الفساد..كائن اجتماعي، عاش بيننا عقدة عقود فصار من الصعب التخلص منه بقرار أو كلمة.وصار صعبا التنكر له وتجاهله لأنه مخلوق دميم وشرير،بل إن الذين يريدون محاربة الفساد والقضاء عليه في الهيئات المدنية والحزبية وحتى في الحكومة يدركون جيدا أن الفساد لم يأتينا لاجئا أو جاء عن طريق الصدفة مهاجرا من بلد بعيد،بل إنه كائن من صنعنا وشخصية كانت وليدة عبقريتنا وخيالنا الجامح،الكل باركه في بداية عهده في السبعينات وأفسح له الطريق وجامله واختلق له مسميات وألقاب رديفة حتى استوطن وأومن واستأمن فصارت له جذور وعروق عميقة ليس سهلا اجتثاثها. يعتبر الفساد نفسه كائنا من الطبقة الراقية في المجتمع، ابن عائلة ومتميز اجتماعيا، ينتمي إلى طائفة اجتماعية منظمة تنظيما متقنا تسمى منظومة الفاسدين وناهبي المال العام والمرتشين، مظلتهم ما امتلكت أيمانهم من سلطة سياسة أو إدارية أو نفوذ.لذلك فمن الصعب إقناع الجميع بمحاربته وإيقافه،فهذا الأخطبوط المتعفن والمتشبث بتلابيب المجتمع والناس،ليس سهلا مناهضته والقضاء عليه، فهو مرض فتاك يشبه مرض السرطان القاتل، يخنق الاقتصاد ويشنق التنمية ويمدد عمر التخلف والتردي والجهل والأمية ويطيل أمد الفقر،وللقضاء عليه لا بد من خطة واضحة وعملية لمحاربته،خطة وطنية تبنى على أسس العمل الميداني ولا تكتفي بتطبيق النصوص عند بروز الحالات الطارئة ،أقول العمل الميداني بمعنى وقوفنا جميعا وقفة رجل واحد للفساد واعتراضنا إياه في كل ممر وفي كل منفذ وكل طريق و كل اتجاه،نضيق عليه الخناق ونحاصره،حتى يسقط وينهار. ونظرا لضعفه وقلة حيلته وبلادته، فهو كائن هش حين يسقط، سرعان ما يجهش بالبكاء ويفضح نفسه.حينها ستتبدل الأوضاع ويسود العدل ويتراجع لصوص المال العام عن غيهم،فبعضهم غرق في وسخ الدنيا حتى تنكر لبشريته وصار شبه آلهة يعبد في الأرض ،ويأمر الناس بتقبيل حذائه ومئزره،إن الطغيان المادي والتسلط وامتلاك الثروة من طريق غير مشروع، لا ينتجان سوى الغلو والتمايز الاجتماعي والاستعباد والقهر. والحقيقة أن الفساد ليس مبهما أو عديم الهوية ،فهو كائن يسهل التعرف عليه وليس في حاجة لقراءة مواصفاته في الرسم التقريبي للأجهزة الأمنية أو حمل صورة له للتفرس في أي الوجنات تشبهه،إنه مخلوق موجود وجود مادي ومعنوي ملموس ومحسوس،فالأمر يتعلق بكائن تقلد مسؤولية وصار في منصب عمومي وفي بضع سنين صار من أصحاب الثروات الخيالية وفي وقت وجيز أصبح ثريا يقفز على المراحل حتى تحول إلى طاغية،رجل يتحمل مسؤولية قومية، أقسم بأغلظ الأيمان أن يرعاها حق رعايتها،فإذا به يصير لصا حقيرا يملأ جيوبه من متاع الغير، حتى بات يمتلك العقارات والفيلات والضيعات والمشاريع الكبرى...هو الذي جاء ،افتراضا،من أوكار الفقر والحاجة أو من أسرة اجتماعية متوسطة أو أسرة كل رأسمالها ذلك الطالب التي تحول من الفصل الدراسي إلى الجامعة ثم تخرج ليحظى بمنصب أو مسؤولية إدارية،خولته في بضع سنين مكانة اعتبارية، أمطرت عليه من السماء لم يكن يحلم به،مالا وذهبا ومتاعا وحليا، فانهمك في جمعها صباح مساء دون خوف أو وجل وعلى مرأى ومسمع من الجميع؟ الفساد في بلادنا لا يرتدي ثيابا تنكرية أو يختبئ في ترحاله بين الأمكنة المهجورة كما يفعل المجرمون ،بل هو كائن مفضوح يخالط الناس ويباشر عمله في واضحة النهار،يمتلك من الجرأة والوجاهة ما يكفيه لتسلم أموال سوداء أمام الجميع،وتبييضها في مشاريع مربحة ومفيدة ،الكل بعرف من أين أتت وكيف أتت ؟ فالفاسدين ليسوا عفاريت ولا تماسيح ولا أشباح لا يرون،يختبئون في المغارات والكهوف ،يعيشون في العتمات نهارا ويظهرون بالليل،بل هم أناس حقيقيون،يوجدون بيننا ولا تخطئهم العين المجردة يقاسموننا الهواء والماء وشمس الوطن ويتمتعون بثروة ابتزوها بقوة نفوذهم وتسلطهم. فعلاقة بمبدأ من أين لك هذا ؟..يمكن المطالبة بتفعيل قانون التصريح بالممتلكات،فهو وسيلة رادعة لحماية المال العام، ولحصر نزيف الفساد وتجفيف منابعه قد تلجأ الحكومة قريبا وفي إطار مشروعها الإصلاحي لمحاربة الفساد، إلى تفعيل هذا القانون ومعه قانون من أين لك هذا، لمعرفة أصل الثروة ومرجعها ومشروعيتها. فهؤلاء الأشخاص المتخيلين في أذهاننا والخفية أسماؤهم،لا يفتئون يسقطون تباعا في يد العدالة متلبسين بجريمة المساس بالمال العام أو الرشوة.