خرج طه عبد الرحمن مؤخرا من مستشفى ابن سينا بالرباط (جناح أمراض القلب) بعد تعرضه لجلطة في القلب، تطلبت علاجا معقدا، ولا زال تحت العناية، مع آلام المرض، ويوجد في حالة شبه مستقرة. طه عبد الرحمن، هو مؤلف العديد من الأعمال المرجعية في الفلسفة والمنطق والأخلاق، نذكر منها "تجديد المنهج في تقويم التراث" و"العمل الديني وتجديد العقل"، و"اللسان والميزان أو التكوثر العقلي"، "سؤال الأخلاق" و"روح الحداثة" و"فقه الفلسفة" (في جزئيه الأول والثاني)، و"الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" و"الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري" و"روح الدين"، و"سؤال العمل".. واللائحة تطول لأنها تضم كتاب "حوارات من أجل المستقبل"، وكتاب آخر سيصدر بعد أسابيع، وربما أيام، ويحمل عنوان: "الحوار أفقا للفكر"، ولذلك يوصف من طرف البعض بأنه فيلسوف مُجدد. طه عبد الرحمن، ليس نجما من "نجوم" الساحة، في الفن والرياضة والسياسة، فالرجل لا ينتمي إلى أي حزب سياسي أو فكرانية (إيديولوجية)، يسارية أو إسلامية حركية، ولذلك، كان التجاهل مصير وعكته الصحية (غير المنتهية حتى حدود اللحظة..)، وبالنتيجة، "لا يستحق كثير أو قليل اهتمام" مادامت هذه الفكرانيات تُقيم الدنيا حول زعامة سياسية، وما دمنا نعتبر أن الزعامة/ الريادة لا تخرج عن الحقل السياسي دون سواه، ولا علاقة لها البتة بحقول مغايرة، وفي مقدمتها الحقل الفكري. أهل الفكرانيات يُطبلون لأتباع هذه الفكرانيات: شعار المرحلة واللعبة، منذ القدم حتى الأزل، والمفارقة، أنهم يزعمون تمرير مشاريع تنتصر للمجتمع والأمة والكون وهم منخرطون من حيث يعلمون أو لا يعلمون في صراعات فكرانية تخدم مشاريعهم أولا وأخيرا. 1 في قصاصة ثقافية عابرة، نقرأ متابعة لما جاء في محاضرة قلم مغربي علماني الفكرانية (ألقاها في المعرض الدولي للكتاب ببيروت)، حول موضوع سبق أن تطرق له مرارا، ولا ضير من أن يتطرق مرة أخرى، ولا كلمة عن معاناة طه مع المرض، هنا في الرباط، وليس في بيروت. 2 في المستجد الإسلامي الحركي، نطلع على دعاية حول إعلان قيادي إسلامي الفكرانية، بخصوص إطلاق مركز بحثي يعنى بالمقاصد، من باب الانخراط في الدفاع عن مشروع إخوان الساحة وتسوية حسابات عقدية ومذهبية وسياسية، مع فقهاء الساحة قبل أقلام الساحة من التيار الفكراني المخالف.. كان على طه عبد الرحمن، أن يكون أحد أتباع زعماء الساحة، في هذا الحزب الحكومي أو المعارض، أو أن يكون عضوا في حركة إسلامية تقيم دنيا الصراعات ولا تقعدها، حتى يحظى بمتابعة إعلامية في المستوى، على غرار المتابعات الإعلامية التي يحظى بها قادة وقواعد هؤلاء. رفض طه عبد الرحمن هذه الانتماءات، مقابل رهانه على الفكر والمعرفة ومحاربة الجهل والتجهيل وتنوير العامة والخاصة وخدمة الإنسان والبشرية، والانتصار لفطرة الإنسان. الرجل لا يطمح لأي يكون برلمانيا أو وزيرا أو أمينا عاما لمؤسسة سامية أو حكومية أو جمعوية، وحتى مؤسسة "منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين"، تركها بمقتضى "ترك الجمل بما حمل"، من أجل التفرغ لأعماله الفكرية. طه عبد الرحمن أيضا، لم يؤسس تنظيما بزعامات ومريدين وأتباع ومخططات ومشاريع، ليس فقط لأنه لا يفقه كثير في مقتضيات تأسيس هذه المشاريع في معرض تنزيل مقتضيات "الإصلاح" الحضاري (وليس الفكراني)، وإنما إيمانا منه أن خدمته للغير، تقوم على التفرغ لتحرير وتأليف ما صدر عنه من أعمال وما سيأتي من مؤلفات، بحول الله. لا يُزايد طه عبد الرحمن على السلطة أو على دين المغاربة (والمسلمين)، ولا ينافس الفكرانيات على الظفر بمكاسب دينية ورمزية. ولأننا نعيش في زمن "الربيع العربي"، أو "ربيعهم العربي"، فقد كان طه عبد الرحمن واضحا في معرض التعامل مع مشاريع تغيير الواقع السياسي هنا أو هناك، كما نقرأ في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان "روح الدين: من ضَيق العَلْمانية إلى سَعَة الائتمانية" (2012)، والذي حرّرَ أهم مضامينه قبل اندلاع هذه الأحداث، معبرا عن تبنيه لخيار "المقاومة بالوجدان"، ومنتقدا خيار الانقلابيين أو الثوريين (من أصحاب "المقاومة بالسلطان")، أو خيار المنخرطين في اللعبة السياسية (من أصحاب "المقاومة بالبرهان"، وهذه مصطلحات طاهائية بامتياز)، معتبرا أن العمل الإزعاجي الذي يتبناه، لا يسعى إلى تغيير الحاكم (كما يروم أهل "المقاومة بالسلطان"، أو "المقاومة بالبرهان")، وإنما تغيير الإنسان فيه؛ وشتان بين التغييرين، إذ تغييرُ الحاكم لا يضمن إزالة الظلم (وسبحان الله، هذا ما يتم حاليا في تونس ومصر، وبشهادة أهل الدار أنفسهم)، فلا يبعد، يضيف طه، أن يأتي الحاكم الثاني الذي حلَّ محله من الظلم مِثل ظلمه أو أسوأ منه؛ أما تغيير الإنسان في الحاكم، فإنه لا بد أن يُخرجه من ظلمه إلى عدله؛ وعليه، فهذا التغيير أنجع من تغيير الحاكم ولو أنه يستغرق من الوقت أكثر مما يستغرقه الانقلاب.. هذا هو طه عبد الرحمن. الحياة اختيار ومواقف.. وضرائب، ومن الضرائب المصاحبة لأعمال طه عبد الرحمن، أنها تُساهم في تكريس الحصار القائم على أعمال الرجل هنا في المغرب، مع بعض الاستثناءات المشرفة، مقابل الانفتاح الجلي على أعماله من طرف العديد من الأقلام في المشرق، وبشكل مثير للغاية، وخاصة في العربية السعودية، ومرد ذلك، كونه ينتصر للنزعة النقدية الصارمة، ويرفض الارتهان أو التطبيل لتيار مُعين أو مؤسسة محددة، وأن يتبنى طه عبد الرحمن نقد أعلام الفكر في العالم بأسره، والانخراط العلمي الرصين في معارك "الاشتباك المعرفي" مع هذه الأعلام، فمن باب أولى أن تعلو اجتهاداته على مقاربات هذه التيارات والهيئات والطرق والحركات التي تنتصر لمشاريعها الفكرانية.. مشاريع تختزل الإنسان والوطن والأمة والكون. هنيئا لهم بتلك الاختيارات والمواقف وهنيئا لطه عبد الرحمن بهذه الضرائب، ألم يحذرنا الحديث/ الأثر النبوي من أن "المؤمن مُصاب"، فكيف يكون الأمر مع مؤمن لا يريد الخير فقط للمسلمين أجمعين، وإنما يريده للإنسانية جمعاء!