لقد سبق لي أن كتبت مقالا بعنوان (الكفاءة أم المناصفة؟) نشر بجريدة هسبريس الإلكترونية يوم 23 غشت 2012. دعوت فيه إلى اعتماد مبدأ الكفاءة، ومن بين ما بينت فيه ما يلي: "أن المناصفة قطعا ليست في صالح المرأة، لأنها تجعلها دون الرجل في الكفاءة، وكأنه من باب الامتنان منحت هذه المناصفة تطييبا لخاطرها. أو تحت قرارات دولية، وهذا طبعا لا يليق بالمرأة." أن الغرب الذي يروج للمناصفة في غير بلاده يعتمد على الكفاءة لا على المناصفة. "أنه ينبغي الدفاع عن حقوق المرأة الحقة لا الوهمية، ولا داعي للمتاجرة بقضايا المرأة في سوق السياسة..." وكم كنت مترددا بين إقبال وإدبار للخوض في الكتابة مرة أخرى في نفس الموضوع، لاعتقادي أن الموضوعات العلمية تتلقاها العقول الكبيرة بصدر رحب، وبمنهجية دقيقة، فتشرع في البحث فيها بتؤدة وعزم كبيرين، متقبلة نتائجها مهما كانت تلك النتائج موافقة أو مخالفة، لأن الشأن في المنهج العلمي أن تسوقك استدلالته، وطرق برهنته، ومقدماته السليمة إلى نتائج علمية رصينة مهما ما يمكن أن يعتريها من نقص، أو هفوات. لكن من يأتي بعدك سيستدرك ويبني ويولد عندها أفكارا علمية رصينة. وهكذا هو الشأن في القضايا التي تمحص على ضوء العلم والمعرفة. واسمحوا لي أن مشكلة العالم المتخلف أن العلم في واد والسياسة والإيديولوجيا والدماغوجية في واد آخر، ومع الأسف فهذه هي القائد والموجه. وعلى أي حال فلولا ما رأيت وسمعت وبخاصة في قبة البرلمان من لغط شديد، ولغو عنيد، وعويل وصراخ قديم جديد، حول قضية المناصفة، ما سمحت لنفسي أن تخوض في معركة يعلم أصحابها من تيار المناصفة أنها من الخسارة من مكان غير بعيد. من هنا أؤكد مرة أخرى أنه ينبغي عند معالجة هذا الموضوع، أن نفرق بين التفكير العلمي المبني على البرهنة والاستدلال، المؤسس على معطيات الواقع، والكاشف عن متطلباته. وبين التفكير الإيديولوجي الخرافي السياسوي. وهذا الضرب الثاني من التفكير هو الذي تتمسك به بعض ممن يسمين أنفسهن بالمناضلات، حين يصرخن ويولولن، ويقمن مأتما وعويلا من أجل تطبيق المناصفة. ولا يفهمن المناصفة بمبدأ شمولي عمومي، وإنما يفهمنها في إطار تجزيئي أحادي خارج عن سياق الواقع الإنساني العام، وبعيد كل البعد عن إدراك كينونة المرأة، وخصوصيتها وشخصيتها الذاتية. فالمبدأ الشمولي يقتضي أن تقتسم المرأة مع الرجل جميع الوظائف، وجميع المهن، في جميع ميادين الحياة وكافة مجالاتها، المدنية والعسكرية والأمنية، فيكون لدينا نصف النساء العاملات في المعادن والمناجم وبناء السدود والقناطر وغيرها، يعادلن به نصف الرجال الذين يكابدون تلك المشاق، ويتحملون تلك الصعاب. ويكون لدينا نصف الجنود من النساء في الصحراء في آخر نقطة من حدود الوطن، يعادلن به نصف أولئك الرجال البواسل من الجنود والعسكريين، المرابطون هناك دفاعا عن حوزة الوطن، وهلم جرا. لكن النظر التجزيئي السطحي الذي غشي المناضلات وممن ورائهن ما غشيهن، جعلهن لا يفهمن من المناصفة إلا بأن تكون إحداهن وزيرة، أو كاتبة الدولة، أو مديرة عامة،...إلخ. فيتحاشين الحديث البتة عن المناصفة في باقي المجالات. وهذه شبيهة بما ورد في مدونة الأسرة من وجوب النفقة على الرجل، وأن المرأة والرجل مسؤولان عن البيت، فسكت عنها. ونسي المناضلات البارعات وتوابعهن أن الدستور حين نص على المناصفة، جاءت عباراته عامة وواسعة، ولم يحدد لها الإطار التنزيلي. لماذا البحث أصلا عن المناصفة؟ جوابه باختصار هو إحساس المرأة بعقدة الدونية، يعني أنها دون الرجل. إذن فما العمل؟ هو التخلص من هذا الإحساس المقيت، وهو شعور دفين في كيان المرأة اللاشعوري، رسخه واقع ثقافي موروث، له أسبابه وإشكالاته، ورسخه أيضا واقع سياسي متعاقب. وإلا بماذا يفسر غياب الكفاءات النسوية العالية داخل الأحزاب الساسية نفسها، بما فيها "التقدمية" "والعلمانية"؟ والمعول عليه للخروج من عقدة الدونية، ومن عقدة التفكير الإيديولوجي السياسوي هو تحقيق مبدأ الكفاءة دائما وأبدا، وهي تعني القدرة والقوة والأمانة، القوة العلمية، والقوة الفكرية، والقوة المهنية. والأمانة تعني النزاهة، وتعني الأمانة الخلقية، والإنصاف في مواطن الخلاف، وإقامة العدل. فأي منصب مهما كان لا بد له من قوى أساسية، وهي: قوة العلم والفكر، وقوة الأمانة والفهم، وقوة الإنجاز، يعني القدرة على تحقيق الفعل. وهنا ينبغي اصطفاء الكفاءات من الرجال والنساء على حد سواء، الكفاءات الواعدة، ولا دخل للذكورة أو الأنوثة في تحقيق تلك القوى، وإنما العبرة بمن توفرت فيه، وتأهل لذلك. وحينما يتنكب عن هذا السبيل، وأعني به سبيل الكفاءة، بحثا عن المناصفة بأي ثمن، وعلى حساب مصالح الشعب، فإن من يفعل ذلك يكون متجنيا. فالأولى والأحرى أن نسعى إلى تحقيق مبدأ التكامل بين الرجال والنساء، لأنه هو أساس الحياة. وعلى المناضلين والمناضلات الشرفاء والشريفات، من كل الأحزاب والأطياف والأشكال والألوان، أن يبحثوا بصدق وإخلاص عن المشاكل الحقيقية التي تعاني منها المرأة المغربية بعيدا عن المزايدات السياسية والحسابات الإيديولوجية الضيقة. وبعيدا عن تحقيق مآرب شخصية لا تساوي شيئا أمام ما ينبغي تحقيقه لهذه الأمة، ولا يكونوا كمهاجر أم قيس. والله تعالى يقول: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثال ذرة شرا يره.