إسمها يسرى، لامعتان عيناها ، متقدتان ذكاء، لهفتها للتعلم لاتقاوم، لا تكف عن التسآل، كثيف صمتها، لكنها حين تتحدث تمتع وتقنع. ذات درس فلسفي غامق، انبجس السؤال المؤرق: ما وظيفة الفلسفة؟ تحاوروا ، تجادلوا وانكسروا إلى صعوبة التعريف، ما وظيفتها؟ لا منفعة مباشرة من ورائها، يقول قائل. يخلد الجميع إلى صمت رهيب. أتابع المشهد بغير قليل من الرأفة والشفقة، لكن بكثير من الأمل في جيل جديد بدأ يتحرر رويدا رويدا من القهر، من قيود الأبوية العجفاء ، آفاقه مشرعة على عوالم غير متناهية من الإبحار في الانترنيت ووسائل الاتصال، والثورات الشعبية، ويتعاطفون مع عشرين فبراير. فيما يشبه حالة امتعاض انتفضت يسرى وكأنها انتهت إلى جواب اعتصرها عميقا، هل هي غاضبة حق؟ لا يبدو الأمر كذلك ولكن أملا يحدوها في الاهتداء إلى تعريف، هل انتهت إليه ؟ رشاش من الاسئلة المنهمر أغرقت به المجموعة ، انتظروا قليلا، أين بدأت الفلسفة؟ أين تطورت؟ لماذا تطورت هذه الشعوب حيث الفلسفة متطورة وتخلفنا نحن؟ بريئة أسئلتها ، وعميقة أيضا. غرقت المجموعة في رحلة تفكير صامتة، لا موسيقى مرافقة للمشهد، لكن موسيقى التفكير غمرت فضاء الفصل وتوالت الأسئلة بدون أمل ان تنتهي غلى جواب في وقت قريب؟ دقائق الدرس تطير هاربة مولية، ولهفة لا تقاوم تصدر من مجموعة الفصل. هل نأمل في جيل جديد متحرر من قيود الظلام؟ و هل فعلا بدأ العقل يفتح أبوابه أمام منافذ النور ويلملم أطرافه لتعم أطيافه أرجاء العتمة؟. ربما ،مع يسرى ومجموعتها قد يكون الأمر كذلك، سنوات غيبة الفلسفة عن الثانويات صارت ذكرى، وتشكيكات البداية لم يمنع يسرى وأصدقائها من أن ينبعثوا جيلا جديدا يتحدى بنيات التفكير البالية. حين عادت الفلسفة إلى الثانويات المغربية بعد غيبة طويلة وحصار دام ردحا من الزمن… استبشرنا خيرا، واختلط التهليل فرحا بألم الانتظار، وشكك الرفاق القدامى، وحذرونا من التحول إلى جدران واقية فقط، يستعملها السياسي بعد أن هدده زحف الإرهاب المرعب ذات 16 ماي.… نموذج يسرى وأصدقاؤها وغيرهم كثير يثبت أن الفلسفة ليست للاستعمال الآني، الفلسفة ليست لعبة، الفلسفة ليست أعقاب سجائر للرمي حال نفث لذتها، فللنصت إلي يسرى وهي تعرفها بتلقائية لم أعهدها من قبل وبلغة عربية أكثر سلاسة وبموافقة من مجموعتها الرائقة . من وحي لحظة التأمل الجماعي قالت: الفلسفة هي تلك اليد الخفية، إنها بمثابة العلاج للعقل الخرافي والأسطوري، بواسطتها استطاعت البشرية أن توسع آفاق بحثها عن سببية الظواهر، العقل العلمي لم يكن ليتحقق لولا تخلصه من الخرافات والأوهام الغيبية، لم يستطع الطبيب أن يصنع الدواء إلا حينما آمن أن سبب المرض ليس مسا ولا خرافة وراءه. لم يقاطعها أحد، الجميع يتابع سلاسة لغوية وفكرية منسابة بتلقائية، طلبت منها أن تعيد التعريف. أعادته بأكثر من صيغة، ومضت إلى مزيد من القول: ألا ترى، يا أستاذ، أن المجتمعات الأكثر رقيا وتقدما هي المجتمعات التي بنت نفسها بعد تفكير عقلاني طويل. لم أبد لا موافقة ولا اعتراض، وقد أخذتني لحظة تأمل لم تمنع "يسرى" من أن تواصل، الخلاصة لا تقدم بدون فلسفة، فلسفة تمكن المجتمعات من تحرير نفسها من الاستعباد وتفتح آفاق الإبداع أمامها. هز الجميع رأسه موافقا" الفلسفة هي تلك اليد الخفية" أما أنا فبقدر ما اعترتني انتشاءة المزهو بدرس فلسفي ناجح، بقدر ما ارتسمت أمامي آلاف الأسئلة من قبيل: ألا يستحق "جيل يسرى" حكاما مختلفين، متحررين من تبخيس الإنسان والحجر عليه بأي مسمى كان. ألا يستحقون حكاما بحجم ذكائهم وهم يعرفون الفلسفة كيد خفية. مجرد سؤال...