بين التأريخ والانطباع فاصل قرأت في جريدة "أخبار اليوم المغربية" (عدد:1000، بتاريخ:2-3 مارس 2012)، في الصفحة الأولي عنوانا: الباتول.. أول معتقلة سياسية في المغرب صلبها مولاي حفيظ. وإلى يساره في نفس الإطار امرأة واقفة في هيأة مصطنعة عارية الصدر والبطن وبالداخل صور لا تدل على أن المتحدث عنها زوجة باشا فاس وأم عامل مكناس وزوجة أخي قائد المشور؛ ووراء الجميع قبائل شاكية السلاح تريد تغيير السلطان لعدم التزامه بما بويع من أجله، لأنه لم يغير أركان المخزن الذين طبخوا الاتفاقيات وراكموا الثروات، وجعلوا السلطان يترك مناصريه بالداخل من أجل الاعتراف الخارجي، فلم ينفعه الأخير بعدما ثار عليه الداخل؛ ومنهم باشا فاس زوج لالة الباتول التي نعتت بكلام خطير، وشبهت بصور غير لائقة بها -على الأقل في ذلك الزمن 1910م-، حيث كان العرض تفنى من أجله الأرواح، مع العلم أن الباشا حفيظي من الوهلة الأولى كما سنرى لاحقا. ولأنني متتبع لما تنشره الصحف، وأقتني نسختي اليومية من الجريدة السالف ذكرها، بل وأتتبع بشغف وتقدير ما تنجزه الصحفية المقتدرة صاحبة العنوان من تقارير؛ استغربت عندما وجدتها موقعة ذلك العنوان الذي لا أجد لمكوناته تناسقا وانسجاما، مما حدا بي إلى طرح سؤال العلاقة بين مكوناته، فقلت لعلي أجد في الصفحتين المخصصتين (6-7) بالداخل ما يترجم العنوان، إلا أني وجدت أن الموضوع عبارة عن بحث منشور بالفرنسية بمجلة "تاريخ مغرب زمان" (عدد:27، فبراير 2013م)؛ ورغم أن بحث المجلة ومقالة الجريد متزامنتان، إلا أن الصحفية لم تشر إلى ذلك، وإنما أخبرت بأنها أجرت حوارا مع صاحبه باعتباره مكتشف الضجة؛ التي حسب تعبيره كادت تطيح بالسلطان، ولم يقل ما قالته الصحفية بتواضع بأن داء العطب قديم، إلا أن أمثال الحاج بنعيسى من المغاربة الأحرار لم يكونوا على رأي قائله وإلا لما بايعوه وجهزوه وقاتلوا دونه. بين البحث والمقالة ضاعت القيمة إدا كان الباحث ركز على وصف السلطان بأقدح النعوت مثل جلاد منكل صاحب فضيحة، خائف، متملق للأجانب، فإن الصحفية أضافت الصورة والرسوم الداخلية وأوصاف فاتنة أكثر زوجات الباشا حظوة، زوجة الباشا الفاسية، الصديقة البريطانية، مع أنهما راهبتين انجليزيتين، تفنن الطبيب الشرعي في نحت جسمها وهو مصلب في حائط إحدى زنازين القصر الباردة، وهي عارية تماما، وهو يرسم علامات التعذيب على معصميها اللذين عوض الحديد والمسامير أساورها الذهبية، في حين أن الطبيب لم يزد على تخطيط ما أخبرته به النسوة. لالة الباتول كما يحلو للتقارير مناداتها، وكأني بها تستكثر عليها ذلك؛ سليلة أسرة فاسية أرستقراطية، إلى غير ذلك من بديع السرد الذي لا علاقة له بالتقرير المستند عليه، والذي قدم الباحث المعتمد بعضه، بيد أن من البيان سحرا خاصة إذا كان مأساويا، والمستمع يهوى البكاء. التاريخ يقول بأن الفترة المتحدث عنها كان الصراع يتبلور في مواجهة القبائل الثائرة على السلطان لقبوله الحرابة الفرنسيين لأنهم سيحتلون البلاد، وقبوله شروط القرض الفرنسي الذي سيرهن الموانئ والضرائب لصالحهم، فكان ما سبق الإشارة إليه من تدبير انقلاب على السلطان الذي أخذ به الباشا، أما الثروة المتحدث عنها فستظهر كأسلحة بنادق وذخيرة ومدفع لاحقا عندما تبايع القبائل مولاي الكبير في مكناس، وتغزوا المدينة القوات الفرنسية. ولأن هذا ليس موضوعنا سنقدم الرسائل الخاصة بالموضوع: 1- جاء في رسالة من "رونو" الوزير المفوض للحكومة الفرنسية بطنجة إلى وزير الخارجية الفرنسي: (من طنجة 19 مارس 1910 رقم:460) بعث إلي "كيار" قنصل فرنسابفاس بأن السلطان ألقى القبض على باشا فاس بتهمة تنظيم الخارجين عليه بالمسجد، فحوصر منزله واحتجزت محتوياته لفائدة المخزن، أخوه قائد المشور وابنه عامل مكناس مبحوث عنهم لإيداعهم السجن طبعا، اعتقال الحاج بنعيسى سببه القلاقل التي عاشتها فاس، الباشا شخصية مهمة مؤثرة وذو شعبية ومحبوب، حفيظي من الوهلة الأولى، له عملان يشهدان بوفائه هما: إيقافه مولاي محمد والكتاني، وبسببه سنرى بأن زمور ستقوم ضد المخزن (ص:382). 2- وفي رسالة أخرى من "رونو" إلى وزير الخارجية رقم:461 من طنجة بتاريخ:25 ماي 1910 جاء بها: "عميد السلك الدبلوماسي تلقى من الكباص رسالة رسمية من السلطان حول مسألة التعذيب، مولاي حفيظ صرح بأن الأوضاع تغيرت منذ معاقبة الثائر بوحمارة وأشياعه، ولم يتم بعد ذلك إجراء أي عقاب يمكن أن يمس شعور وأحاسيس الأجانب وثقتهم". 3- وفي رسالة رقم:465 من "رونو" إلى وزير الخارجية من طنجة في 6 يونيو 1910م كتب: "وصلت معلومات من مكناس إلى "كيار" تفيد بأن المخزن قام بتعذيب إحدى نساء بنعيسى لإجبارها على كشف المكان الذي خبأ فيه الباشا ثروته، قنصلنا لم يتمكن من اطلاعه بنفسه على الفعل، لكن يظن أنه سيستوثق من ذلك". 4- وفي مراسلة من "دوبليي" المكلف بالشؤون الفرنسية بطنجة إلى وزير الخارجية رقم:472 طنجة في 27 يونيو 1910م: قنصلنا بفاس انتهز فرصة لقاء السلطان وتباحث معه في أحكام التعذيب من جديد، بالنسبة لزوجة الباشا السابق بنعيسى؛ مولاي حفيظ احتج على هده المعلومات، "كيار" طلب منه إعادة زوجة الباشا السابق بنعيسى المسماة لالة الباتول التي ما تزال مسجونة بمكناس، ويجب إعادتها إلى فاس، أو يسمح لزوجة طبيب مستوصفنا بزيارتها. السلطان وافق؛ وطبعا سمح للطبيبان "ميرات" و"ولسجيربر" برؤية الباشا وأخوه في السجن". 5- وفي رسالة أخرى منه إلى وزير الخارجية رقم:475 من طنجة في 11 يوليو 1910 جاء فيها: كتب لي "كيار" بشأن زوجة الحاج بنعيسى أنه قد كشف عنها من طرف زوجة طبيب مستوصفنا ومبشرتين انجليزيتين، حيث شاهدن كسر كتفها الذي ما يزال باديا، وندوب ظاهرة تغطي المعصمين؛ تبين أنه كان هناك تعذيب في تلك الأسابيع الستة. المكلف بالشؤون الانجليزية أخبر بالحادث من طرف قنصله بفاس، وفي لقائي به، أخبرني بأنه توصل من حكومته بتعليمات تقضي بالاتفاق مع ممثل فرنسا للاحتجاج ضد التصرفات البربرية المنافية لالتزامات السلطان. لقد أفهمته بأني سأطلب على عجل من "كيار" أن يطلب من مولاي حفيظ بأن يوفر للالة الباتول العلاجات الضرورية لاسترجاع عافيتها، وقد كتبت بذلك لقنصلنا، واقترحت عليه بأن يثير انتباه المقري لعميق تأثير مثل تلك الوقائع في العالم المتحضر. 6- وفي مراسلة أخرى منه إلى نفس الوزير رقمها:478 من طنجة بتاريخ: 15 يوليوز 1910م جاء فيها: "أخبرك بأن الدكتور "ولسجيربر" نجح في لقاء مع مولاي حفيظ، وطلب منه إطلاق سراح الباشا السابق بنعيسى وزوجته. مولاي حفيظ أجاب بأن إكراهات سياسية تقتضي إبقاء الباشا في السجن بعض الوقت، لكنه أمر بالإفراج على زوجته لالة البتول وحملها إلى أهلها بمكناس. السلطان أضاف بأنه سيتصرف مع باقي العائلة بلقائهم وجها لوجه". 7- وفي رسالة رقم:483 منه إلى وزيره من طنجة في فاتح غشت 1910 جاء فيها: "غادرت زوجة الحاج بنعيسى لالة الباتول دار المخزن بفاس يوم:13 يولوز 1910م وصلت مكناس، فأخذت أولا إلى الحاج ادريس منو (باشا المدينة). وفي الغد إلى دار المخزن؛ مرفوقة بأمة سوداء، لالة الباتول أخذت إلى هناك لأن كل أهلها بالسجن، وممتلكات الباشا محجوزة، فليس لها أهل تقيم عندهم، ولا منزل تسكنه، كيفما كان الحال، فإنه لا يمكن القول بأنها حرة، لأن النساء اللواتي يدخلن دار المخزن، لا يخرجن". 8- وفي آخر رسالة في الموضوع؛ وهي برقم:489، من "رونو" إلى وزير الخارجية من طنجة بتاريخ:15 شتنبر 1910م جاء فيها: "بنصيحة مني، قدم المقري طلبا إلى السلطان لتسوية مسألة الباشا السابق بنعيسى بفاس كعمل إنساني، مولاي حفيظ قرر بأن تذهب عائلته وإخوانه إلى مراكش، على أن يقدم بنعيسى إلى هيئة قضائية تبث في أمره، مكونة من قاضي وعلماء فاس، ليحكموا عليه بما يناسب" انتهى. كم هي مبكيات تاريخ المغرب كم هي من المبكيات التي ارتكبها الغزاة الذين تأثروا لظلم لالة الباتول لم تثر فيهم ذرة من الشعور حتى بالأسف على الإبادات الجماعية التي ارتكبها جيش الاحتلال؛ والتي لا أشك في اطلاع الباحث عليها في التقارير التي قرأها في الأرشيف الفرنسي، والذي ينتظر منه أن يبكي بها قراءه المتفرنسين الذين يرون ما يرى "jean hess" في كتابه (la question du maroc 1903) "من أن السير نحو فاس ليس سوى نزهة عسكرية"، لكن خدمات أولئك الجنود في نزهتهم ستعاد على شكل تعويضات حربية (ص:239). هذه التعويضات ستتحقق "عندما نغزو المغرب، ونقيم مكاتبنا الإدارية، ويرفرف علم الحضارة فوق المآذن والأسوار المحطمة في المدن العواصم بالمغرب، نتيجة قصف مدافعنا لها، كما سيتحول كسل المغاربة إلى حمى إنتاجية في كل المجالات (ص:242). والدليل التطبيقي لما قال هذا الدبلوماسي؛ طبِّق في الدارالبيضاء وسطات والكارة وتافيلالت وملوية وكافة ربوع المغرب، فهل يكشف عن تلك المآسي ويطالب القتلة بالاعتذار والتعويض المناسب؟ * باحث في علم الاجتماع الديني والثقافي، وعضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، وعضو الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وعضو رابطة علماء المغرب.