ظل القطار السريع يقطع المسافات، ويطوي الساعات ، في رحلته المعتادة. ظل الركاب يتجددون بين صاعد ونازل مع توالي المحطات. اعتاد أصحاب المسافات الطويلة، أجواء الرحلة، انهمكوا في التمتع بالمناظر العابرة، أو خاضوا في اللهو والسمر، أو استسلموا للنوم كليا. في مقدمة القطار، تجاوز ركاب المقطورة المكيفة، عبارات التعارف وألفاظ المجاملات وجس النبض، إلى استعراض العضلات الفكرية والبلاغية. كان أكثر المحدثين هيمنة، شاب في الأربعين، شُدت إليه الأسماع وهو يحاول الإقناع: » افتحوا أعينكم، انظروا ما حولكم، تأملوا هذه الصورة: ليل أبدي، صمت رهيب ، سماء بدون نجوم..مظلمة إلا من شُهب خاطفة وحيدة، سرعان ما تخبو وتتلاشى. في الأسفل، في الجزيرة المعزولة، في المدن الكبرى والصغرى، في القرى والمداشر، والأحياء الراقية، والهوامش الصفيحية، تتراكم حشود بشرية، مكتوفة الأيادي، واجفة القلوب، محنطة الأجساد، تصطف في طوابير لا نهاية لها، تنتظر وتنتظر بصيص ضوء أو قطرة حياة، أو سبب واهيا للاستمرار في العيش، واستساغة الانتظار.. هذه الصورة المأساوية ليست من وحي الخيال، أو أضغاث أحلام. إنها تشخيص لواقع مخيف: كساد اقتصادي، بؤس اجتماعي، دجَل سياسي، وعقم في الفكر والعمل والإبداع..و ال « .. ويختلط صوته بضجيج القطار، ورفاق المقطورة ينظرون إلى شفتيه تنكمشان وتتمططان، ولعابه يتطاير في الهواء. وقبل أن يُفيق الحاضرون من هول الصدمة، ويستسيغون بشاعة الصورة، يستوقفه الرجل البدين الجالس أمامه صارخا في هلع: » مهلا. عن أية حقيقة تتحدث؟. إنها حقيقتك أنت. حقيقة أصحاب النظارات السوداء، حقيقة من لا يرون في الكأس إلا نصفها الفارغ، العدميون، الحاقدون..«. تتدخل الصحفية الشابة لتهدئة الإيقاع، وتقول بلغة متعالمة » لكل حقيقته، ولكل حقيقة صانعوها ومروجوها وعبادها. الحقيقة تُصنع وتُعلّب وتُسوّق وتستهلك في جرعات مدروسة ومحسوبة. حتى لو كان الواقع بهذه المرارة، فلا بأس بالقليل من الوهم«. ثم تستطرد، وقد ازدادت ثقة في ما تقول: » الواضح أن النخبة السياسية تعي هذا الأمر جيدا. انظروا ما تفعله من أجل ترسيخ الإحساس بالاستقرار، وتشتيت الأذهان، وطمس الحقائق. ألا تقرؤنهم، على صفحات الجرائد، يتلاسنون، ويتنابزون بالألقاب، ويتراشقون بالاتهامات ويشعلون الحروب الوهمية؟. ألا تشاهدونهم في فضاءات العُلب التلفزيونية المحروسة، كلما سنحت الفرصة أو غفل الرقيب، يحاورن ويحاجُّون، ويستميتون في الدفاع عن الذوات، وتدمير الخصوم. يوزعون الوعود، ويحطمون الأرقام القياسية، في معدلات النمو ونسب العجز، ومحاربة البطالة والريع والمحسوبية. يقترضون البرامج والمخططات الملونة، وإذا خلوا إلى أصفيائهم تبادلوا عبارات التنويه والاستحسان، وتعاهدوا على صناعة حقائق جديدة؟«. تبدي السيدة المنزوية في الركن الأيسر من المقطورة اهتمامها فجأة، تخلع نظارتيها، تطوي كتابا كانت تتظاهر بقراءته، وترتمي في الحديث وكأنها تستظهر إحدى صفحات كتابها المطوي » المثير في الأمر هو قدرة هذه الكائنات السياسية الفائقة على الانحناء للعواصف، ومقاومة الانقراض، والتأقلم السريع مع المستجدات، والانتقال السلس من ضفة إلى أخرى، ومن موقف إلى نقيضه، بحجة أن السياسة فن الممكن والمحال. لا يتطلب فسخ الجلد، هذا، مجهودا كبيرا. يكفي أن يُساق المناضلون، الأعيان منهم والآذان، إلى مؤتمرات يطيب فيها المقام وتلذ الأنعام، وتسترخي الأجساد في الأفرشة الوثيرة، والقاعات المكيفة. يتبادلون المطبوعات، ويلقون الخطابات، ويعيدون الحسابات. يتحدث الخطباء المفوهون أو المبتدئون وحتى الأميون. يستغلون فرصتهم الوحيدة في الخطابة. يقولون ما يشاءون، يتحدثون عن التيارات المذهبية والأرضيات الفكرية، والنضال والنضال.. وفي الكواليس المخملية تحدد المصائر، وتستنبت الزعامات، وتتخذ القرارات، وتصاغ البيانات«. يصمت الجميع، يصوبون النظرات نحو الشخص الخامس، الذي لزم الصمت طول الرحلة، وظل يتابع باهتمام بالغ تارة، وتسرح عيناه خارج القطار تارة. أحس بنظراتهم تخترقه. فهم أنه لا بد أن يقول شيئا. حاول أن يتكلم، ودون سابق إنذار استولت عليه ضحكة هستيرية. ضحك وضحك، وهم ذاهلون. توقف فجأة. استعاد اتزانه، ثم قال: » جميل. كلامكم جميل، حماسكم مشوق ومثير. لا يسعني إلا أن أشكركم على روعة التسلية، وعذوبة السمر، وتخفيف عناء السفر. أما ما عدا هذا، فليس إلا هذيانا وكلاما فارغا، لا يثبت أمام قوة الواقع، ولا يستند على أساس متين. كنت أتمنى أن يطول هذا السمر اللذيذ، لكن للأسف يصل القطار إلى محطته الأخيرة«. يستعد الركاب الخمسة للنزول، يغادرون المقطورة دون أن يلتفت أحدهم إلى الآخر، يختلطون بباقي النازلين، ويذوبون في الزحام.