أتيح في الآونة الأخيرة لما يسمى بالإسلام السياسي أن يتصدر المشهد في بعض البلدان الإسلامية ، وأن يصل إلى الحكم،ويتمكن من تدبير الشأن العام فكان فرصة سانحة وذهبية للإسلاميين أن يحكموا وفق رؤية الإسلام ،ومنهجه المتماسك والشامل،وأن يستثمروا قواعده الكلية في رفع الضررعن الخلق،ودفع المفاسد،وتحقيق العدل والقسط،وبسط سلطانه في مختلف المؤسسات،وبين أفراد الأمة،وأن يبرزوا مدى رحابة أفقه،وسعة نظامه،ورفقه ورحمته وسماحته ويسره ما يردم الفجوات التي صنعها الإعلام المتغرب طيلة عقود وسنين عددا،ويزيل هواجس ووساوس ما فتيء شياطين الإنس ينفخون فيها،ويوحون بها إلى أولياءهم تمويها وخداعا ليصرفوهم عن الهدى الحق ويصدوهم عن هذا المنهج السماوي الشامخ والذي يرممون به ومن خلاله ما تفتت في أيديهم من حاضر الدنيا،ومجدها المنفلت ويزدلفون به إلى مولاهم- سبحانه-في الأخرى. لكن بعضهم –للأسف الشديد- ضيع تلك الفرصة،وبدد ذلك الأمل،وأهدر التجربة حين اشتغلوا بجزئيات وهوامش سطحية،وغرقوا في تفاصيلها،بل سعى بعضهم – مند الوهلة الأولى-إلى تقمص دور الرقيب على الضمائر والأخلاق والخواطر،ولبس ثوب الوصي على الأفراد، يحجر على التصرف،ويراقب السلوك،ويتدخل فيما لا يعنيه. ياهؤلاء:إن الحكم أكبر من ذلك-والمجتمعات مهما بلغت من النقاء والمثالية فيها- لامحالة – صالحون وطالحون.وفي المجتمع النبوي- وهو أرقى المجتمعات وأنقاها على الإطلاق- تجد فيه من لا يعرف شيئا في الدين كما في صحيح البخاري .،،ما أظن أن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا ،،. وفيه المنافقون الذين يغمزون من قناة الدين ويحفرون من تحت أساسه،وقد أطنب الكتاب العظيم في كشف بلاءهم وشرهم كما أن فيه من يأتي إلى الرسول الكريم –عليه الصلاة والسلام-يسأله الإذن في الزنا فينصحه برفق،ويناقشه في مفاسده،وشرور الفجور،ويدعوا له بالخير. وفيه أيضا من يعاقر الخمر،ويعب من كؤوسه ..فيه كل ذلك وغيره لكن الحكم الراشد،والسياسة العلية،ماضية في إقامة الدولة،وتعزيز بنيانها،وتأسيسهاعلى العدل،والكرامة الآدمية،والحرية والمساواة،وتوفير الحقوق،ساعية في التخلص من آفات الجاهلية،وهمجيتها،وعصبياتها المقية،وتناطح قبائلها وتنافر أبنائها،واهتبالها بالصغائر والدنايا. ويمضي الحكم الراشد يلغي الفوارق المصطنعة الكاذبة،لا يومن إلا بعمل الشخص وكفاءته وجدارته،ولا قيمة هنا للأنساب والأعراق،وأبناء الذوات. وفي ظل ذلك يقال عن بلال الحبشي "سيدنا" ويكون سلمان الفارسي من أهل البيت،ويؤم صهيب الرومي الناس في الصلاة. وموازاة مع تحقيق هذه القيم المثلى،تمضي الدولة على هذا المنهج اللاحب تمنح الحياة لمواطنيها،والكرامة والرعاية لأهلها – مسلما كان أوغيره- تكف عنه غوائل الضر،وتكسر غول الجوع وأنياب الفقر بنظام تكافلي اجتماعي واقتصادي صارم،وجد فيه حتى الرضع،والمواليد الصغار كفايتهم ومصروفهم اليومي.جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد/242/ قال عمر:إنا نفرض لكل مولود في الإسلام،وكتب بذلك إلى الأفاق بالفرض لكل مولود في الإسلام،،. كما التزمت الدولة الراشدة حتى بالإنفاق على رعاياها من اليهود والنصارى من كبار السن والمرضى والعاجزين ليجد كل أحد كفايته ومؤونته وكرامته. ياهؤلاء إن الحكم الرشيد تجلى في الاهتمام بالإنسان –أي إنسان-يوفر له حريته وأمنه وعلمه وغداءه وكساءه وصحته. والرسول العظيم أراد أن يخوض حربا في الحديبية لأجل رجل واحد من رعاياه –هو عمان بن عفان –أرسله إلى قريش مفاوضا فبلغه أنهم قتلوه،فأخذ البيعة من أصحابه على قتال قريش حتى الموت –وهم أهله وعشيرته وأقاربه - وهو ما يعطيك مكانة الإنسان في نظر الإسلام. ومن هنا فإن كل حكم يستهين بواحد من رعاياه،ويتركه فريسة للظلم،وضحية للتسلط،مقموع الصوت،مقهور الإرادة،ذليل النفس،هو حكم مختل ومعتل لا يلبث أن تتهاوى أركانه،وأن ينقض بنيانه. للأسف كل هذه الأصول العليا يتناساها الإسلاميون اليوم،ويقدمون بما يقولون وما يفعلون – من هنا وهناك – صورة بائسة باهتة مرعبة عن الإسلام ويقدمونه دينا متوحشا متخلفا يصادر الحريات،ويكبت حرية التعبير،ويعادي القيم الجمالية،ويضيق بالمخالف،ويفتش عن ما في الضمائر،ويجر الناس كي يقطع أيديهم وأرجلهم وينكل بهم..ذلك ما يستغله المتربصون وغلاة العلمانيين،ويتصيدونه،ويلقون عليه الضوء حيثما ظهر للتنفير من الإسلام برمته. لذلك كان منظر مجموعة من الشيوخ الحمقى مقرفا،وهم يجادلون فتاة في أحد الأسواق بالسعودية لأنها وضعت الأصباغ على أظافيرها. وكانت الأخبار القادمة من تونس عن السلفيين تثير الاشمئزاز والغضب،وهم ثلة بالكاد خرجوا من دوائر نظام مغلق مستبد عفين،فاتجهوا مباشرة إلى الأضرحة يهدمونها،وإلى أهل الفن يرعبونهم ويرهبونهم في محاولة لصنع دوائر أكثر رعبا وإغلاقا. وفي السياق ذاته يأتي موقف وفد الإسلاميين المغاربة في الطائرة من قبلة في فيلم أجنبي وهو الأمر الذي أسال مدادا أسود كثيرا،وسمح لعتاة العلمانيين أن يصفوهم بالعصاب ومختلف الأمراض النفسية،وأن يجدوا مساحة أخرى إضافية للتنفير والتحذير من خطورة هؤلاء،ومشروعهم "المغلق" وأنا أقول:ليت غضب الوفد كان على الأرض،لمواطنين أنهكهم المرض فلم يجدوا ثمن قارورة دواء،ولعاطلين عن العمل لا يجدون قوت يومهم،ولبنات المسلمين وهن يبعن أجسادهن –مضطرات- في فنادق الشرق والغرب،ليبعثن لأهلن ما يسدون به الرمق،ويواجهون به تكاليف العيش.. كان عليهم أن يتألموا لزهرة الشباب الذين عانقوا الأمواج بحثا عن لقمة عيش في مجاهل الغربة،وعلى ضفاف الأخطار والهلاك. وكان علينا –جميعا- التفكير جديا في كيفية إصلاح الاعطاب التي لحقت بهذا الوطن جراء الفساد والنهب الممنهج،والأنانية المتوحشة،واتخاذ خطوات جريئة في هذا الاتجاه.من سن قوانين صارمة،ورقابة يقظة،ومساءلة حقيقية،ونزاهة في الأحكام .. إننا ما لم نتحرك في هذا الاتجاه،ونخوض هذه الحرب المقدسة في سبيل الكرامة،والعدل،وحرمة هذا الوطن،ونضارة وجهه،وعافية مؤسساته،وتقوية اقتصاده،والدفاع عن وحدته وقوته،والذود عن مكتسباته،وتنمية مقدراته، والحفاظ على ثرواته، فلا قيمة لغضب هادر على الفضاء،وغيرة ناعمة فوق السحاب. أما العلمانيون بمختلف أطيافهم وألوانهم وأقنعتهم ،فليكفوا عن طبائع الذباب،وشهوات الغربان.