفيان. وكانت امرأةً لها نَفسٌ وأنفة، ورأي وعقل. شاركت الرجال رأيهم في الحرب والسلم في الجاهلية وفي الإسلام نثرا وشعرا وهي القائلة محرضة فرسان قبيلتها على القتال: نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق وهي القائلة في جرأة المرأة القوية، طبعا في مجتمع لا يعد النساء شيئا كما جاء على لسان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمر الذي أثمرت فيه التربية النبوية ليرقى هذا اللاشيء في عرف الجاهلية إلى مواطنة فاعلة مؤثرة وهو يعين السيدة الشفاء على الحسبة في أسواق المجتمع العربي، مخاطبة سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر صاحب الطبقات الكبرى (8/237) :" يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه لتنفعني رحمك، يا محمّد إني امرأة مؤمنة بالله مصدّقة برسوله". ثمّ كشفت عن نقابها وقالت: "أنا هند بنت عتبة". فقال رسول الله: « مرحبا بك». فقالت: "والله ما كان على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ من أن يذلّوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ من أن يَعزّوا من خبائك". فقال رسول الله: « وزيادة». وقرأ عليهنّ القرآن وبايعهنّ فقالت هند من بينهنّ: "يا رسول الله نما سحك؟" فقال: "إنّي لا أصافح النساء، إنّ قولي لمائة امرأة مثل قولي لامرأة واحدة". ولما أسلمت هند جعلت تَضْرِبُ صنمًا في بيتها بالقدوم حتى فلّذته فلذة فلذة وهي تقول: "كنّا منك في غرور". ونفهم نحن على أن المجتمع العربي همجي لا أخلاقي لا وجود فيه للمرأة الحرة الفاعلة ناسين أن هناك انفلاتات أقر النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابها واستحسنها ككرم حاتم الطائي وغيرها من شيم العربي ومكارم أخلاقه، التى من أجلها جاء النبي صلى الله عليه وسلم مكملا. كما في الحديث النبوي الشريف (إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق) أخلاق العربي الرجل والمرأة التي هذب وشذب ورفع الأذواق وكسر أغلال العادات والأعراف التي كانت لا تعد النساء شيئا فكان لأمر الرسول الأعظم في تشكيل وإعادة بناء النظرة إلى المرأة فولج بها إلى الحقل الاجتماعي الذي انفرد به الرجال. عربون مساواة: يوم الحرية .. وما بال أيام الله الباقية.. نداء رب العالمين للصلاة في اليوم خمس مرات، وعمارة مساجده الطاهرة الزكية المبارك في وقتها، زمن النبي صلى الله عليه وسلم يوم كانت المرأة مكلفة بفرائضها حاضرة في مسجدها لا ضيفة ساكنة ساكتة هامشية مشطب على اسمها في لائحة حضور المساجد .. المرأة فيها مكلفة بفرائض الصلاة عامرة لبيت الله وليست ضيفة يضرب لها حجاب ساتر في زاوية من المسجد، إنما المرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت حاضرة... فانحدر الوازع الإيماني ولم تستقر العلاقة بين الرجال والنساء في حدود العفة والصون إلا على سد الجدران والأبواب، ليتحول ما كان من براءة وحرية التي كانت تتنسم عبقه حتى المرأة المعتدة من طلاق أو موت زوج ، على عهد النبوة سوء ظن وحبسا من خلف جدران مضاعفة من جهل وأمية .. أو ليس حضور المسجد بناء لشخصية المرأة ورمز لمشاركتها في بناء صرح الأمة، المسجد الجامع مركز حياة المسلمين الاجتماعية والسياسية.. لا مسجد السكوت والسكون، مسجد إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت، ومن لغا فلا جمعة له أو بالأحرى ومن سكت فلا نساء ولا رجال له وبالتالي لا مجتمع ولا امة له .. أليس هذا المسجد الذي استدركت فيه امرأة على أمير المومنين عمر عندما أراد أن يحدد ثمن المَهر، فقال أصابت امرأة واخطأ عمر.. لله دره من زمان تعرف فيه مالك وما عليك، حيث إنه لم يعتبر صوت المرأة عورة ولم يفصل المسجد عن مصلى النساء ويخصص لهن حيزا منعزلا ضيقا يترجم سجن فقه منحبس يضيق ما وسعته السنة، وجعلت النساء نزيلات مكرمات متعلمات مشاركات في ضبط الصلاة من حيث ركعاتها وسجداتها إلا أنهن لا يتكلمن كما جاء في حديث رواه الشيخان(ما لي رايتكم أكثرتم التصفيق من نابه في صلاته شيء فليسبح. فانه إذا سبح التفت إليه إنما التصفيق للنساء). هل كن منعزلات حبيسات بيوت تلك النساء العظيمات؟ هل كان المجتمع معسكرين رجال هنا ونساء مغيبات؟ أم جمعهم العلم وجمعهم المسجد وجمعهم الإيمان ؟ أو ليس حضور الجامع والجمع عربون مساواة .. فهلا رجوعا من زمن الغربة إلى روح وريحان القلوب/ المسجد والى الحقل الاجتماعي لندشن عهدا جديدا على منوال الرعيل الأول فيه المرأة محررة من كل قيد وشرط متعسف، ومن كل ثقافة معادية للمرأة معالجة لقضيتها مجزأة عن أم القضايا وهي لم الشتات و رتق الصدع واعتبار كل فرد ذات واحدة للمجتمع إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .. السنة النبوية أخرجت المرأة من غيابات جب التاريخ وأبرزت دورها الحقيقي بوصفها كائنا بشريا مستقلا ومسئولا، المرأة فيه شقيقة الرجل في المسؤولية والأحكام وقرينته في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وتصالح الإنسان مع فطرته ونفسه التي خلق منها، لأن جهل الإنسان لأصله ومغزى حياته لا بد أن يكون مصحوبا دائما بالعنف الاجتماعي، وسيادة قانون الغاب مجتمع يسحق فيه الرجل المرأة والقبيلة القبيلة والإنسان الإنسان .. فكوّن صلى الله عليه جيلا من النساء المسئولات الحرات في عهد الرسالة لا تتبرج إحداهن عن برجها الاستراتيجي في أداء وظيفتها الأسرية والاجتماعية والتي تلزمها بواجبات مختلفة عن واجبات الرجل هي المحدد لمركزها ولفطرتها وحافظيتها مما لا يعني أبدا اختلافا في الجوهر أو في الكرامة بينهما إنما هي تكامل لبناء الصرح وصنع الأجيال ودخول التاريخ من بابه الواسع .. في حين نحصر راهنا، اعترافنا وتقديرنا لحافظات الفطرة صانعات أجيال الأمة في يوم عالمي واحد، وتبقى أيام السنة الباقية عجاف نجد الكل فيها مكبل يصرخ هل من منقذ، لنتحول من سؤال الحرية إلى سؤال الماهية؟ من أنا وكيف جئت ولما جئت وما دوري في هذا الوجود ؟