هذه المرة عن السوق المغربي عامة، تقع كلمات "عبد الرحمان المجدوب" لترسم حقيقته.. وكأنه جال بأروقة "سويقة" القرن الواحد والعشرين: "السوق المغربي سوق مطيار.. يا الداخل رد بالك، يوريوك من الربح قنطار، ويديوليك راس مالك ". ومن دون تعميم.. الأمر أصبح لا يُطاق، إذ أن الغش أصبح عملة الأغلبية وأصحاب الضمير هم الاستثناء. *** هكذا أصبح السوق المغربي في غياب تام للمراقبة، مرتعا لاستنزاف الزبون ماديا ومعنويا، وأكل لحم أكتافه وعرق جبينه وراتبه الهزيل، ظنا أن الخديعة شطارة، والتحايل حضارة، والكسب الحرام تجارة! وإلا فللمغربي اختيار ترك السوق بما يعرضه من صنيع مغربي وصيني إلا سلع الغرب في محلات الغرب، ليزيد الثمن أضعافا مضاعفة.. وما عسى مغربيا من الطبقة المتوسطة براتب يكفيه قهرا لوصْل آخر الشهر بأوله، أن يشتري وأن يترك بأسعار خيالية طلبا للجودة، أمام رغباته المتزايدة لكل شيء وأي شيء، في إطار الحاجة والضروريات والكماليات والمنافسة مع الآخر.. ذاك الآخر: الأخ والصديق والجار والمدير والزميل الذي يملك من كل شيء أفضله! هسبريس قامت بجولة لمدة أكثر من شهر بين باعة ومحلات تجارية قصد تفقد الأوضاع قدر المستطاع.. ولم تخيّب النتيجة الظن، حين يجد المرء على الأقل سلعة كاسدة أو مغشوشة أو عاطلة في كثير من المحلات التجارية. عند أصحاب المحلبات معلبات "كاشير" و "لانشون" بقر وغنم ودجاج، لا أحد يعلم له أصلا ولا فصلا ولا تاريخ صلاحية، يقطع حسب الطلب درهمان فما فوق، يقال إنه بقايا لحوم وشحوم ومصارين وجلود حيوانات يطحن ويبزر وينكه ويسخن ويبرد.. ويقال ما يقال في الشارع العام حين تسأل عن ماركة مغربية تبيعه بالجملة أنه من لحم الدجاج الميّت كي لا يُرمى فتضيع فيه الشركة هباء، في غياب المراقبة، منها المغربي ومنها المستورد ومنها المهرب، ولا يخجل البائع أن يتفاخر بأنها سلع "سبتة"، الداخل خفية، "الخارجة" على صحة الإنسان! وقد وقعت هسبريس على علبة عصير صناعي كاسد لدى إحدى محلبات سوق شعبي بالرباط.. حيث يعلو الماء العصير الخاتر بالأسفل، بطعم حامض يقرص اللسان.. وقع نفس الأمر مع نفس ماركة العصير عند بقال.. فتم إعادته واسترجاع مبلغ 5 دراهم في المرتين دون مشاكسة من لدن الباعة! طبعا دون مشاكسة، فالأمر إن عاند ووصل إلى أقرب مركز شرطة سيخسر فيه البائع أكثر بمئات المرات تلك الخمسة دراهم! عند البقال أثمان السلع أغلبها معروف، لكن تجد، وفي كل المدن المغربية أحدا يزيد سنتيمات عن الآخر، أو حتى دراهم. أي أن المواطن يجد نفس ماركة غسول الشعر "الشامپوان" مثلا عند أحد الباعة ب 13 درهما، وعند آخر ب 15. ولن تسمع من فم المشتري سوى تعليقا خفيفا من قبيل: "زايد 2 دراهم"، ولن تكون إجابة البائع إلا على شاكلة: "ما بغيتيهش خلليه.. كاين للي يديه"! هكذا دون مراقبة.. ولا محاسبة! سألت هسبريس أحد البائعين في بقالة بمدينة الرباط، "أحمد 43 سنة"، عن كساد السلع، فأجاب أنه يقوم بجرد أسبوعي أو كلما توصل بسلعة جديدة، وأنه لا يخاف من المراقبة لأنه متأكد من صلاحية كل المنتجات التي يبيع للزبائن. وأنه يهتم بسياسة: "السلع ذات التواريخ القريبة الانتهاء توضع في الرفوف الأمامية"، وبالمراقبة المستمرة، وأكد أنه حاسم مع مساعديه في البقالة على نظافة الدكان. ومستعد في كل مرة تقدم له أحد الزبناء بشكوى أن يعيد له ماله أو يغير له المنتج. سوق الخضار واللحوم والسمك لا يَخفى على أحد لازمة المغاربة مع الجزار و"الكفتة": "حيد ديك للي فالطحانة ودير هادي".. ! هكذا يضحك الجزار على المشتري بأن يظهر له وكأنه يطحن له قطعة اللحم التي اختار، وهو في واقع الأمر قد وضع مسبقا داخل الخلاط ما أراد هو من شحوم وبقايا لحوم لم تبع.. إلا إن كان المشتري من أصحاب "الزرقة" الذي سيؤدون ثمن 4 كيلوغرامات فما فوق من اللحم، حينها فإن المعاملة تصبح خمس نجوم، إذ يختار له الجزار من "الهبرة" ولحم العجل الرطب الهش ما لذ وطاب! يقول "الحسين س." بكلماته حرفيا: "اشتريت هذا الصباح كيلو ونصفا من سمك "الشطون"، لما عدت إلى المنزل وفتحت الكيس لأبدأ بغسل السمك وجدته "معجن ما فيه مايتشاف". و رغم أن المسافة طويلة بين المنزل والسوق إلا أنني أصررت على العودة عند البائع الغشاش، و لما وصلت قلت له بأن السمك الذي بعتني فاسد، "تصنطح" أمامي قائلا بأن سمكه جيد بل ممتاز وبأنني لا أفقه في السمك! وفعلا كان محقا لأنني وضعت ثقتي فيه منذ البداية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله". أسواق الملابس والأحذية مرورا بالأسواق الشعبية التي تبيع الملابس والأحذية بأثمان وصلت حد 10 دراهم لقمصان صوفية جديدة بناصية شارع محمد الخامس بالرباط، قمصان رجالية لا تتوانى النساء عن اقتنائها لمواجهة البرد دون أن تأبه إلى شكلها الرجولي أو لونها... ربما هي سلعة فسدت لأحد المصانع ورمى بها، فحملها الباعة في أكياس يبيعونها بذاك الثمن البخس، وربما اشتروها جملة وقسطوها كذلك.. المهم أنه يمنع منعا كليا فتح الغشاء الپلاستيكي للقميص قبل أداء ثمنه الذي لن يرجع ولو وجدت القميص دون أكمام، هذه سياسة "عند رخصو تخللي نصو"، حرفيا وليس مجازا. أحذية "جوطابل"، أي تلك التي تستعمل مرة واحدة، بثمن 50 إلى 100 درهم تملأ السويقة! جولة واحدة بالحذاء تطل مساميره من فوق ومن تحت، وينفتح فاه ويبتسم.. وقد يقترح كثيرون زيادة مال على مال وشراء ماركة دائمة تقضي بها السنة كاملة. لكن الموضوع هنا لا يتحدث عما يجب أن يفعل المرء لتفادي الغش، إنما يتحدث عن الغش نفسه، وسبب وجوده، وسبب استمراره. فإن كانت مثل هذه الأحذية العديمة الجودة البتة تنتج باستمرار وتباع دون توقف، من المسؤول عن قلة المراقبة هاته، والسؤال الأفظع: لم يستمر الناس بشرائها.. فحتى أخذها عند إسكافي لتثبيت مساميرها، وإلصاقها جلدها المغشوش "الفورميكا" أو ما يمسى ب"السكاي"، هو في حد ذاته زيادة في الثمن ونقص في الأمان، لأنها لا توفي بعد الإصلاح الأول أكثر من شهرين!! معاطف يزهدون عند خياطتها في الأثواب وتصنع قصيرة الأكمام صغيرة الأحجام لا تخفي أجساد المغربيات الوافية، سراويل ناقصة أزرار، قمصان مثقوبة، أحذية معطوبة، سلع وسلع وسلع مضروبة تملأ السوق.. هل من مراقب؟ هل من محاسب؟ هل من أحد مسؤول عن السوق المغربي؟ أسواق الأجهزة الإلكترونية دعونا من الأكل واللباس، لنلقي نظرة صغيرة على ما يسمى "جوطية باب الحد"، الداخل إليها شمتان والخارج منها مشموت.. رغم صغرها، فهي لا تعدو عن كونها زقاقا ضيقا يقف فيه الكثير من الشباب في متوسط عمر 35 سنة، يحملون أجهزة إلكترونية بلا عدد ولا نهاية، إلا أن "جوطية باب الحد" تبدو هائلة لحجم المبيعات التي تحقق يوميا. الكل يعرف الصورة التي أتحدث عنها، فلا تخلو اليوم مدينة مغربية من المهاجرين الأفارقة الذي أصبحوا يقطنون بالشوارع الرئيسية للمملكة، يبيعون هواتف لا أحد يعلم مصدرها، هل هي مسروقة أو التقطوها من أحد مزابل إعادة التصنيع! لا أحد يسألهم عن مصدرها رغم أن الشرطة تمر بهم مرات ومرات في اليوم! لا أحد يسائلهم عن بيعها وشرائها! نفس سياسة ذاك الزقاق الذي يتوسط قلب الرباط النابض، وقد كانت قصة هسبريس هناك أننا ذهبنا لإصلاح حاسوب ثمنه 8000 درهم عند صاحب محل من محلات البيع والشراء والإصلاح وتغيير قطع الغيار.. وبعد استرجاعنا إياه تبين أن الكاميرا الداخلية للحاسوب لم تعد موجودة! سرقة أم إهمال، المهم هذا ما كان! بعد أقل من ثلاثة أشهر من الإصلاح أحرق الحاسوب بالمرة.. وأعيد إلى صاحب الدكان فأخبرنا أن لا حل إلا بيعه.. لأنه لم يعد صالحا لشيء! هكذا لا يتوانى أصحاب تلك المحلات من أن يبيعوا المشترين حواسيب قديمة بأثمنة تصل إلى 4000 درهم، بعد أن يستظهروا أمامك كل ما تلقنوا عن مميزات الحواسيب.. وكأنهم يغسلون دماغكم حين يجتمعون حولك بالعشرات حتى تخافهم وتخاف أن يسرقوك ما تملك من مال… فإن أردت بيعه.. يشترونه من عندك نفس الحاسوب في نفس اللحظة ب500 درهم بعد أن يستظهروا عليك كل مساوئه! عبد الرحمان، بائع شاب متدين، ملتزم مع الزبون، أحرج كثيرا حين سألناه عن الفارق المهول في الأثمان بين البيع والشراء، فقال أنه لا يزيد على المشتري أكثر من النصف. وأنه مضطر أمام مصاريف كراء المحل ورواتب المساعدين والضرائب وفواتير الكهرباء وغيره من مال الصيانة والتعديل وقطع غيار الأجهزة، بل ويحق له أن يحدد الثمن الذي يعوض كل ذلك ويضمن له الأرباح. محلات الأجهزة الإلكترونية وحتى لا يقول البعض، إن الذنب هو ذنب المشتري الذي ذهب ليقتني أجهزة إلكترونية من الجوطية، فإن هسبريس زارت وكالة اتصالات ليس لأكثر من أسبوعين، حيث اشترينا هاتفا نقالا جديدا، واتضح في أقل من 12 ساعة أنه لا يعمل.. وحين العودة إلى المحل، رفضت البائعة سياسة إبدال السلعة إن أعيدت في غضون أقل من 24 ساعة، وأبت إلا أن ترسل الهاتف المحمول إلى الشركة الأم في الدارالبيضاء لننتظر أسبوعا كاملا لاسترجاعه!! دون أن نذكر أن بائعة الوكالة تهاونت في ملء عقد البيع عند إتمام العملية، ولم تتذكر واجبها إلا عندما أعدنا لها الهاتف المعطوب.. علما أنها سترسله وستعلم عن الخلل فيه، خوفا من المحاسبة فقط، لا أداء لواجب عمل!! يحكي السيد "محمد العريان" أن شيئا أفظع وقع له مع شركة اتصالات أخرى، إذ أنها قدمت عرض هواتف بثمن 640 درهم مع رصيد 5 ساعات ورقم هاتفي مفضل مجاني لمدة معينة، فاستنفذت الوكالات الهواتف المعروضة في وقت قياسي، ليتضح بعدها أن بطارياتها عاطلة تماما. السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: كيف تتغلغل الوساطة إلى قاع المجتمع المغربي بين البائع والمشتري، بين "ولاد الشعب" من نفس الطبقة، كيف أصبحنا نتبضع من سوق مغربية تعيش في دوامة غش وخديعة وانعدام الإتقان في التصنيع والتوزيع واللعب بالأثمان وبأموال خلق الله، في غياب تام للضمائر، التي ماتت لشدة الطمع والجشع والكسب الحرام، ضمائر غابت أمام دريهمات المواطن المسكين، الذي يكدح اليوم والليلة لتوفير قوت الرزق؟!