كلّما فتحت النّافذة لأقول لنفسي صباح الخير ولأقول للآخرين وللعالم صباح الأمل، أكون قد عشت حركة صمود مرّت وأستعدّ لمواجهة جديدة. إنّها حركة يوميّة تتّسع بضفافها بين هذه الحدود الواسعة، بين هذه الإنسانية المشتركة التي يملأ قلبها الضّوء والظّلام، وما ينهض بينها من علاقات وقيم والتباسات وأحلام. صار البيت عالمي بعد أن فتح ذراعيه لي.. وصارت الغرف والشّرفة والزّوايا والأدراج والمكتب والمطبخ والسّطح، أماكن تجسّد فعل الحياة. فالبيت لا يجمع أنفاسنا الليلية فقط، بل أضحى يحاورنا ويوصينا خيراً بأنفسنا، وكأنّه منابع تضاعف من آمالنا.. قد ألوذ بغرفتي من حين إلى آخر، محدّقاً في فعل الغياب عن الفضاء الخارجي، مُسترجعاً أحاسيس ورؤى متداخلة وصداقات ورحلات.. وممارسات حياتية، اجتماعية مختلفة.. وتلك الأصوات التي كانت تعانق الماضي القريب هنا وهناك وهنالك.. وقد أفتح كتاباً وأنغمس فيه لساعتين، أو أغادر الغرفة في اتجاه السّطح لآخذ قسطا من دفء الشّمس، بعدما توارى الجسد بين الجدران في رحلة قسريّة قاسية.. تلك الشّمس التي تمنحني أشعّتها شيئاً من السّكينة والطمأنينة. مرات أقتحم المطبخ لأعدّ كوب قهوة سوداء والتي غالباً ما كنت أتناولها بمقهى "الرّوبْيو" بساحة "وطا حمّامْ" التّاريخية وأنا أطلّ على أبراج القصبة والنّاس بقلب مفتوح.. ثم أعرّج على المكتب لأكتب مقالا صحافيا، أو أدوّن فكرة أو أقلب بعض الأوراق أو أنقّح بعض النصوص التي لازالت تختمر وتتعتّق، لأضيف فقرة أو سطراً أو أشطب جملة، منصتاً إلى كلاسيكيات الموسيقى العربية والغربية، أو أبحر في عوالم أدبية وإنسانية، أو أنصت لقصائد شعراء وشواعر من الصديقات والأصدقاء عبر مجموعة ب"الواتساب".. نحاول أن نخفّف على بعضنا البعض بلغة السرّ والجمال. كما أن علاقتي بباقي أفراد الأسرة لم تطرأ عليها أيّ تغييرات باستثناء اتفاقنا جميعاً على أخذ بعض الاحتياطات الضرورية وعدم التجمع في غرفة واحدة وتذكير بعضنا بضرورة غسل اليدين والتركيز على عامل النظافة والمسافة. نقوم بهذا ونحن نسخر أحياناً من الوضع الذي وصلنا إليه والذي لم تكن كوابيسه في الحسبان.. أو نتوجّس من صعود بورصة أرقام كورونا المخيفة بحذر وترقّب. ودائما كانت النّافذة هي طريقي صوب امتدادات الليّل، وأنا أرقب النّجوم والشُجيرات التي تتنفّس بالياسمين، رغم إزعاجات البومة التي تطلق عويلا ينذر بالشّؤم من بيت شبه مهجور بجوار حيّنا.. وها هي ذات النّافذة صارت شرفة نحو الحياة.. تقيم بيني وبين الخارج حجاباً شفّافا وتذكّرني بالانتظار والصّبر وبمشاهد وأمكنة ووجوه.. إنّها تحمل معاني كثيرة ومختلفة. لقد أضحى العالم بين قلق وتساؤل وحيرة، يعيش زمنا دراماتيكيا ويواجه تحدّيات ومعادلات وفصولا جديدة، يجب التصدّي لها بالعلم والثقافة والحِكمة، بعدما أصبحت الأمراض تتفشّى كزرّ التكنولوجيا والفيض الإلكتروني.. وتنتقل بين القارّات والشعوب في لمح البصر، وتعمل على خلخلة سبل الحياة بأكملها. صرنا نعيش سؤال الموت والحياة.. فالكلّ يحاول أن يتجاوز هذا الواقع الصّعب الذي سيظلّ مغروساً في ذاكرة الزّمان والإنسان. حلم حاولت هذه الليلة أن أصعد إلى غرفتي باكراً وأنام، لست أدري هل أنا مع موعد ما؟ أو مهمة صعبة في الطّريق؟ استلقيت على السرير محاولا أن أتناسى كل ما حولي من هواجس وتأملات.. بعد تقلّبات عدّة ومحاولات لإغماض عيني، وجدتني في رحلة بعيدة أقطع ودياناً وأصعد جبالا وعرة وغابات موحشة وحدوداً عديدة، بحثا عن عشبة أو دواء. لم أتبيّن جيداً ملامح النّاس والأمكنة التي أقصد، كانت معظم الوجوه تنظر إلى الأرض وتتمتم بكلمات وأدعية، وأخرى تصارع بعضها. بعد أن دلّني شاب في مقتبل العمر على طبيب في زقاق ممدود كجسر في الهواء.. اقتربت وأنا أنظر باستغراب إلى مكونات فضاء داخلي عجيب، تتصاعد منه عطور وأدخنة ويلفّه ضباب كثيف. ما إن ولجت الباب حتى قرأ الطبيب أفكاري قائلا: لديّ ما تريده ومدّ لي قارورة زرقاء تشتعل بضوء خافت، حاولت تلمّس يديه بين الضباب وأخذ الإكسير، وخرجت وكأنني غريق يطفو على الماء.. أحلقّ وأحلقّ عاليا في السّماء وأقطع أميالا وأميالا، محفوفاَ بصافرات سيارات كانت تترصّدني وصارت تتقدّمني وتفتح لي الطّريق.. فيما التّصفيق يتعالى بشدّة بين الوجوه والنّاس. فجأة استيقظت على منبّه سيارة الأمن وهي تجوب الحي: الزموا بيوتكم رجاءً لا نريد المزيد من الضحايا... ثمّة وضع صادم.. ثمّة أمل قادم.