لقد وهب الزعيم الهندي المهاتما غاندي حياته لنشر سياسة المقاومة السلمية أو اللاعنف واستمر على مدى أكثر من خمسين عامًا يبشر بها، وفي سنوات حياته الأخيرة زاد اهتمامه بالدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة وتألم لانفصال باكستان وحزن لأعمال العنف التي شهدتها كشمير ودعا الهندوس إلى احترام حقوق المسلمين مما أثار حفيظة بعض متعصبيهم فأطلق أحدهم رصاصات قاتلة عليه أودت بحياته، وهكذا يموت العظماء والزعماء دائما من قبل أناس يحيون على دماء الآخرين ويصعدون على جماجم الأبرياء والمقهورين .. ؟ ميلاده: ولد موهندس كرمشاند غاندي الملقب ب"ألمهاتما" (أي صاحب النفس العظيمة أو القديس) في 2/10/1869م في بور بندر بمقاطعة غوجارات الهندية من عائلة محافظة لها باع طويل في العمل السياسي، حيث شغل جده ومن بعده والده منصب رئيس وزراء إمارة بور بندر، كما كان للعائلة مشاريعها التجارية المشهورة. وقضى طفولة عادية ثم تزوج وهو في الثالثة عشرة من عمره بحسب التقاليد الهندية المحلية ورزق من زواجه هذا بأربعة أولاد.
دراسته: سافر غاندي إلى بريطانيا عام 1888م لدراسة القانون، وفي عام 1891م عاد منها إلى الهند بعد أن حصل على إجازة جامعية تخوله ممارسة مهنة المحاماة. الانتماءالأيديولوجي: أسس غاندي ما عرف في عالم السياسية ب"المقاومة السلمية" أو فلسفة اللاعنف (الساتياراها)، وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد ملخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف أولاً ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر. اللاعنف ليس عجزا: وقد أوضح غاندي أن اللاعنف لا يعتبر عجزا أو ضعفا، ذلك لأن "الامتناع عن المعاقبة لا يعتبر غفرانا إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعليا"، وهي لا تعني كذلك عدم اللجوء إلى العنف مطلقا "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله". فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتل من جهة وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية تمهيدا للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه. وتتخذ سياسة اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضها منها الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت. شروط نجاح اللاعنف: يشترط غاندي لنجاح هذه السياسة تمتع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر. تعاليم محمد وسيرته (ص) تؤثرفي غاندي : وقد تأثر غاندي بعدد من المؤلفات كان لها دور كبير في بلورة فلسفته ومواقفه السياسية منها "نشيد الطوباوي" وهي عبارة عن ملحمة شعرية هندوسية كتبت في القرن الثالث قبل الميلاد واعتبرها غاندي بمثابة قاموسه الروحي ومرجعًا أساسيًّا يستلهم منه أفكاره. إضافة إلى "موعظة الجبل" في الإنجيل، وكتاب "حتى الرجل الأخير" للفيلسوف الإنجليزي جون راسكين الذي مجد فيه الروح الجماعية والعمل بكافة أشكاله، وكتاب الأديب الروسي تولستوي "الخلاص في أنفسكم" الذي زاده قناعة بمحاربة المبشرين المسيحيين، كما تأثر بحياة الرسول محمد (ص) مما دفعه إلى القول في حديث لجريدة "بينج إنديا " ( صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر، لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة الوحيدة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته ، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود ...) وقد تأثرأخيرًا بكتاب الشاعر الأمريكي هنري ديفد تورو "العصيان المدني". ويبدو كذلك تأثر غاندي بالبراهمانية التي هي عبارة عن التربية الصوفية عند المسلمين تهدف إلى جعل الإنسان يتحكم بكل أهوائه وحواسه بواسطة الزهد والتنسك والذكر والصيام والصلاة والخشوع والتزام الصمت مع التفكروالتدبرفي ملكوت الله .. وعبر هذه الممارسة يتوصل الإنسان إلى تحرير ذاته قبل أن يستحق تحرير الآخرين.
حياته في جنوب أفريقيا: بحث غاندي عن فرصة عمل مناسبة في الهند يمارس عن طريقها تخصصه ويحافظ في الوقت نفسه على المبادئ المحافظة التي تربى عليها، لكنه لم يوفق فقرر قبول عرض للعمل جاءه من مكتب للمحاماة في "ناتال" بجنوب أفريقيا، وسافر بالفعل إلى هناك عام 1893م، وكان في نيته البقاء مدة عام واحد فقط لكن أوضاع الجالية الهندية هناك جعلته يعدل عن ذلك واستمرت مدة بقائه في تلك الدولة الأفريقية 22 عامًا. العودة إلى الهند: عاد غاندي من جنوب أفريقيا إلى الهند عام 1915م، وفي غضون سنوات قليلة من العمل الوطني أصبح الزعيم الأكثر شعبية. وركز عمله العام على النضال ضد الظلم الاجتماعي من جهة وضد الاستعمار من جهة أخرى، واهتم بشكل خاص بمشاكل العمال والفلاحين والمنبوذين والفقراء بصفة عامة ، واعتبر الفئة الأخيرة التي سماها "أبناء الله" سبة في جبين الهند ولا تليق بأمة تسعى لتحقيق الحرية والاستقلال والخلاص من الظلم. صيام حتى الموت: قرر غاندي في عام 1932 البدء بصيام حتى الموت احتجاجا على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، مما دفع بالزعماء السياسيين والدينيين إلى التفاوض والتوصل إلى "اتفاقية بونا" التي قضت بزيادة عدد النواب "المنبوذين" وإلغاء نظام التمييز الانتخابي. مواقفه من الاحتلال البريطاني: تميزت مواقف غاندي من الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية في عمومها بالصلابة المبدئية التي لا تلغي أحيانا المرونة التكتيكية، وتسبب له تنقله بين المواقف القومية المتصلبة والتسويات المرحلية المهادنة حرجًا مع خصومه ومؤيديه وصل أحيانًا إلى حدِّ التخوين والطعن في مصداقية نضاله الوطني من قبل المعارضين لأسلوبه، فعلى سبيل المثال تعاون غاندي مع بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ضد دول المحور، وشارك عام 1918م بناء على طلب من الحاكم البريطاني في الهند بمؤتمر دلهي الحربي، ثم انتقل للمعارضة المباشرة للسياسة البريطانية بين عامي 1918 و1922 وطالب خلال تلك الفترة بالاستقلال التام للهند. وفي عام 1922م قاد حركة عصيان مدني صعدت من الغضب الشعبي الذي وصل في بعض الأحيان إلى صدام بين الجماهير وقوات الأمن والشرطة البريطانية مما دفعه إلى إيقاف هذه الحركة، ورغم ذلك حكمت عليه السلطات البريطانية بالسجن ست سنوات ثم عادت وأفرجت عنه في عام 1924م. مسيرة الملح: تحدى غاندي القوانين البريطانية التي كانت تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية مما أوقع هذه السلطات في مأزق، وقاد مسيرة شعبية توجه بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك، وفي عام 1931م أنهى هذا العصيان بعد توصل الطرفين إلى حلٍّ وسط ووقعت "معاهدة دلهي".
الاستقالة من حزب المؤتمر: قرر غاندي في عام 1934م الاستقالة من حزب المؤتمر والتفرغ للمشكلات الاقتصادية التي كان يعاني منها الريف الهندي، وفي عام 1937م شجع الحزب على المشاركة في الانتخابات معتبرًا أن دستور عام 1935م يشكل ضمانة كافية وحدًّا أدنى من المصداقية والحياد. وفي عام 1940 عاد إلى حملات العصيان مرة أخرى فأطلق حملة جديدة احتجاجا على إعلان بريطانيا الهند دولة محاربة لجيوش المحور دون أن تنال استقلالها، واستمر هذا العصيان حتى عام 1941 كانت بريطانيا خلالها مشغولة بالحرب العالمية الثانية ويهمها استتباب أوضاع الهند حتى تكون لها عونا في المجهود الحربي. وإزاء الخطر الياباني المحدق حاولت السلطات البريطانية المصالحة مع الحركة الاستقلالية الهندية فأرسلت في عام 1942 بعثة عرفت باسم "بعثة كريبس" ولكنها فشلت في مسعاها، وعلى أثر ذلك قبل غاندي في عام 1943 ولأول مرة فكرة دخول الهند في حرب شاملة ضد دول المحور على أمل نيل استقلالها بعد ذلك، وخاطب الإنجليز بجملته الشهيرة "اتركوا الهند وأنتم أسياد"، لكن هذا الخطاب لم يعجب السلطات البريطانية فشنت حملة اعتقالات ومارست ألوانا من القمع العنيف كان غاندي نفسه من ضحاياه حيث ظل معتقلا خلف قضبان السجن ولم يفرج عنه إلا في عام 1944. حزنه على تقسيم الهند: بانتهاء عام 1944م وبداية عام 1945م اقتربت الهند من الاستقلال وتزايدت المخاوف من الدعوات الانفصالية الهادفة إلى تقسيمها إلى دولتين بين المسلمين والهندوس، وحاول غاندي إقناع محمد علي جناح الذي كان على رأس الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته لكنه فشل. وتم ذلك بالفعل في 16 /8/1947م، وما إن أعلن تقسيم الهند حتى سادت الاضطرابات الدينية عموم الهند وبلغت من العنف حدا تجاوز كل التوقعات فسقط في كلكتا وحدها على سبيل المثال ما يزيد عن خمسة آلاف قتيل. وقد تألم غاندي لهذه الأحداث واعتبرها كارثة وطنية، كما زاد من ألمه تصاعد حدة التوتر بين الهند وباكستان بشأن كشمير وسقوط العديد من القتلى في الاشتباكات المسلحة التي نشبت بينهما عام 1947/1948وأخذ يدعو إلى إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين طالبًا بشكل خاص من الأكثرية الهندوسية احترام حقوق الأقلية المسلمة.
أحمد شوقي وقصيدته في غاندي: "" أنشأ أحمد شوقي قصيدته تحية لغاندي حين مروره بمصرعام 1931م ، في طريقه إلى مؤتمرالمائدة المستديرة بلندن ، وهي من بحرالهزج : سلام النيل ياغاندي **** وهذا الزهرمن عندي وإجلال من الأهرا **** م والكرنك والبدري ومن مشيخة الوادي****ومن أشباله المرد سلام حالب الشاه **** سلام غازل البرد ومن صد عن الملح****ولم يقبل على الشهد وهذا النجم لاترقى **** إليه همة النقد
وفاته: لم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة والمتطرفة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، وبالفعل في 30 /1/1948م أطلق أحد الهندوس المتعصبين ثلاث رصاصات قاتلة سقط على أثرها المهاتما غاندي صريعا عن عمر يناهر 79 عامًا. وبهذا يكون قد أنهى داعية السلام الهندي حياته مقتولًا على يد رجل متعصب من السيخ، هكذا هي سخرية الأقدار وتناقضات الأمور. فقد يموت إنسان بفيروس أو وخزة عقرب. فأسهل الأمور القتل ولكن هيهات هيهات أن تقتل الأرواح والأفكار، فإنها تبقى حية ترزق يستناربها عباد الله الأحرار، وتبقى شوكة في حنجرة الخونة الذين باعوا أنفسهم للشيطان ، والموتى يبعثهم الله.
وقال عنه آينشتاين إنه يقترب من الاستحالة أن امتلأ قلب بالحب والرحمة لإنسان من دم ولحم كما كان ذلك عند غاندي. ويذكر عن تولستوي أنه كان يضغط على نفسه كي يتكيف مع مفاهيم السلام والحب أما غاندي فقد تدفقت هذه المشاعر عفويًا من قلبه على لسانه. ومن خلال ما سبق يمكن أن نجمل بعض الملاحظات التي يمكن أن تفيدنا في مشوار حياته: -1على الرغم من دوره الكبير في تجربة المقاومة والمقاطعة الهندية، لم ينصب غاندي نفسه زعيمًا للجماهير، وظل حريصًا على القول بأنه مجرد واحد من ملايين الهنود البسطاء. -2حينما دعا غاندي إلى مقاطعة الإنجليز بدأ بنفسه؛ حيث انقطع الرجل الحاصل على إجازة المحاماة من جامعات بريطانيا عن مزاولة مهنته أمام محاكم الهند البريطانية، وهجر ملابسه الأوروبية مستعيضا عنها ب"الكادي" الهندي المصنوع من القطن المحلي، واقتصر طعامه على الماء، وحليب الماعز، وما تجود به الأرض الهندية من حبوب. وتأسيسا على هذه المبادئ فإنه اشترط على رموز الحركة الوطنية حينما طلبوا منه قيادة حزب المؤتمر الهندي أن ينتج كل واحد منهم ألفي ياردة من النسيج شهريًّا كي يثبتوا أنهم هم والشعب في التضحية والمقاومة سواسية. 3- دعوة المقاومة والمقاطعة التي دعا إليها غاندي كانت موجهة للجميع، والمحصلة كانت تنسب إلى الكل. ولم يعرف عن غاندي أنه راهن على الهندوس من دون المسلمين أو المسيحيين أو السيخ. 4-ومن جهة أخرى حرصت التجربة الهندية على جذب الآخر، وخاصة أبناء الغرب نحو تفهم عدالة قضية الهنود والدفاع عنها ومؤازرتها في بلدانهم. وفي الأخير نطرح هذا السؤال على المناضلين الأحرارلا الأشرار، وهو: هل نستطيع تطبيق مقولة غاندي في عالم اليوم : " كلوا ماتنتجون ، والبسوا ماتصنعون ، وقاطعوا بضائع العدو ؟؟ " .