﴿ ٱلفاتحة: (1) بِسْمِ ٱللَّهِ، ٱلرَّحْمَنِ، ٱلرَّحِيمِ. (2) ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ، رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ؛ (3) ٱلرَّحْمَنِ، ٱلرَّحِيمِ، (4) مَلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ ؛ (5) إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ (6) ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ، (7) صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ ٱلمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّالِّينَ.﴾ ؛ 1- مقدمة الذين يُؤمنون باللّه، ربّ العالَمين، يُؤمنون بأنّه «ليس كمِثْلِه شيءٌ» في ذاته وصفاته وأفعاله. ولأنّ "القُرآن" لديهم كلامُ 0للّه المُنزَّل على نبيِّه محمد (صلّى اللّهُ عليه وسلّم)، فإنّهم يُؤمنون بإعجازه الذي يَجدونه بالتدبُّر في كل آيةٍ من آياته فيَزدادون إيمانا و0طمئنانا. وأمّا الذين يُنْكرون «وُجود 0للّه» تعاقُلًا أو تعالُمًا، فشأنُهم أن يُكذِّبوا "القُرآنَ" نفسَه ويستخفُّوا به وبكل مُؤْمن من حيث هو كذلك (لظنِّهم السخيف بأنّ 0عتبار "0للُّغة" نتاجًا بشريّا محضا يَترتّب عليه أنّ كل ما يُلابِسُها لا يُمكن أن يكون مُتعاليًا حتّى لو كان 0للّهُ - سبحانه وتعالى-، وهو بارئُ كل شيء ومُنْطِقُ كل ناطق إنعامًا و0بتلاءً!). وبِما أنّ مُكذِّبي "القُرآن" لا يَستطيعون أن يأتُوا بآيةٍ من آياته، فإنّك تَراهُم يَطلُبون بأيِّ ثمن ما يُدارُون به عجزَهم الثّابت ويُغطِّي على جهلهم المفضوح! وزيادةً في بيان مدى عجزهم عن الاستجابة للتّحدِّي، سيُنظَر هُنا في فاتحةِ "القُرآن" بصفتها «أُمَّ الكتاب» التي 0شتملت على بيِّناتٍ من الهُدى وآياتٍ من «الذِّكْر الحكيم». وكل من لم يَتبيّن شيئا من ذلك، فإنّما هو أحدُ 0ثنين: إمّا جاهلٌ بأُصول البيان في «اللِّسان العربيّ» وإمّا جاحدٌ لن يُصدِّق إلّا أن يَأتيَه العذاب. و«إنّكَ لا تَهْدِي من أحببتَ، ولكنّ 0للّهَ يَهْدِي من يشاء!» [القَصص: 56]. 2- "0للّهُ" وبٱسمه فقط! الرّاجح أنّ عبارةَ «بِسْم 0للّه 0لرَّحْمن 0لرَّحيم» آيةٌ من "الفاتحة"، بخلاف باقي السُّور التي يُستحَبّ بَدأُ التّلاوة بها بعد الِاستعاذة باللّه من الشَّيْطان الرّجيم. وعبارةُ «بِسْم 0للّه 0لرَّحْمن 0لرَّحيم» هي التي 0ختُزلتْ في 0سم "البَسْمَلة". و"الآيةُ" عُموما ليستْ مجرد "عَلامة"، وإنّما هي «علامةٌ بَيِّنةٌ» تُخاطب جِماعَ كينونةِ الإنسان بما هو رُوحٌ تَسمع وتُبصر وتُحس لعلّها تتفكّر فتَذَّكّر وتعتبر. ف"0لآيةُ" قَبَسٌ حَيٌّ من «المَثَل الأعلى» الذي هو نُور السّماوات والأرض. 1.2- المألوف أن تُكتَبَ "بِسْمِ" بالتّسهيل بدلا من "بِٱسْمِ" (حيث إنّ "بِ" دالّةٌ، بالأساس، على معنى "الإلصاق" 0ستعانةً أو توسُّلًا و"0سْم" عَلَمٌ مِمّا "يَسِمُ" أو "يَسْمُو"). والحقُّ أنّ كتابةَ "بِ0سْمِ" معياريًّا تفرض نفسَها حاليًّا على الأقل لتيسير التّعلُّم والتّعليم ؛ 2.2- "0للّه" عَلَمٌ على «الذّات التي لها كل صفات الكمال» ف"تُؤْلَهُ" (بمعنى "تُعْبَد") أو "تُولِهُ" (بمعنى "تُحيِّر"). و"0للّه" 0سمٌ مُفرَدٌ لا يُثنّى ولَا يُجمَع، بخلاف 0سم "إلَاه" الذي يُثنّى على "إِلَاهَانِ" ويُجمَع على "آلِهَةٌ" ("أَأْلِهَةُ" مثل "آنِيَةٌ" من "إناء" أو "أَعْمِدة" من "عِماد" أو "أنظمة" من "نِظام" أو "أَوْعيَة" من "وِعاء") ؛ 3.2- قول «بِ0سْمِ 0للّه» مُتعلِّقٌ بمُضمَرٍ أو مَحْذُوفٍ يُمكنُ تقديرُه على سبعةِ أوجُهٍ: «[اِبْدَأْ] بِ0سْمِ 0للّهِ»، «[أَبْدَأُ] بِ0سْمِ 0للّهِ»، «بِ0سْمِ 0للَّهِ [أَبْدَأُ أو أَقْرَأُ]»، «[0لِابتداءُ] بِ0سْمِ 0للّهِ»، «بِ0سْمِ 0للّه [0لِابتداءُ]»، «[اِبتدائِي] بِ0سْمِ 0للّه»، «بِ0سْمِ 0للّهِ [0بْتدائِي]». وقد يُرى أنّ تقديمَ "المُضمَر" أَوْلى من تأخيره، لكنّ التّأخير هو الأجدر لأنّه لو كان الأوّل، لوَجب إظهارُه مُقدَّمًا. وبِما أنّ "بِ" تعلَّقتْ بمُضمَرٍ تُرِك للسّامع أو المُتلقِّي تقديرُه، فإنّ من قَدَّره مُقدَّمًا يكون قد 0نتقل من إدراكِ فِعْلِه إلى إدراك وُجوب 0لِاستعانة باللَّه تعالى ؛ في حين أنّ من قَدَّره مُؤخَّرًا يكون قد 0نتقل من رُؤية وُجوب 0لِاستعانة باللّه على كل فعل يَأْتيه أو حالٍ يُلِمّ به. كما أنّه قد يُختلَف في هل "الفعل" أمْ "0لِاسم" أوْلَى بأن يكون "المُضمَر". ويبدو أنّ تأخير "الفعل" أوْلى كما يَدُلّ عليه وُرُوده في الآية الخامسة من "الفاتحة" نفسها («إيّاكَ نَعبُد، وإيّاكَ نَستعينُ.»)، فضلا عن أنّ إيرادَه قبل "البَسملة" يَجعلُه منسوبًا إلى ذاتِ القائل كأنّها هي الفاعلة من تلقاء نفسها، وهو ما يَتنافى مع إيراد "البَسملة" أوّلًا. ولعلّ الأقرب إلى الصواب أن يُقال إنّ "المُضمَر" إنّما هو فعلُ أمرِ "اِبْدَأْ" الذي يُعلِّم 0للّهُ به عبادَه أنّ ذِكْرَ أو 0ستحضارَ 0سمه تعالى أَوْلَى من غيره. والشّاهد على ذلك في بداية سُورة "العَلَق": «0قْرَأْ بِٱسْمِ ربِّكَ الذي خَلق!» [العَلق: 01]. وبِما أنّ المُرادَ يتمثل في الدّلالة على البدء «بِ0سْمِ 0للّه»، فقد وَجبَ إضمارُ فعل الأمر قبلها ؛ 4.2- بادئُ الرأي يَظهر له أنّ «بِ0سْمِ 0للّه» فيها فقط معنَى ما يجب أن يُبدَأ به كُلُّ فعل. وإلّا، فإنّ عبارةَ «أبدأُ مُستعينًا بِ0سْمِ 0للّهِ» ليستْ سوى تَجَلٍّ لِعبارةٍ وُسطى «بِ0سْمِ 0للّه يُعلَّلُ كلُّ شيءٍ»، وهي عبارةٌ تَقبَل أن تُردّ إلى أُخرى أصليّةٍ مُفادُها «لا شيء يكون إلّا بِ0سْمِ 0للّهِ» و، من ثَمّ، «اِبْدَأْ دائما بِ0سْمِ 0للّه!». ولأنّ "بِ" تُفيد مَعانيَ مُتعدِّدةً (الِاستعانة، الإلصاق/المُصاحَبة، السَّبَبيَّة، التَّعْدِيَة)، فإنّ نَقْل تركيب «بِ0سْمِ 0للّهِ» (لفظان فقط!) بكل حُمُولته الدّلاليّة إلى أيِّ لسان آخر يبدو مِحْنةً حقيقيّةً: إنّه بَلاءٌ شديدٌ لمن يُقْدِم على النّقل، و0متحانٌ جادٌّ للقُدُراتِ التّبْليغيّة والتّدْليليّة في لسانه الخاص! 5.2- "0لرَّحمن" تُكتَب تسهيلا بدون «ألف المدّ» ("ا")، وإنْ كانتْ كتابتُها به تُظهر أنّها «صفةُ مُبالَغةٍ» على وزن "فَعْلَانٌ" ("عَطْشان"، "جَوْعان"، "حَيْران"). و"0لرَّحْمان" هو «الذي وَسِعتْ رحمتُه كل شيءٍ فكان أرحم الرّاحمين.» أو هو «المُتفضِّل على الخلائق بجلائل النِّعَم وعَظائمها». و0سم "الرَّحْمان" مُفرَدًا خاصٌّ باللّه تعالى بصفته الذي يَشملُ برحمته وفضله كل المخلوقات دُنيًا وآخرةً ؛ 6.2- "0لرَّحيم" صفةُ مُبالَغةٍ تَدُلّ على «الشّديد الرَّحْمة الذي يُؤْثِرُ برحمته الخاصة عبادَه المُؤْمنين والصالحين في الآخرة بالأخص» أو «المُتفضِّل على بعض خَلْقه بدقيق النِّعم ولطيف الأفضال» ؛ 7.2- "0لرَّحْمان" و"0لرَّحيم" غير صفة "الرّاحم" لأنّهما صفتا مُبالَغةٍ. وكُلُّها صفاتٌ من "الرَّحْمة" التي هي غير "الرّأْفة" أو "العَطْف" أو "الرِّقّة" أو "الحُنُوّ" أو "الشَّفَقة". ذلك بأنّ "الرَّحْمة" تختصّ بالدّلالة على «الإنعام في قُرْبه وسَعته» و«الإحسان في تعالِيه وتجرُّده» ؛ 8.2- وُرُودُ "الرَّحْمان" قبل "الرَّحيم" يُؤكِّد أنّ "0للّه" قد سبقت رحمتُه عذابَه وأنّ نِقمتَه لا تَحِقُّ إلّا على من كَفَر نعمتَه أو لمن أراد أن يُضاعف مَثُوبتَه 0بتلاءً. ووُرُودُهما مُقترنَيْن مُباشَرَةً - بدون عطف- بعد 0سم "0للّه" يُؤكِّد أنّه تعالى يَتعرَّف لعباده بالرّحمة 0بتداءً، وأنّ رحمتَه تدلُّ على أنّه - سُبحانه- له المَثَل الأعلى في الخير 9.2- تَلقِّي عبارة «بِ0سْم 0للّه، 0لرَّحْمان، 0لرحيم» يجعل المرءَ يَتفكّر فيَتذكّر أنّ الناس لا يَبدأون كلامهم، وسائر أفعالهم، بذكر ذواتهم أو 0ستحضار آثارها إلّا غَفْلةً أو سهوًا. ذلك بأنّ كونَ "الفعل" لا يَأتي أصلا إلّا من «ذاتٍ قادرة ومُريدة وحُرّة» يُعَدّ أمرًا يَقُود إلى مُواجهةِ مُشكلةِ "البَدْء" و"المبدَأ": فبأيِّ شيء يجب أن يَبْدأ المرءُ أيّ فعل من أفعاله؟ هل يَبدأُه بذكر ضمير المُتكلِّم "أنا"؟ وهل حقًّا ب"أناه" يَأتي الفعلَ؟ هل هو الذي يُنْطقُ نفسَه مُحرِّكا لسانَه وسائر أعضاءِ الإصاتة فيه؟ وهل "النُّطْقُ" يَدُلّ على الحضور الكامل لذاته ك"أنا"؟ وهل هو الذي يُحرِّك أيَّ جارحةٍ من جوارحه حين يَهُمّ أن "يفعل" شيئا أمْ أنّه قد سُخِّر له أن يَأتي "الفعل" كأنّه يَصدُر فيه عن ذاته؟ هل الإنسان هو الذي "يَخلُق" أفعالَه كأنّه "يُبْدعُها" من عدمٍ أمْ أنّه يَأتيها "كَسْبًا" بعد أن جُعل بإمكانه ذلك "عَطاءً" و"إنعامًا" من لدن خالقه «"الرَّحْمان"، "الرَّحيم"»؟ إنّ "البَسملة" تأتي حلًّا لهذا الإشكال الذي لا يَنفصل فيه الجانب «0لخَلْقيّ/0لوُجُوديّ» عن الجانب «0لخُلُقيّ/0لوِجْدانيّ». فلا 0سمَ يَصحّ أن يُبدَأ به إلّا 0سمُ "0للّه" بصفته «"0لرَّحمان"، "0لرَّحيم"». وإتيانُ "0لبَسملة" في أوّلِ آيةٍ من "0لفاتحة" يُعَدُّ بِحَقٍّ "فَتْحًا" حِكْميًّا في جدار «0لعَدَميّة المُتألِّهة أنانيّةً»، بحيث لا يَعود "الأنا" مُمْكنًا في بَشريّته إلّا كبصيص من نُور "الحقّ" في قُرْب إنعامه ودَوَام إفضاله. وإلّا، فإنّه لَا "أنا" إلّا هو، وبرحمته يكون كل ما يكون. ففقط "بِ0سْمِه" - سُبحانه وتعالى- يكون "البدءُ"، وليس أبدًا بأيِّ 0سمٍ غيره كما يَتوهَّمُ الغافلون! وإنّ إحراجاتِ "الذاتيّة" منذ "سُقراط" و0نتهاءً بكل من "فتغنشتاين" و"هيدغر" و"لِفيناس" و"دريدا" و"ريكُور" لتُشيرُ إلى الأهميّة الكُبْرى ل"الفَتْح" في البَسملة الذي بدونه يبقى عملُ 0بن آدم أبْتَر أو أقْطعَ. ولكنّ "الجاحدين" لا يكادون يَعلمون! 3- "الحَمْد" منه وإليه حينما يَتلقّى المرءُ عبارةَ «0لحَمْدُ للّه» بعد «بِ0سْم 0للّه، 0لرَّحْمان، 0لرحيم» لن يكون بِوُسعه أن يَتساءل لماذا يجب أن يكون «0لحَمْدُ للّه» وليس لغيره، لأنّ "0للّه" هو «"0لرَّحْمان"، "0لرَّحيم"». ولكنْ قد يُتوقَّع منه أن يَتساءل: لماذا «0لحمدُ للّهِ» وليس «للّهِ 0لحمدُ» أو «حَمْدًا للّه» أو «أَحمَدُ 0للّهَ»؟ ولماذا "0لحَمْد" وليس "0لشُّكْر" أو "0لثَّناء" أو "0لمدح"؟ 1.3- "0لثَّناء" هو «الوصف مَدْحًا أو ذَمًّا» ؛ و"الحمد" هو «الثّناء بخير على ذِي الفضل أو الفضيلة» ؛ و"المدح" هو «إظهار صفات الحُسن والخير، ولو كذبا» ؛ و"الشُّكر" هو «ذِكْر النِّعمة ثناءً». ف"الثّناء" يكون في الخير والشر وفي الحُسن والقُبح، في حين أنّ "المدح" قد يكون كذبا في الوصف بالحُسن والخير، كما يُقال فيما يكون من الإنسان باختياره، وأيضا مِمّا يُقال منه (وفيه) بالتّسخير. أمّا "الحمدُ"، فلا يكون إلّا في "التّسخير". وهكذا، فكل شُكْرٍ حَمْدٌ، وليس كل حَمْدٍ شُكْرًا، وكل حَمْدٍ مدحٌ، وليس كل مدحٍ حَمدًا. ولأنّ "اللّه" هو «الخيِّر، واسع الفضل، المُنْعِم»، فلا يَكفي أن يُمدَح أو يُثْنَى عليه أو يُشْكَر، بل الواجب أن يُحمَد حَمْدًا كثيرا ودائما. فهل 0ختيارُ لفظ "الحمد" للدّلالة على «أفضل الشُّكْر والثّناء» مُجرَّد 0تِّفاق أمْ أنّه غايةٌ في الإحكام والتّوفيق؟! 2.3- نعم، إنّ العارف بأسرار «اللِّسان العربيّ» يُدرِك الفرق بين "الثّناء" و"المدح" و"الشُّكْر" و"الحمد". لكنْ، حتّى لو 0ختار لفظَ "الحمد" في مُناسَبته لجَمال الذّات الإلاهيّة وجلالها، فهل سيُوفَّق في جَعْله بصيغة «0لحمدُ للّهِ»؟ 3.3- وُرُود «0لحمد للّهِ» بدلا من «لِلّه الحمدُ» أو «أحمَدُ 0للّهَ» أو «حَمْدًا للّهِ» يَدُلّ على أنّها ليست من كلام البشر: فتقديمُ "الحمد" (ك0سمِ جنس) وتأخير "للّهِ" تركيبٌ لا يُفيد فقط أنّ «الحمدَ كُلّه إنّما يكون للّه وحده»، وإنّما يُفيد أيضا أنّ "0لحمد" لا يكون إلّا إنعامًا وتوفيقا من 0للّه سبحانه ؛ في حين أنّ «للّهِ 0لحمدُ» تركيبٌ يُفيد أنّ "0لحمد" مقصورٌ على 0للّه بصفته الذي يُحمَدُ في السّرّاء والضّرّاء على سَواءٍ. وأمّا تركيبُ «حمدًا للّه»، فيُضمِرُ مفعولُه المُطلق الإشارة إلى فعل "نَحْمَدُ". و«أحمدُ 0للّهَ» لا يَأتي إلّا مَشُوبًا بنِسبةِ الفعل إلى نفس من هُو في حاجةٍ إلى توفيق "0للّه" لكي يأتي بفعل "0لحمد" عينه! 4.3- قُرِأ «0لحمدُ للّهِ» (وهي القراءة الأشهر والأظهر لدلالتها على ثُبُوت "الحمد" للّه وحده) و«0لحمدَ للّهِ» (بإضمار «فِعْل مُقدَّم» جَرْيًا على عادة العرب في البدء بأسماء منصوبة: "شُكْرًا!"، "عَجبًا!"، "تَبًّا!"، إلخ ؛ وفي "النَّصْب" إشارةٌ إلى "الفعل" الدّال على "الحُدُوث" و"التّجدُّد") و«0لحمدِ لِلّهِ» (بإتباع "الحمدِ" لحركةِ "اللَّام" في "لِلّهِ" كما فعل "الحسن البصريّ") ؛ كما قرأ "إبراهيم بن أبي عبلة" ب«0لحمدُ لُلَّهِ» (بإتباع "اللّام" في الضم إلى "الدّال"، وهذه القراءة هي الجارية على ألسنِ كثير من العامّة) ؛ 5.3- وردتْ عبارةُ «الحمدُ للّهِ» في مُستهلّ أربع سُور أخرى: «الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظُّلمات والنور.» [الأنعام: 01] ؛ «الحمدُ للّه الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.» [الكهف: 01] ؛ «الحمدُ للّه الذي له ما في السماوات وما في الأرض.» [سبأ: 01] ؛ «الحمد للّه، فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رُسلا، [...]» [فاطر: 01]. كما وردتْ ضمن سُور أُخرى كثيرة ؛ 6.3- يُفهَم، إذًا، قولُه تعالى «وإنْ من شيءٍ إلّا يُسبِّح بِ0سْمِه، ولكنْ لا تَفقهون تسبيحَهم!» [الإسراء: 44] وقولُه عزّ وجلّ «ويُسبِّحُ الرَّعد بحمده، والملائكةُ من خِيفته!» [الرعد: 13]. ويُفهَم أيضا كيف أنّ صفةَ "الحَمِيد" من أسماء اللّه الحُسنى، حيث ورد في أكثر من آية («فإنّ للّه ما في السماوات وما في الأرض ؛ وكان اللّهُ غنيًّا حَميدًا.» [النِّساء: 131] ؛ «له ما في السماوات وما في الأرض، إنّ اللّهَ لهو الغنيّ الحميد.» [الحج: 64] ؛ «ومَنْ يَشكُرْ، فإنّما يَشكُر لنفسه. ومن كَفر، فإنّ اللّهَ غنيٌّ حميدٌ!» [لُقمان: 12]) ؛ 4-"الربّ" و"العالَمين" 1.4- "الربُّ" من "التَّرْبيَة" بمعنى «"الإنشاء التامّ" و"الإصلاح الدائم" تملُّكًا وتسيُّدًا». ف"الربُّ" هو «"المالِك" الذي له الخلق والأمر» و«"السيِّد" الذي لا مثيل له في سُؤْدَده» و«"المُصلِح" أمرَ خَلْقه بما أسبغ عليهم من نِعَمِه». ولا يُستعمل "الربُّ" مُفرَدًا إلّا في الدّلالة على "اللّه" تعالى، وإذَا أُريد به غيرُه 0سْتُعمل بالإضافة («ربُّ الدّار»، «ربُّ النّاقة»، «اِرْجِعْ إلى ربِّك» [يوسف: 50]) 2.4- "العالَمُون" جمعٌ مُفردُه "عالَمٌ" ؛ و"العالَم" كل «ما سِوَى الربّ مِمّا يُعلَم أو لا يُعلَم في السّماوات والأَرَضين». ولفظُ "عالَمُون" يَفضُلُ "عَوالِم" لأنّه بصيغته (المُنتهية بلاحقة "وُنَ") يدل على «مجموع أصناف الخلائق سواء أكانت عاقلةً أمْ غير عاقلة، وسواء أكانت مُكلَّفةً أمْ لا.». وبهذا فلفظُ "العالَمين" يَجمع ثلاثةَ مَعانٍ: معنى «العلامة الدالّة» ومع «الجمع الكثير» ومعنى «الشُّمُول المُستغرِق لكل الكائنات بما فيها العاقلة» ؛ 3.4- "اللّهُ" «ربُّ العالَمين»، وهو أحقّ بأن يُحمَد ويُعبَد ليس فقط لأنّه كذلك، بل لأنّه سبحانه هو «"الرَّحْمان"، "الرَّحيم"» ؛ 4.4- «ربّ العالَمين»: "العالَمين" تابعةٌ لربِّها 0ختيارًا و/أو 0ضطرارًا. فليس هُناك "عالمُون" تُعرَف بلا ربّ، وإنّما كل "العالَمين" تُعرَف وتُعلَم بربِّها تعالى، بل لا يُعْرَف أو يُعْلَم بعضها ك"عالَم" إلّا بما هو عَالَمٌ ل«ربّ العالَمين» ؛ 5.4- قَرأ "زيدٌ بن عليّ" «ربَّ العالَمين» بالنّصب على المدح أو بِما دلّ عليه في «الحمدُ للّهِ»، كأنّ المُراد: «نَحمدُ اللّهَ ربَّ العالَمين.» ؛ 6.4- قولُ «ربِّ العالَمين» مُترتِّبٌ على قول «الحمدُ لِلّهِ» لأنّ «ربَّ العالَمين» يَستحقّ "الحمد" بما هو «"الخالِق"، "المُنعم"» ؛ 5- أوّليّةُ "الرَّحْمة" وسَعتُها يَأتي بعد «ربِّ العالمين» نعتَا "الرَّحْمان" و"الرَّحيم" تأكيدًا لما سَلَف من أنّ "0للّهَ" لا يَتعرّف – حتّى بما هو "الربّ"- لمخلوقاته إلّا ب"الرّحمة"، فهو خالقُهم وربُّهم «"0لرَّحْمان"، "0لرَّحيم"»: 1.5- تكرار نعتيْ "الرَّحْمان" و"الرّحيم" بعد 0سم "الربّ" يُشير إلى أنّ "0للّهَ" سُبحانه هو «الخالِق، المُنْعِمُ الذي بيده الخير كلُّه»، فلا ربّ سواه ولا رازق من دُونه ؛ 2.5- قولُ «"0لرَّحْمان"، "0لرَّحيم"» مُترتِّبٌ على القولَيْن السّابقين («الحمدُ للّهِ» و«ربِّ العالَمين») لأنّ "اللّه" تعالى يَستحقُّ "الحمد" بما هو «"الخالِق"، "المُنْعم"» وأيضا بما هو «"0لرَّحْمان"، "0لرَّحيم"»، بل إنّ من "الحمد" أن يكون اللّهُ هو «"0لرَّحْمان"، "0لرَّحيم"» ؛ 3.5- من الحكمة أن تأتي صفتا «"0لرَّحْمان"، "0لرَّحيم"» هُنا قبل «مَلِك يوم الدِّين»، لأنّهما بقدر ما تُشيران إلى «سَعة رحمة اللّهِ»، فإنّهما تُؤكِّدان «رجاءَ عفو اللّه» من قِبَل عباده في «يوم الحساب» ؛ 6- «المَلِك/المالِك» و«يوم الدِّين» 1.6- في «مَلِك يوم الدِّين» هناك عدّة قراءات: "مَلِك" و"مَلْك" (بتخفيف اللّام) و"مالِك" (اسم الفاعل من "مَلَكَ": بخَفْض "مالِكِ" عطفا أو بنصبه كما عند "أبي هريرة" أو برفعه "مالِكُ") و"مَلَكَ" («مَلَكَ يومَ الدِّين» كما قرأها "أبو حنيفة"). والأرجحُ قراءة "مَلِكِ" لأنّها قراءة أهل الحرمين ولأنّها مُتّفقةٌ مع آية «مَلِك الناس» [الناس: 02]، وأيضا لأنّ معنى "المُلْك" ("المَلِك") فيها أعمّ من معنى "المَِلْك" ("المالِك") ؛ إذْ كل مَلِكٍ مالكٌ، وليس كل مالِكٍ بمَلِكٍ. وبالتالي، فإنّ «مَلِك يوم الدِّين» إنّما هو «مالِك الأمر كلِّه في يوم الدِّين» و«الحاكم القاضي بسُلطانه وعدله بين عباده» ؛ 2.6- «يوم الدِّين» هو «يوم الحساب والجَزاء». و0ختيار لفظ "الدِّين" راجع إلى أنّه يَشمل في دَلالته معاني "الطّاعة" و"الخضوع" و"الحساب": يوم الحساب يومٌ لمعرفة من خَضع للّه طوعًا وتعبُّدًا ومن خضع له كَرْهًا وطمعًا ؛ 3.6- قول «مَلِك يوم الدِّين» مُترتِّبٌ على الأقوال الثلاثة («الحمدُ للّه»، «ربِّ العالَمين»، «الرَّحْمان، الرَّحيم») لأنّ كل ما يَقع في الحياة الدُّنيا له ما بعده، فهناك بعثٌ من القُبور وحسابٌ على الأعمال. وكلُّ من أحسن أو أساء في الدُّنيا، فلا بُدّ أن يُجازى في "الآخرة" من قِبَل «ربِّ العالَمين» الذي هو «مَلِك يوم الدِّين» والذي له وحده "الحمدُ" بما أنعم رحمةً منه وبما يَقضي عدلا في يوم يَنتصف المظلومُ من ظالمه جزاءً من ربِّ العالَمين ؛ 7-"العبادة" و"الاستعانة" 1.7– في قول «إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ» قُدِّم «ضمير النَّصْب المُنْفصل» على فِعْلَيْ "نَعبُدُ" و"نستعينُ" لتأكيد 0ختصاص اللّه سبحانه بِهِما. فلا معبود بحقٍّ سواه، وهو وحده القويّ والغنيّ الذي يُستعان به على كل حال ؛ 2.7– وفي قول «إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ» 0لتفاتٌ مُزْدَوِجٌ: من ضمير «الحاضر في غَيْبه» (هُو اللّه) إلى ضمير «الحاضر المُخاطَب في قُرْبه» (أنت المعبود وأنت المُستعان) ؛ ومن عُموم فعل "الحَمْد" إلى خُصوص فعل "العِبادة" ("نَعبُد") و"الاستعانة" ("نَستعين"). وهذا الالتفات، في الحقيقة، لَفْتٌ للنّظر إلى أنّ كون "العبادة" مُرتبطةً ب"الاستعانة" يجعل تحقُّق الإنسان بها إمّا مقصورا على "0للّه" تعالى وإمّا مُوجَّهًا نحو سواه، بحيث لا يكون من خيار أمام من أبى الدُّخول في جماعة الذين قالوا: «إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ» إلّا أن يقول: «أعبدُ نفسي وهَوَاها» ف«أستعين بكل ذِي قُوّة وسُلْطان»، وهو قول من أبى أن يأتي طوعًا فسِيقَ - من حيث لا يدري- إلى أن يَأتيَ ربَّه كَرْهًا وكَدْحًا لأنّ نفسه وهواها من خَلْق الباري الذي سوّاها فآتاها فُجُورها وتَقْواها! 3.7– ينبغي أن يُلاحَظ أنّ هذه الآية تُؤلِّفُ بين "اللّه" مُتكلِّمًا ومُخاطَبًا وبين عباده مُخاطَبِينَ ومُتكلِّمينَ: «إيَّاكَ أنتَ» و«نحن نعبدُ»، ثُمّ «إيّاكَ أنتَ» و«نحن نستعينُ». ووحده من له "الحمدُ" يَجمع برحمته بين جلال عطائه وبين عبادة خَلْقه الذين أُعطوا من واسع فَضْله 0بتلاءً منه سبحانه أيَشكُرون أمْ يَكفُرون! 4.7- يُنْظَر، عموما، إلى "العبادة" في صلتها ب"العُبوديّة" فتبدُو - بالتالي- "العبادةُ" كأنّها ضدّ "السِّيادة" التي تُعبِّر عن "الحُريّة". لكنّ "العبادة" إقرارٌ طَوْعيٌّ ب"العُبوديّة" إزاءَ من تَفَرَّد ب"السِّيادة" خالِقًا وربًّا، وهو الإقرار الذي يُمكِّن من التحقُّق ب"الحُريّة" تعبُّدًا وتخلُّقًا. فلا سيادة للإنسان، في الواقع، لا على نفسه ولا على ما سواها ؛ وإنّما هي عبادةٌ للّه وحده و0ستعانةٌ به دون سواه، على النّحو الذي يُمكِّن "العبد" من الخُروج من آفاتِ "التّربُّب" و"التألُّه" والعمل – من ثَمّ- على "التّأنُّس" تعبُّدًا مُحرِّرا وتخلُّقا مُسدِّدًا ؛ 5.7– الرَّبْط بين "العبادة" و"الِاستعانة" يُبيِّن أنّهما مُتلازمتان بما يُؤكِّد أنّ "0للّهَ" هو الغنيّ المُتعالِي الذي يَفتقر إليه عبادُه باستمرار والذي لا حول ولا قُوّة إلّا به سُبحانه. ف"0لعبادةُ" 0ستعانةٌ باللّه على كل أمرٍ يَهُمّ العبدَ أو يُصيبه، ولا عبادة مُخلِّصة إلّا بعونه تعالى ؛ 8- "الهداية" و«الصِّراط المُستقيم» مَجيءُ الطَّلَب ب"0هْدِنَا" مُباشَرَةً بعد آيةِ «إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ» فيه بيانٌ لمعنى "العِبادة" و"الاستعانة": عبادتنا إيّاكَ 0ستعانةٌ بك على حاجاتنا التي أُسُّها «أن تَهْدِيَنَا» إلى «الصِّراط المُستقيم». ف"العبادة" 0ستعانةٌ ودُعاءٌ، ولا شيء من هذا يَتمّ من دون "0لِاهتداء" إلى «الصِّراط المُستقيم». فلماذا طلبُ الجمع بين "الهداية" و«الصِّراط المُستقيم»؟ 1.8- "الهِداية" هي الدّلالة بلُطْفٍ إلى الخير عموما. ولأنّها من أمر 0للَّه وحده الذي يَهْدِي من يشاء من عباده، فإنّ طلب "الهُدَى" لا يَصحّ إلّا من "0للّه" الهادِي بفضله وتوفيقه. فالإنسان لا يَستقّل إطلاقا بنفسه في "0لِاهتداء" كما يَظُنّ الذين يرون في "العقل" غَناءً لهم عن أمر اللّه تعالى. وإلّا، فإنّ 0دِّعاء قُدرة الإنسان على "الاهتداء" بعقله وحده يَؤُول إلى تنصيبه معبودا من دون اللّه سبحانه، فضلا عن أنّه 0دِّعاءٌ لا يَكفُل تأسيس "العقل" إلّا تأليها مُتنكِّرا أو تأريخا مُتعاليًا! 2.8- قرأ "ابن كثير" و"نافع" و"أبو عَمْرٍو" و"ابن عامر" و"عاصم" و"الكسائي" "الصِّراط" بالصاد ؛ وقرأه "يعقوب" بالسين "السراط". والأصلُ في هذا اللّفظ "السين" فقُلِبت "صادًا" لقُربِ مَخْرجها من "الطّاء" في آخره (لا يزال الناس يَنْطقون "سَرَطَ" - بمعنى "0بْتَلَعَ"- قريبا من "صَرَطَ"). وبعض العرب (مثل "عُذرة" و"كَلْب" و"بني القَيْن") يَنْطقها زايًا "الزِّراط". و"الصِّراط" هي لُغةُ "قُريش" الثّابتة في المُصحف العثمانيّ. وتَعاقُب "السين" و"الصاد" و"الزاي" في هذا اللّفظ مِمّا دعا كثيرين إلى 0عتباره من الدّخيل ناسِينَ أنّ تَعاقُب الأصوات طبيعيٌّ في كل الألسن وبالخصوص في "العربيّة". ولعلّ وُجود مادّة مُتجانسة وكثيرة من الألفاظ الثُّلاثيّة يُؤكِّد أصالتَه فيها ("سَرب"، "سرج"، "سرح"، "سرد"، "سرر"، "سرط"، إلخ.). ولفظ "صراط" يُذكّر ويُؤنَّث مثل "طريق" و"سبيل"، ويُجمَع على "سُرُط/صُرُط" ؛ 3.8- "الصِّراط" ليس مجرد "طريق" أو "سبيل"، وإنّما هُو «الطريق الواضح أو السّهل»، إنّه "الطريق" الذي "يَسْرُط" (أيْ "يَبْتلِعُ") سالِكَه (أو، بالأحرى، يَسْرُطُه سالِكُه) لشدّةِ وُضوحه وسُهولته ؛ 4.8- ولأنّ "الصِّراط" طريقٌ سالكٌ (و"سارِطٌ") جدًّا، فإنّ طلبَ "الهداية" لا يكون إلّا إليه. ولهذا أتى الدُّعاء ب«0هْدِنا الصِّراطَ المُستقيمَ» ؛ 5.8- ولا بُدّ من تبيُّن أنّ «الهداية الإلاهيّة» تتعلّق ب«الصِّراطَ المُستقيمَ»، فليس كل طريق يُوصل إلى اللّه، بل ما أكثر الطُّرُق التي لا تُؤدِّي إلّا إلى غيره. وبِما أنّ "الهُدى" كلَّه من اللّه، فإنّ "الصِّراط" المُراد الاهتداء إليه لا بُدّ أن يكون "مُستقيما" ؛ وهو «صراط مُستقيم» في دلالته على صحيح الاعتقادات تصوُّرا وتصديقا، وعلى صالح العبادات تفقُّهًا وتخلُّقًا ؛ 6.8- لا يكون «السِّراط/الصِّراط»، إذًا، إلّا واحدًا ومُستقيما لأنّه حبل اللّه الممدود إلى عباده هُدًى: «وأنّ هذا صراطي مُستقيمًا فٱتَّبِعُوهُ، ولا تَتَّبِعوا السُّبُل فتفرّق بكم عن سبيله!» [الأنعام: 153]. وما أشدّ طَيْش من ظنّ أنّ حكمة "التنوير" و"التحرير" تقتضي أن يصير «السِّراط/الصِّراط» مُتعدِّدًا في «الدِّين الدُّنيويّ» ليكون «صُرُطًا [أو صِراطاتٍ] مُستقيمةً»، كأنّ "الهداية" أصبحت شأنًا بَشريًّا خالصا ولم تَعُدْ من 0ختصاص اللّه سبحانه («قُلْ: للّه المشرق والمغرب، يَهدي من يشاء إلى صراط مُستقيم.» [البقرة: 142])، بل كأنّ "الاستقامة" لا تتمّ إلّا إذَا تفرَّقتِ السُّبُل بالعباد وذهب بهم التّنازُّع كل مذهب! 9-«المُنعَم عليهم» و«المغضوب عليهم» و«الضالُّون» أمام "الهُدى" الآتي (والمطلوب) من اللّه لعباده، هناك ثلاث فئات: فئة «المُنعَم عليهم» بأن هُدُوا إلى «الصراط المُستقيم»، وفئة «المغضوب عليهم» (الذين أتاهم الهُدَى فكذّبوا به جُحودا وظُلْما) وفئة «الضالّين» (الذين صَعُب عليهم تمييز «الصِّراط المُستقيم» من السُّبُل المُضلّة): 1.9- هذه الآية تُبيِّن «الصِّراط المُستقيم» بصفته مَطلب "الهداية" الذي يَستعين به «المُنعَم عليهم» في عبادتهم لربِّ العالَمين. ولأنّ «المُنعَم عليهم» هُم الذين هُدُوا إلى «الصِّراط المُستقيم»، فإنّهم يَتميّزون عن «المغضوب عليهم» و«الضالِّين» بحيث يَخرُجون منهم بما يُؤكِّد أنّ مقام «المُنعَم عليهم» يَأتي أوّلًا، ويَأتي بعده مَقام «المغضوب عليهم»، ثُمّ أخيرًا مَقام «الضالِّين» 2.9- «المُنعَم عليهم» هُمُ الذين هَداهُم ربُّهم إلى «الصِّراط المُستقيم» فاستقاموا كما أُمروا: «ومن يطع الله والرسول، فأولئك مع الذين أنعم اللّهُ عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقا. ذلك الفضل من اللّه ؛ وكفى باللّه عليما.» [النساء: 69-70] ؛ 3.9- «المغضوب عليهم» هُم كل الذين أتاهم هُدى اللّه فأبوا إلّا أن يكذبوا به ظُلْما وعدوانا. ويُعدّ الذين لُعنوا من "اليهود" النموذج التاريخيّ للمغضوب عليهم لقوله تعالى: «[...]، من لَعَنَه اللّهُ وغَضِبَ عليه، وجعل منهم القردة والخنازير وعبدَ الطاغوتَ ؛ أولئك شَرٌّ مكانا وأضلُّ عن سواء السبيل!» [المائدة: 60] ؛ 4.9- «الضالِّين» هُم كل الذين طلبوا «الصِّراط المُستقيم» فأضلَّتهُم كثرةُ الشُّبُهات و0تَّبَعوا نوازع الأهواء. ويُعَدّ "النّصارى" النموذج التاريخيّ للضالِّين لقوله تعالى: «قُلْ: يا أهل الكتاب! لا تَغْلُوا في دينكم غيرَ الحقِّ، ولا تَتّبعوا أهواءَ قومٍ ضَلُّوا من قبل وأضَلُّوا كثيرًا، وضلُّوا عن سواء السبيل!» [المائدة: 77]. 10- و«الحمدُ للّه» أوّلا وآخرا بِناءً على ما سَلَف، يَتبيّنُ أنّ نصَّ سُورة "الفاتحة" (المُكوَّن من واحد وثلاثين لفظا فقط!) يَتضمّن من آيات "الإعجاز" ما ظلّ أُولُو الألباب يَجهَدُون في 0ستقصائه على 0متداد أربعة عشر قرنا. والجاحد وحده يُمكنه أن يَتردّد في الإقرار بأنّه نصٌّ بيانيٌّ بديعٌ وخطابٌ حِكْمِيٌّ بَليغٌ. وعليه، فكل جاحد مُطالَبٌ بأن يُنْجز تمرينا يَتمثّل في أن يُؤلِّف باللِّسان العربيّ أو بغيره نصًّا يُعبِّر به عمّا يُضاهي كل تلك المَعاني الجليلة في حُدود ألفاظٍ لا تزيد على ألفاظ "الفاتحة" و، في الوقت نفسه، تَفضُلُها بيانًا وحكمةً! أمّا من أُوتيَ رُشدَه، فلا يَمْلِك إلّا أن يَلْهَج لسانُه ب«0لحمد للّهِ» أمام عِظَم ما أَسبغ عليه ربُّه من النِّعم التي ليس أهونَها ثُبوتُ وُجوده بين "العالَمين" بما هو "المخلوق" الذي سُوِّيَ لكي يَسْمُو به وِجدانُه إلى "التّفكُّر" و"التّدبُّر"، و"العامل" الذي 0بْتُليَ بالمُكابَدة في العاجلة عسى أن يَهتدي - بفضل ربِّه- إلى «الصِّراط المُستقيم» تعبُّدًا وتَخلُّقًا. وإنّ نصًّا أُريدَ له أن يَتنزّل حَمْدًا مُتجدِّدًا وذِكْرًا مُتواصلا لخليقٌ بأن يكون إعجازًا فاتحًا لغيب "الوُجود" وإنجازًا مُحرِّرًا لنوازع "الوِجْدان" بما لا قِبَل به لمُمْكناتِ الكلام البشري بشعره ونثره. ولك أن تعجب، بَعْدُ، كيف أنّ "الجاحدين" - رغم ترديدهم لقول «لا أحد يَمْلِك الحقيقة»- لا تَلْمَسُ لديهم إلّا ما يُشْعرِكَ بأنّهم يُحْسنون الظنّ كثيرا بأنفسهم كأنّهم فعلا أصحاب «الصِّراط المُستقيم» أو أنّهم من يَستأْثر بأمر "الهِداية" إليه. والحالُ أنّهم أشدُّ الناس غفلةً حتّى في إطباقهم على ما يَعْلَمُونه من «ظاهر الحياة» أو ما يُزيَّن لهم من «باطن البَلاء»! ولأنّ لِلّهِ في خلقه شُؤُونا لا يُحاط بها علما، فليس بالوُسْع أن يُقال إلّا: «الحمدُ للّه» الذي هَدانا لشُكْره وذِكْره، وما كُنّا لنهتدي لولا أن هَدانا 0للّه. وآخر دعوانا أن «الحمدُ للّه ربِّ العالَمين». _____________ اعْتُمد، بالأساس، على المَصادر التالية: 1- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن. 2- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 1. 3- فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، ج 1. 4- أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج 1. 5- محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التنوير والتحرير، ج 1. [email protected]