في خيال الطفل الصغير الذي كنته رأس الثعلب يشبه المثلث. و كلما جلست مع أبي في المقهى و شربت القازوزة في كأس محدبة من الأعلى رأيت الثعلب ينزلق مع السائل الذي أتلذذ باحتسائه. و أصيح في وجه أبي بفرح ممزوج بالدهشة - أبي، إني أرى الثعلب. : أقرب الكأس إليه و أضيف - إنه ثعلب، هل رأيت الثعلب ؟ يدقق أبي النظر في الكأس المائلة القريبة إلى عينيه. يترجم وجهه الشك و الحيرة، يجيبني نافيا - إني لم أر شيئا. يغزوني الإحباط... لقد أبصرت الثعلب بأم عيني و حدقت فيه و أنعمت النظر في ذهابه و إيابه مع السائل الذي أشربه. و أبي لم ير شيئا ؟؟ يا للعجب. ليست هذه أول مرة ألفت فيها انتباهه إلى حقيقة ما اكتشفت، بل هي المرة الألف، و لكن أبي لا يرى ثعلبا أو ذئبا أو قردا. إنه لا يرى جسما محددا في نهاية الأمر. فيا للغرابة. أني و أبي صديقان حميمان. نجلس في المقهى مرة في الأسبوع على الأقل. يعاملني أبي معاملة الند للند. يطلب لي دائما مشروبا غازيا باردا و لنفسه قهوة سوداء. يدخن السيجارة تلو الأخرى. أنزعج من رائحة الدخان المتصاعد وأعاتب أبي قائلا - متى يقلع عن التدخين؟ متى...متى ؟؟ : يرد علي متذمرا -عندما يشاء الله. : أواصل عتابي معاندا - و متى يشاء الله ؟ : أنفخ الهواء على جمرات السخط - أوه، كفى، اسكت قليلا. تيار الهواء بارد يكنس بلاط المقهى و يمسح الانزعاج الذي أحس به. أبي ما زال يدخن بشكل مسترسل، و الريح الخفيفة تهب حاملة دخان سجائره في السماء. أتنفس ملء رئتي و أعب الهواء النظيف. أحلم أن أصير رجلا كبيرا. أريد أن أصير طويلا مثل أبي، قويا مثل أبي، و ذكيا مثله أيضا. بيننا تتناسل الأحاديث بسرعة و تطفو إلى السطح مواضيع للنقاش. ننخرط في حديث موصول. أنا الطفل ذو السنوات الست لي رأي في كل موضوع يطرق. لست مغيبا أو مهمشا. إني أشعر حقا بالسعادة. أبي يدمجني في حديثه الثري. يقص علي ببراعة سارد محترف ذكريات و مغامرات من طفولته، فينفغر لها فمي من الدهشة. - كنت طفلا عاشقا للمغامرة، صحبة رفقائي أصطاد الطيور في الغابة، أسبح في الوديان دون الخوف من الغرق، أمشي المسافات الطويلة على قدمي و أكتشف دوما الأماكن المجهولة... : يغريني مشهد صيد الطيور فأقاطعه بلهفة - و ماذا كنت تفعل بالطيور بعد اصطيادها ؟ : وجه أبي البسيط المعبر يشرق منه الضحك - اذبحها و أشويها على الحطب. - و هل تأكلها ؟ - نعم أيها الفيلسوف و لا أتركها أبدا. و نغرق نحن الاثنين في الضحك. متى أغدو رجلا كبيرا ؟ متى ينمو لي شارب و لحية أحلقهما بانتظام كل صباح مثلما يفعل أبي ؟ أريد أن أسبق الزمن... الكبار محظوظون، فكلامهم مسموع و جانبهم مرهوب. أبي مثلا يحقق غالبا ما يريده بكل سهولة و دون كبير عناء... عشية البارحة رأيت لاعبي كرة القدم في منتهى الصغر على شاشة التلفزيون. رأيتهم يتقاذفون الكرة و يسجلون الأهداف. كيف أمكن لهم بأجسامهم الكبيرة أن ينحشروا داخل التلفزيون و يلعبوا مقابلة رياضية ؟ لقد استغربت كثيرا، و حاولت أن أنظر إليهم من خلال الفتحات العابرة لظهر التلفزيون، فلم أر شيئا. وثب إلى بصري فقط منظر الأسلاك و الرقائق المعدنية. بت الليل ساهرا أشكو من الأرق : إنها مسألة عسيرة الفهم. الكبار ليسوا مثل الصغار. بين الفريقين اختلاف جذري. أعتقد أن أبي و أمي ولدا كبيرين و لم يعرفا بتاتا مرحلة الطفولة. أظن أنهما نزلا من السماء في ثياب فاخرة براقة الألوان، و على وجهيهما كانت تلوح علامات الانشراح و السعادة. نزلا من السماء إلى الأرض زوجين متكاملين متفاهمين، لا أحد منهما يستطيع الاستغناء عن الآخر. اسماهما لم يتغيرا قط منذ بدء حياتهما على وجه الأرض: محمد و فاطمة. ربما كانا يحملان في طفولة بعيدة، أشك أصلا أنهما مرا بها اسمين مختلفين : خالد وخديجة، أو صالح و نفيسة... المهم أنهما والداي في جميع الأحوال، و قد رزقا بي بمشيئة الله وحده. أما جدي فهو ينتمي أيضا لعالم الكبار. لكنه قد غرس في هذا العالم جذوره منذ زمن سحيق فصار لديه مألوفا جدا. جدي أكبر من الكبار العاديين. إنه أكبر سنا من أبي و أمي وخالي وعمي و لست أدري من فالقائمة طويلة لا تنتهي. و لذا فكلما زارنا في البيت كل يوم جمعة، وحمل لي كعادته كمشة من الفول السوداني و الحلوى ثم نفحني بعض الدريهمات، كنت أسرح ببصري في وجهه المتغضن و أشعر بالهيبة، و ينتصب أمامي، أنا الطفل الصغير الضئيل بقامته الفارعة و جسمه العريض و قدميه الواسعتين، فأخالني في محضر كائن خرافي أو أسطورة من أعماق التاريخ... جدي إذا يبلور في داخلي هذه الأحاسيس التي تقوى كلما لثمت بخشوع يده الضخمة أو كنت شاهدا على نوبات العصبية التي تجتاحه بين حين وآخر لأتفه الأسباب. !يا إلهي إني أعول على قدرتك العجيبة كي أكبر بسرعة !يا إلهي، حقق حلمي بين يوم و ليلة، أغمض جفني، و أفتحهما في الصباح فأكتشف أني أصبحت رجلا كبيرا. ليس مثل جدي لأنه مخيف أحيانا، بل مثل أبي لأنه بارع دائما. داخل البيت أو خارجه يوصيني أبي أن أتحلى بأخلاق الرجولة، أن أكون صادقا و شجاعا و كريما. أعارك أختي الصغرى، أكيل لها بعض الصفعات، تخرمش وجهي، أجرها من شعرها القصير جرا عنيفا، تصرخ و تصيح. ترفع عقيرتها بالبكاء. يحمى وطيس المعركة، ونلتحم في كرة بشرية تنط في أرجاء البيت. مسرعة، تتدخل أمي لإنهاء العدوان، و يزمجر أبي في وجهي قائلا : !- كفى يا ملعون. كن رجلا و لا تضرب أختك الصغيرة في المطبخ أعبث بالأواني، أصنع أشكالا هندسية درسها لنا المعلم في القسم. أرص الأطباق و الكؤوس رصا منظما. أشكل مربعا، مستطيلا، دائرة. كم هو صعب تشكيل هرم لكني سأحاول. واحد، اثنان، ثلاثة. فشلت. حاول مرة ثانية، هيا... فشلت... و ثالثة، و رابعة... يهوي البناء إلى الأرض محدثا ضجة قوية. ماذا أفعل؟ !يا إلهي لقد كسرت الأواني قبل أن أهرب من المطبخ، أتلقى من أمي صفعة مدوية. يأتيني من غرفة الأكل صوت أبي الغاضب: - تعال إلى هنا. خائفا، أرسم خطوات متعثرة: - لقد انكسرت الأواني وحدها... الريح هي السبب... شباك المطبخ مفتوح... لهجة التأنيب واضحة في كلام أبي : - كفى كذبا و كن صادقا، كن رجلا ! ! نعم، يجب أن أكون رجلا الشمس تكب على رأسي قنطارا من الحمم. الهواء محتبس، لا نسمة ترطب الجو. الاختناق. أصحابي يتقاذفون الكرة عازمين على تسجيل هدف الفوز. منذ دقائق عديدة لم تمس قدمي الكرة. العياء بدأ يشق طريقه إلي. يجب أن أصمد. ثمة هفوة في دفاع الخصم. استجمع همتي الباقية و انطلق كالسهم. استقبل الكرة من أصحابي. أراوغ الخصوم الواحد تلو الآخر. ينتزع فيصل الكرة من بين قدمي. إنه أقوى مني بنية وأطول قامة لكنه لا ينتمي لعالم الكبار فشاربه لم ينبت بعد، و إن كان صوته بدأ يخشن و يقبح. لن تغلبني يا فيصل. سأريك من أنا. سأكون بلا شك بطل المقابلة. أجاهد في الميدان. أندمج مع غريمي في منافسة عنيدة. جسمي الصغير لن يؤمن لي الظفر. علي باستعمال الحيلة. فيصل يضربني بمرفقه الحاد في الصدر. أمتص الصدمة. أتظاهر أني دخت. أنزل إلى الأرض منهارا متهالكا. أحبس أنفاسي لحظة، فيشفق الخصم علي و يتوقف عن اللعب. واحد، اثنان، ثلاثة. أقفز على الكرة بسرعة الخذروف، و أطير إلى شباك المرمى حيث أسجل هدف الفوز. - أحسنت، برافو ! يهرع أصحابي إلي. يتعاونون على حملي، أصعد و أنزل من السماء و في عيون أصحابي فرحة النصر. - هكذا يكون الرجال ! ينطقها أبي بلهجة احتفالية بعدما أخبره بنجوميتي في المباراة. القفة ثقيلة جدا و أنا لا أقوى على حملها. إنها مليئة بالخضر و الفواكه، و لأبي فقط القدرة على رفع الأشياء الثقيلة. هذا صباح يوم الجمعة. الشمس تتألق في السماء. الحر شديد يكتم الأنفاس. الصيف يعلن عن نفسه باكرا هذا العام. الطريق المؤدي إلى السوق الأسبوعي "المسيرة"، و الذي أعبره مع أبي يدا في يد، يكسوه الغبار. ضجيج المتسوقين و لغطهم يزيدان من شدة القيظ. في عيني الطفل الصغير الذي كنته العبور شاق و المسافة طويلة لا منتهية. تحت أشعة الشمس الحارقة ينغلق جفناي على رغمهما، لكني أرى رغم ذلك قطرات من العرق تتألق فوق جبين أبي. مبهورا، أحدق في أبي يمشي بخطوات هادئة والصمت يسربل كيانه، كما لو أن الحرارة الجهنمية لا تنقض عليه، ولا تعرقل مشيه المنتظم... كما لو أن جسم أبي منيع لا يؤثر فيه أي شيء. نحن الآن في قلب السوق. الجو ما زال ساخنا. بلا كلل، يساوم أبي الباعة. تمتلئ القفة شيئا فشيئا بالأغذية، و تثقل. حلقي جاف. لأروي عطشي أشرب ماء باردا من قارورة يضعها بن عيسى بين يدي. بن عيسى ليس الاسم الحقيقي لبائع الجزر و لكنه مجرد لقب يتفكه أبي بإطلاقه عليه. كلما سمعت هذا اللقب، أتذكر السوق و العطش والماء البارد. في طريق العودة، أغذي الأمل بالوصول سريعا إلى البيت. أمشي بفرح، وجهي مرفوع إلى الشمس، خطواتي حثيثة. بين فينة وأخرى يرميني أبي بنظرة باسمة. قبل أن نركب الحافلة، يبتاع لي قطعا مدورة من الحلوى يسميها بغرابة "بيض الحمام". في المساء، نبرمج للذهاب إلى المقهى. العام الدراسي قد انتهى منذ أيام قليلة. و أبي كما وعدني سيشتري لي حذاء جديدا. نجول في المدينة العتيقة. نسير في الدروب الملتوية بين صعود وهبوط. أكتاف المرة تتلاحم وسط الزحام. العرق يفيض من الكتل البشرية و هي تموج في دفعات متلاحقة. تعلو في السماء بين لحظة وأخرى شتائم و أصوات غاضبة تعلن عن ارتطام شخصين أو معاكسة شاب لفتاة مثيرة. الحر لا يخف رغم الأصيل. والسعي متواصل رغم فواصل المضايقة والشتائم. ! أريد حذاء أسود قاسيا مثل حذاء أبي !أريد حذاء أنيقا للسهرة عندما ألبسه أكون جذابا مثل الكبار نصل إلى حانوت الأحذية. ينتقي لي أبي حذاء بنيا من الجلد. أقيسه و أرفضه. يقترح علي حذاء آخر، لكنه أيضا لا يعجبني. أقيسه ثم أرفض مرة ثانية. ينزعج أبي و ينهرني على سلوكي الصبياني. أتظاهر باللامبالاة. أنكمش على نفسي و أغلق كل النوافذ. تطير عيناي إلى أركان و رفوف الحانوت، أبحث عن الحذاء الذي نقشته في ذاكرتي. بعد ثوان معدودة، أعثر على ضالتي. أتوسل لأبي كي يبتاع لي الحذاء الأسود. رغم الرفض من جانبه، ألح و أتمسك باختياري. بعد لأي يذعن أبي و يشتري لي على مضض الحذاء. نمضي معا إلى المقهى و قلبي يرقص فرحا. في الطريق إلى المقهى، أحس بالإبر الحادة تخز قدمي. أمشي ساكتا بلا شكوى. أتحمل وخز الإبر. ما يزال أمامنا شوط طويل قبل أن نصل إلى المقهى. لم أعد أستطيع أن أتحمل أكثر : - أبي، لقد انسلخ جلد قدمي من المشي. يجيبني أبي ببساطة تنطوي على التأنيب: - هذا لأن الحذاء من الجلد القاسي، هذا لأنك لا تسمع كلامي. أشعر بالألم و لا أقدر على الصبر أكثر مما صبرت. - أبي، لنتوقف قليلا عن المشي. قدماي تتألمان كثيرا. يبتاع لي أبي من صيدلية قريبة لفافة من القطن و قطعة من الشاش. يسعف قدمي الجريحتين. نستأنف السير. لكني أشعر دائما بالألم. في المقهى، نجلس في الركن الذي درجنا على لزومه. يطلب أبي لي قازوزة باردة و لنفسه قهوة سوداء. يدخن سجائره تباعا. أتناسى الألم و أحتسي القازوزة من الكأس المحدبة. أشعر بالانتعاش. أقرب الكأس إلى وجه أبي، وأسأله كالمعتاد: - هل رأيت الثعلب ؟ لم يحتج أبي دقيقة واحدة للتفكير. لم يعكس وجهه أي تعبير، بل ظل محايدا خاليا من المعنى و هو يجيبني ببساطة: - لم أر شيئا... * أديب و أستاذ جامعي [email protected]