ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة ليست أبدا كمثيلاتها من الليالي عند العديد من المغاربة الذين "تنقلب" حياتهم رأسا على عقب خلال سويعات معدودات، إن لم يكن في دقائق قليلات، حيث يحرص البعض على التخلص من "ضوابط" سلوكية واجتماعية تحكمه طيلة السنة، فيجدون في الاحتفالات التي تواكب هذه المناسبة "فرصة" قد لا تتكرر من أجل تغيير نمط عيشهم وسلوكياتهم. ويظهر جليا جنوحُ عدد من المغاربة، في ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة، إلى جرعة غير قليلة من "الزيغة" وشيء غير يسير من "التمرد" على الأخلاق والمعايير السلوكية، فتكثر بذلك معاقرة الخمور حتى عند من لم يَقْربها من قبل، وتتجدد الانفلاتات والمشاحنات في احتفالات يصر البعض على جعلها استثنائية في عواقبها ونتائجها؛ ومن ذلك ارتفاع نسبة حوادث السير والجرائم التي تقع في هذه الليلة نتيجة التعاطي للممنوعات والمسكرات. ويطرح هذا الواقع، الذي لا يمكن الجزم بأنه عام لدى المغاربة باعتبار أن الكثيرين منهم لا يحتفلون بشيء اسمه "بون آني" لأنه ببساطة لا يساير هويتهم الدينية وقناعاتهم الاجتماعية وتوجهاتهم الحياتية، الكثير من الأسئلة متمثلة في الدوافع التي تجعل بعض المغاربة "زايغين" في ليلة رأس السنة الميلادية. انقلاب واستنفار عائلة غيزوان، التي تقطن في أحد الأحياء الآهلة بالسكان في الرباط، معروفة بدماثة أخلاق أفرادها وطيبوبتهم في الحي كله، غير أن هذه الأسرة "المحافظة" تتغير طباعها تماما في احتفالات ليلة رأس السنة، حيث تجتمع أبناء وبنات وأبا وأما على مائدة تُدار فيها كؤوس الخمر بدعوى الاحتفال برحيل سنة وقدوم سنة جديدة. مصطفى، شاب في عقده الثالث وأحد أفراد هذه الأسرة، قال في تصريح لهسبريس "إن هذا الاحتفال الذي تقوم به عائلته يرجع إلى سنوات عديدة، حتى أنه فتح عينيه على هذه "العادة" التي لا تسبب الضرر لأي طرف"، مضيفا بأن "أقصى ما يفعلونه هو شُرب بعض أعضاء العائلة وليس جميعهم كؤوسا "خفيفة" من الخمر قصد المرح وتجديد النشاط"، وفق إفادة هذا الشاب. سميرة ، طالبة جامعية في الثامنة عشر من عمرها، تعترف بأنها لا تبيت خارج البيت ولا يمكنها ذلك طيلة السنة إلا إذا كانت موجودة عند أحد أفراد عائلتها، لكنها في ليلة رأس العام "تنقلب" هذه المعايير الأسرية ليُسمَح لها من طرف والديها وإخوتها بالمبيت مع صديقاتها في بيت إحداهن للاحتفال الذي لا يخرج عن الرقص والمرح ومشاهدة سهرة التلفزة بهذه المناسبة. ولم تُخْف هذه الطالبة، في تصريحاتها لهسبريس، بأنه "خلال هذا الاحتفال الخاص يقع أحيانا أن يحضر زملاؤها في الدراسة ليصبح الحفل مختلطا"، مشيرة إلى "أنه لابد من حدوث تجاوزات لا يمكن توقعها أبدا من قبيل إصرار بعضهم على شرب الخمر أو تدخين شيء من المخدرات، أو محاولة التغزل بالفتيات الحاضرات"، قبل أن تردف بأنها "تحاول جاهدة أن لا تتورط في مثل هذه المشاكل التي لا يمكن فصلها عن طقوس الاحتفال" وفق تعبير الطالبة. ومن جانبه أفاد أحمد الرواسي، الذي يعمل مختصا في التخدير بقسم المستعجلات الطبية، بأنه "خلال ليلة رأس السنة يتم استنفار الأطقم الطبية والتمريضية في جميع مصالح المستعجلات بالمستشفيات والمصحات والمراكز العلاجية، وذلك بسبب كثرة توافد حالات المصابين من جرحى ومعطوبين خلال ليلة رأس السنة، نتيجة حوادث السير جراء الإفراط في شرب الخمر، أو نتيجة نزاعات يتخللها العنف الجسدي من ضرب وجرح وغيرهما من الحوادث". واستطرد المتحدث، في تصريحات لهسبريس، بأن عددا من المغاربة يحتفلون برأس السنة الميلادية، لكنهم لا يأخذون بعين الاعتبار ما يسببونه للعاملين في المستشفيات من "صداع" حقيقي للرأس ومهام استثنائية لا ضرورة لها لو تحكم كل شخص في مشاعره وسلوكاته في هذه الليلة، لأنها في نهاية المطاف مجرد ليلة تحل وترحل سريعا مثل سابقاتها"، يقول أحمد. استلاب ثقافي الباحث التربوي محمد الصدوقي أدلى برأيه، في حديث مع هسبريس، بخصوص ظاهرة الزيغ" وانقلاب الموازين لدى بعض المغاربة في ليلة رأس السنة، حيث انطلق أولا من الحديث عن السياق التاريخي لمثل هذه الاحتفالات، باعتبار أن المغرب خضع للاستعمار الفرنسي ذي الديانة المسيحية، سواء الاستعمار المباشر أو غير المباشر، ومنه الاستعمار الثقافي والقيمي الذي تغلغل وخلخل أسس المجتمع الثقافية الإسلامية عبر عدة وسائل واستراتيجيات تعليمية وإعلامية، وثقافية، وتبشيرية واحتفالية، وتكوين نخبة مغربية مفرنسة.. ومن هنا، يضيف الصدوقي، "تم تطبيع جزء من المجتمع المغربي مع الثقافة الفرنسية المسيحية، وخاصة في بعدها الاحتفالي، فأصبح طبيعيا أن يتم الاحتفال برأس السنة من طرف النخبة المفرنسة أولا، ثم أصبحنا نرى الاحتفال الرسمي الإعلامي به في القنوات التلفزية"، مشيرا إلى أنه "بحكم تأثير الإعلام وعدوى التباهي الاجتماعي والتشبه بالأرستقراطيات المفرنسة والفرنسية، أضحى الكثير من المغاربة، أغنياؤهم وفقراؤهم، يهرولون للاحتفال برأس السنة الميلادية". وتابع الباحث: "وإذا كان هذا الاحتفال لا يهم عند أغلب المحتفلين من حيث بعده الديني، فإن الأمر يقتصر على البعد الاحتفالي الذي يُختزل في الكعكة والخمور والرقص والغناء والليالي الحمراء، بل أصبح الاحتفال به من طرف بعض الأسر ضرورة سنوية، وقد ينجم عنه أحيانا خسائر أسرية من طلاق ونزاعات، فهو بالتالي أضحى مناسبة لدى البعض من أجل تكريس الاستلاب الثقافي والمباهاة الاجتماعية". واستطرد الصدوقي بأنه "إذا كان احتفال رأس السنة له دلالات رمزية وقيمية ودينية وطقوسية عند العالم المسيحي، فإن جل المغاربة المحتفلين به لا تهمهم هذه الدلالات والأبعاد الحضارية والتاريخية والدينية"، موضحا بأنه "فقط بحكم الاستلاب وتقليد الغرب المتحضر والتباهي الاجتماعي، فإن المغاربة يريدون أن ينعموا بلحظات من وهم التحضر والتحرر". فوضى: ملامح ومسببات واعتبر الباحث بأنه "باسم شرعية الاحتفال يتجاوز عدد من المغاربة كل الطابوهات والضوابط الاجتماعية التي تعتبر تقليدية ومتخلفة في نظرهم"، مشيرا إلى "أن احتفالات رأس السنة تظل لدى المغاربة المحتفلين مجرد احتفال لذوي ونفسي، وتمرد عند البعض وأسري لدى البعض الآخر" يورد المحلل التربوي والنفسي. "المتخلف يبقى دائما متخلفا حتى في احتفاله بأعياد الآخرين المتشبه، حيث نجد التصاعد الإحصائي لحالات الجرائم والمخالفات والجنح الناتجة عن الاغتصاب والمشاجرات والاعتداءات وحوادث السير والسرقات والازدحام والتهافت على الداعرات، والإقبال على النوادي الليلية" يسرد الصدوقي ما يحدث في ليلة رأس السنة، قبل أن يردف بأنه "بسبب التعاطي المفرط والمبالغ فيه للمخدرات والخمر تصبح هذه الليلة ليلة فوضى وانفلات و"سيبة". وعزا الصدوقي ما يمكن تسميته "الزيغة" عند بعض المغاربة المحتفلين بليلة رأس السنة، وانتهاكهم لكل الضوابط الاجتماعية والقانونية، إلى ما سماه خطورة الشخصية الفصامية والمستلبة لدى هؤلاء، والناتجة عن تصادم وتناقض المرجعيات الثقافية والقيمية؛ مرجعية غربية مسيحية حداثية متحررة في مواجهة مرجعية مغربية إسلامية تقليدية محافظة؛ والتي يخضع لها المغاربة عبر وسائل ومؤسسات التنشئة الاجتماعية. وأرجع الباحث أيضا أسباب "الانقلاب السلوكي" لدى بعض المغاربة في ليلة رأس السنة الميلادية إلى ما اعتبره "التناقضات الطبقية الصارخة بين نخبة مُغربة غنية، وأغلبية فقيرة مستلبة وعدوانية نتيجة أوضاع الحرمان والجهل والتضبيع الثقافي والعقلي"، لافتا إلى أنه "من التداعيات السلبية لمثل هذا الوضع تبخيس الذات وكل ما هو مغربي، وتكريس عقدة الآخر الغرب المتحضر والمتفوق الذي يجب تقديسه والتشبه به وتقليده في كل شيء، حتى في احتفالاتهم الدينية" يقول الباحث. وخلص الصدوقي إلى التساؤل: "هل يمكن اعتبار المغاربة المحتفلين برأس السنة الميلادية "بوعي" أكثر تحضرا من الغرب المسيحي، حيث إنهم يشاركون هذا الغرب احتفالهم الديني، وهم لا يشاركون المنتسبين للحضارة الإسلامية ولا يحتفلون معهم بأية مناسبة دينية إسلامية خاصة فاتح السنة الهجرية، أم أن الأمر مجرد استلاب ليس إلا؟" يختم الصدوقي حديثه لجريدة هسبريس الإلكترونية.