السجال المحتدم بالبرلمان، والتلاسن القوي الذي يفضي أحيانا إلى انفلاتات غير محسوبة العواقب، وزلات اللسان التي أصبحت بالعشرات، والتلويح بالأيدي، وتوتر ملامح الوجوه، إضافة إلى تصريحات بعض القياديين الحزبيين في الصحافة، كلّ هذه الأمور لم تعُد تشعر المواطنين بالطمأنينة، كما أنها لا توحي لهم بحيوية الحياة السياسية أو بدينامية المؤسّسات، بقدر ما أصبحت تتجه نحو مواجهات تضيق دائرتها يوما عن يوم، لا لشيء إلا لأنها حولت العمل البرلماني ووظيفة المعارضة السياسية إلى مهاجمة الحزب الذي يقود الحكومة، وتصفية الحساب مع رئيس الحزب المذكور ورئيس الحكومة، في الوقت الذي ينبغي التعامل فيه مع السياسة الحكومية على أنها برنامج جميع الأحزاب المشاركة في التجربة الحالية لإدارة الشأن العام. يعتقد الكثير من السياسيين الذين يمارسون عملهم داخل الهيآت المنتخبة بأن التركيز على حزب رئيس الحكومة والتصدّي له لوحده وتعميق الصراع معه دون سواه، سيؤدي إلى إضعاف هذا الحزب وتقليص كتلته الناخبة وجعله يتراجع في رصيده السياسي، والحال أن ما يقومون به يشكل أكبر دعم لهذا الحزب وتجديدا مستمرا ل"شرعيته" المتآكلة منذ خطواته الأولى في العمل الحكومي، فكل ما فقد "البيجيدي" نقطة إلا وسارع معارضوه إلى تعويضها له بهجومهم عليه، وهو ما يكون له عند العامة وقع آخر غير ما يعتقده المعارضون، حيث لا يرى بعض المواطنين في الصراع مع الحزب الإسلامي داخل المؤسسات والأوساط السياسية إلا مناورات "أعداء التغيير" و"جيوب المقاومة" و"الفلول" وهلم جرا من النعوت المعروفة، والنتيجة أن الحزب الأغلبي رغم فشله في تدبير العديد من الملفات التي بين يديه حتى الآن، يستمرّ البعض في مناصرته من باب أنه "محاصَر" و"مستهدَف" بمؤامرة مخزنية، بينما هو والمخزن شيء واحد. إنها لعبة يتقنها الإسلاميون إلى حدّ الساعة، لكن دوام الحال من المحال، فعندما حاول محمد مرسي الرئيس الإخواني تنصيب نفسه فرعونا لمصر، في زمن غير زمن الفراعنة، هاج الشارع وماج، وأصبحت شرعيته الآتية من صناديق الاقتراع على المحكّ، فسارع إلى إعلان أنّ معارضيه إنما يمثلون "الفلول" و"أعداء الثورة"، بينما كان معارضوه هم أنفسهم من قاموا بالثورة، والذين ركب الرئيس وجماعته على ثورتهم لتوجيه مصر في اتجاه الطائفية عوض دولة المواطنة، لكن زعم الرئيس لم ينطل على الناس، وحتى إذا ما تمكن من إحراز أغلبية في الاستفتاء على دستور الإخوان والسلفيين، فسيكون من الصعب تهدئة الأوضاع، لأن الذين قاموا بالثورة لا يمكن لهم انتظار أربعين سنة أخرى للوصول إلى الديمقراطية الحق. لقد أظهرت التجارب السابقة بأن شنّ الحملات من طرف السياسيين على الحزب الإسلامي أو محاولة تحجيمه كما حدث في منع لقاء شبيبته بطنجة، يؤدي إلى نتائج عكسية، وأن السبيل الوحيد لكي يتحقق الناس من فشل الإسلاميين في تدبير المرحلة، هو تركهم يرتكبون أكبر عدد من الأخطاء، تركهم في مواجهة الشارع والقوى المعارضة والمجتمع المدني والمثقفين والفنانين، وممارسة "معارضة للحكومة" داخل المؤسسات بطريقة عقلانية لا تجعل الحزب الذي يشكل خطرا على الديمقراطية، يتواجد باستمرار في موقع الضحية. حينما يصبح الاجتهادُ السياسيُّ مُقَدّسًا!! بقلم: عبد العالي مجذوب بعد تردّد طويل، أرجعُ اليومَ إلى الكتابةِ والتعبير عن آرائي مباشرة، لأني رأيت أن التعبيرَ والتصريحَ والحوارَ من خلال بعض وسائل الإعلام لا يقرؤه الناسُ دائما من جميع جوانبه على الوجه المطلوب، بل هناك من الناس، وبدافع نفسي خاص، من يُصرّ على ألاّ ينظرَ إلى الأمر إلا بعين السوء، التي من طبيعتها الأزلية أنها لا ترى إلا المساوئ. أرجع اليومَ، في هذه المقالة، وفي مقالات أخرى، إن شاء الله، لأعبّر عن رأيي بلا واسطة ولا حجابٍ قد يتسبب في تضبيب الرؤية عند بعض الناس، وقد يحمل آخرين إلى الذهاب بعيدا في سوءِ الظن وفساد التأويل. فهذا رأيي مكتوبا يقرؤه الناسُ في عباراته الأصليّة واضحا جليا، يقبلونه أو يرفضونه، يؤيدونه أو يعارضونه، يتعاطفون معه أو ينفرون منه، يُزكّونه أو ينتقدونه؛ لا يهم. المهم هو أن أحس بأني حرّ في إبداء رأيي وإن تضايق منه بعض الناس، وتمنوا أن يظل رأيا مدفونا إلى الأبد. جوهر القضية إن جوهرَ قضيّتي مع إخواني في جماعة العدل والإحسان أني تجرأت ذاتَ يوم، فانتقدت اختيارا كنت أراه اجتهادا سياسيا، مثلُه مثلُ سائر الآراء البشرية الظنية، فاكتشفت أن غيري كان يعدّ هذا الاختيارَ وكأنه أصل من الأصول الدينية المقدسة، التي يجب في حقها الخضوعُ والتسليم وحَنْيُ الرأس. اكتشفتُ أن ما كنت أنظر إليه على أنه اجتهادٌ مؤقت إلى حين، واختيارٌ مظروف بظروف، وتوجّهٌ ألجأت إليه الضرورةُ وواقعُ الحال، هو في اعتقاد بعض إخواني من الأصول الثابتة التي لا يجوز المساس بها، بل هو، عند بعضهم، من الدين وفق قراءة معيّنة لبعض النصوص القرآنية والحديثية. وبطبيعتي، لم أكن لأستسلم ولا لأسلّم للرأي الآخر ما دمت غير مقتنع به، وما دمت أراه رأيا متهافتا يخالف أبسط قواعد المنطق والسياسة، فضلا عن قواعد الأصول الفقهية ومسالك الرأي والاجتهاد. تناقضُ الخطاباتِ من أجل التبسيط والتقريب، تصوّروا معي، أيها العقلاء الفضلاء، ما يلي: هذا رجلٌ يريد أن ينضمّ إلى جماعة العدل والإحسان، فيسأل عن منهاجها السياسي، بعد أن اطمأن إلى منهاجها التربوي، فيكون الجوابُ الذي يسمعه أن منهاجَ الجماعة السياسي يتمثل في السعي إلى إقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، التي ورد الوعدُ بها في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ويضيف الجوابُ أن الطريقَ إلى هذه الخلافة لا يمر إلا من طريق زوال أنظمةِ العض والجبر، ومنها النظامُ الملكي الحاكمُ في المغرب. والسؤالُ الذي يُمكن أن يطرحه هذا الراغبُ في الانضمام إلى الجماعة، وهو سؤال مشروع ومعقول، هو: هل النصُّ في منهاج الجماعة السياسي على أن من أهداف الجماعةِ القومةَ(الثورة) على النظام الملكي، لإقامة الدولة الإسلامية القطرية، تمهيدا للخلافة الثانية الموعودة- هل هذا النصّ اجتهادٌ سياسي ظنّي، أم هو من الأصول الدينية القطعية؟ في الجواب على مثل هذا السؤال المفتَرض تظهرُ العقدةُ والإشكال في المنهاج السياسي للجماعة، لأنه جواب يمتاز بكثير من الخلط والاضطراب والغموض. في الخطاب الذي تواجه به الجماعةُ الرأيَ العام نقرأ أن الأمر يتعلق باجتهاد سياسي من بين اجتهادات أخرى، لها هي الأخرى نصيبُها من الصحة والمصداقية، ومن بين هذه الاجتهادات الأخرى، على سبيل المثال، الاجتهادُ الذي يأخذ بها الإخوةُ في حركة التوحيد والإصلاح، ومعهم إخوانُهم وجمهورُهم والمتعاطفون معهم في حزب العدالة والتنمية. هذا الخطابُ الرسمي الذي نقرؤه في واجهةِ الجماعةِ سرعان ما يسقط أو يصبح مشكوكا فيه، أو يصبح غيرَ ذي مصداقية، حينما نعلم يقينا أن الجماعة كان قيامُها، أوّلَ ما قامت، على أن القومةَ/الثورة على الحكم الجبري هي من "المنهاج النبوي"، وأن أيّ وافدٍ جديد على الجماعة لا بد أن يعتقد اعتقادا جازما لا لَبْسَ فيه ولا تردّدَ أن مطلبَ زوال النظام الجبري مطلبٌ لا يقبلُ النقاش أو المراجعة، لأنه مطلب يشكل جزءا أساسا من النواة الصلبة التي بها قِوَامُ للجماعة. مَنْ قال هذا؟ ومن قرّره على هذا الوجه من اليقين والقوة والجزم؟ ومن ذا الذي جعل مطلبَ زوال النظام، الذي هو في خطاب الواجهةِ مطلبٌ سياسي اجتهادي بشري نسبي، مطلبا مَسْلُوكا في المعتقدات المقدسة، والحقائق المطلقة التي تقع فوق النقد والمراجعة والتعديل؟ مَنْ فرضَ، داخل الجماعة، ألاّ يُناقش الناسُ هذا الموضوعَ على اعتبار أن القرارَ فيه من المُسلّماتِ التي لا تحتاج إلى نقاش؟ في الحقيقة الذي أعرفُه، ويعرفه جميعُ المهتمين المتتبعين العارفين بشؤون الجماعة -والأمر هنا لا يتعلق بأسرار، وإنما يتعلق بشيء مكتوب ومنشور- أن مطلبَ زوال النظام الملكي لم يكنْ، في أصله، اختيارا صادرا عن تحاور وتشاور في مؤتمر تأسيسي، أو في مجلس جماعي شوري، بل هو مطلبٌ تبلورَ في فكرِ مرشد الجماعة ومؤسّسها، رحمه الله، قبلَ تأسيس الجماعة، ثم ظل يختمر في أثناء قراءاته وتفكّرِه وتدبّره وتجاربه مدّة تقارب، في تقديري، خمسة عشر عاما(1964-1979)، حتى خرج ناضجا، أولا، في كتاب "المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا"، الذي بسط فيه الأستاذ ياسين، رحمه الله، تصورَه واجتهاده في مجالات الدعوة والتربية والسياسة والتنظيم، ثم في غيره من الكتابات، من بعد ذلك، ثانيا. "المنهاج النبوي" كتابٌ ليس كسائر الكُتب "المنهاج النبوي" كتابٌ ليس كسائر الكتب، لأنه ما يزال إلى اليوم يُعدّ بمثابة "القانون الأساسي" لجماعة العدل والإحسان، ومِنْ شأن القوانين الأساسية في كل التنظيمات أن تكون مُلزِمة لجميع أعضاء التنظيم إلزاما يوجب عليهم احترامَها، ومراعاةَ مقتضياتها، والانضباطَ بضوابطها، والسيرَ على هدْيها. وها هنا التباسٌ، قد يصل إلى حدّ التناقض في نظر بعض الناس، يحتاجُ إلى نقاش وتوضيح: فمِنْ جهة، "المنهاج النبوي" كتابٌ يَعرض اجتهادا بشريا للمناقشة والأخذ والردّ، ومِنْ جهة أخرى، يصبح هذا المنهاجُ نفسُه "قانونا" مُلزما!!! لدفع هذا الالتباس، قد يقول قائلٌ إن "المنهاج النبوي"، بما هو فكرٌ واجتهادٌ ونظرٌ، كان دائما، وما يزال، مطروحا على الناس لينقدوه ويقوّموه، ويُغنوه ويطوّروه، ويأخذوا منه ويردّوا. أمّا مَن اختارَ من الناس الانتماءَ إلى جماعة العدل والإحسان، فإنه يصبح، بالضرورة، ملزَما بمبادئها وأهدافها وقوانينها، أي ملزما ب"منهاجها"، الذي هو كتاب "المنهاج النبوي" نفسُه. قد يعترض معترضٌ على هذا التفسير بأن المعروفَ في "القانون الأساسي"، عند الشروع في التأسيس، أن يكون في شأنه نقاشٌ وتداولٌ بين المُؤسسين قبل أن يحصل حوله توافقٌ أو اتفاقٌ أو تراضٍ أو ما شابَه هذا مما يفيد أن "القانون" قد تم إقرارُه بإرادة جماعية يطبعها الرضا وحريةُ الاختيار. أمّا في حالة "العدل والإحسان"، فإن المعروفَ أنه لم يكن هناك تشاورٌ وتداول، ثم اتفاقٌ أو تراض على "قانون أساسي" للجماعة قبل إعلان تأسيسها. سلطان التربية مما تنبغي معرفتُه في هذا الصدد، حتى نَصفَ الأشياءَ كما هي في حقيقتها، أن الجماعةَ، عند تأسيسها، لم تكن على شاكلةِ الأحزاب السياسية، والمنتديات الفكرية، والجمعيات الثقافية، وإنما كانت تتميّز، وما تزال إلى اليوم، بأنها جماعة دعويّة أساسُها وجوهرُها وبوّابتُها التربيةُ ثم التربيةُ ثم التربية. ومن حقّ سائلٍ أن يسأل هنا: وبِمَ تتميز "الجماعة الدعوية" عن غيرها من التنظيمات حتى يجوز تأسيسُها بلا "قانون أساسي" ارتضاه المؤسسون بعد نقاش وتحاور وتشاور، وحتى يجوز خضوعُها ل"منهاج" لم يتشاور فيه واضعُه مع أحدٍ من أصحابِه المُؤسّسين، ولا استمع إلى آرائهم فيهم؟ كان الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، هو النواة الصلبة، التي لولاها لما كان هناك اليوم كيانٌ اسمُه "العدل والإحسان". لقد كان اليَعْسوب الذي حوله كان الاجتماعُ، وبه ارتفع البناء. واليعسُوب في اللغة أميرُ النحل وذكَرُها، ويُطلق على السيد والرئيس والمُقَدَّم. فدعوةُ العدل والإحسان، قبل أن تُصبح واقعا حيّا برجالها ونسائها، وتنظيمها ومواقفها، كانت حيّة في قلب صاحبِها، رحمه الله، وهو في بداياتِ نظرِه في فقهِ التجديد والتربية والتنظيم، وتفكيرِه في مسالك تكوين "جند الله"، والسيرِ بهم لاقتحام العقباتِ صعودا إلى القيامِ لله، والقيامِ على طواغيت العضّ والجبر. كان هذا الخطُّ المنهاجيُّ، في تصور الرجلِ وتفكيرِه، واضحا، على الأقل في معالمِه الكبرى، قبلَ ميلاد الجماعة بسنوات. وقد كان برهانُ صدقِ الرجل الداعيةِ، رحمه الله، يسبقه، ويسير بين يديه. برهانُ صدقٍ على ربّانيته العالية وتقواه، في أقواله وأفعاله، وعلى علمه، فهما وفقها ونظرا وتأليفا، وعلى صلابتِه في قول الحق والإنكارِ على الظالمين، وعلى ذلّتِه على المؤمنين وسلوكِه سبيلَ المُحسنين. هذا هو مؤسسُ دعوة العدل الإحسان، رحمه الله، بشهادةِ مَنْ عرفوه وخالطوه وعاشروه وصحبوه وتتلمذوا له. فأصحابُ الرجل المجتمعون حوله، في بدايات التأسيس، كان يكفيهم ما يرون من سلوك الرجل، وما يسمعون من كلامه، وما يشعّ عليهم من سمْته الإيماني وفضله العلمي، ليصدّقوه ويصحبوه ويطمئنوا إلى أن يكون لهم مربيا ومرشدا. صدقُ الرجل عند أصحابه كان يكفي، ومن ثَمّ لم تكن بالناسِ يومئذ حاجةٌ ليعرفوا أكثر، أو ليسألوا عن التفاصيل فيسيئوا الأدبَ مع رجل لا يشكّون في سلامة طَوِيّته وصدقِ دعوته وشرفِ مقصده ومبتغاه. هكذا مضى الأمرُ في تلقائية وبساطة، وهكذا عُقِد العَقْدُ، وتَوَثّق العهدُ، فكان من هذه الصحبة جماعةٌ تُعتبر الأسرةَ الأولى التي بها كان التأسيس. وهكذا كانت البدايةُ، حتى إذا بدأت الأواصرُ بين المصحوب وأصحابِه تتمكن وتترسخ، جاء "المنهاج النبوي"، ليُنظم التربيةَ، ويَرسم معالمَ الطريق، ويحدد آفاق السير. جاء "المنهاج النبوي"، فاستقبله الأصحابُ بلا نقاش ولا سؤال، لأنه منهاجٌ من وضع المُربّي الذي وثقوا به، وامتدادٌ طبيعيّ لسلطته التربوية التي سلّموا له بها. فلم يلتفِت أحدٌ، في البداية، إلى مناقشة المبادئِ التي ينبني عليها هذا المنهاجُ، والخطط التي يرسمها، والغاياتِ التي يحدّدها. كان يكفي الناسَ أن واضع هذا المنهاجَ هو المصحوب المربّي المرشد. لقد كان مرشدُ الجماعة، رحمه الله، حسب ما هو مسطّر في "المنهاج النبوي"، وحسب الأمر الواقع أيضا، هو "المربي الأول"، و"هو الذي يتخذ القرارات التربوية والتنظيمية"، و"هو الذي يُمضي أو يرفض خطط التربية، وبرامج الدعوة، أو يعدلها". في جملة، وبنص "المنهاج النبوي" دائما، المرشدُ هو "صاحب الأمر والنهي في كل صغيرة وكبيرة". وهذه السلطةُ المطلقةُ بوّأت المرشدَ بين أصحابه مكانةً لم يكونوا يملكون معها، وإن كانوا من دائرة المُقرَّبين، إلا السمع والطاعة في غلاف من المحبة والاحترام يناسبُهما، وجعَلَتْه المقررَ الأولَ في جميع شؤون الجماعة. هذا هو الواقع، أصفُه كما هو، لا أتلجلجُ ولا أتلعثمَ. تتمة الكلام في مقالة جديدة إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين مراكش: 26 دجنبر 2012 طه عبد الرحمن.. أخلاق الحصار وحصار الأخلاق منتصر حمادة خرج طه عبد الرحمن مؤخرا من مستشفى ابن سينا بالرباط (جناح أمراض القلب) بعد تعرضه لجلطة في القلب، تطلبت علاجا معقدا، ولا زال تحت العناية، مع آلام المرض، ويوجد في حالة شبه مستقرة. طه عبد الرحمن، هو مؤلف العديد من الأعمال المرجعية في الفلسفة والمنطق والأخلاق، نذكر منها "تجديد المنهج في تقويم التراث" و"العمل الديني وتجديد العقل"، و"اللسان والميزان أو التكوثر العقلي"، "سؤال الأخلاق" و"روح الحداثة" و"فقه الفلسفة" (في جزئيه الأول والثاني)، و"الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" و"الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري" و"روح الدين"، و"سؤال العمل".. واللائحة تطول لأنها تضم كتاب "حوارات من أجل المستقبل"، وكتاب آخر سيصدر بعد أسابيع، وربما أيام، ويحمل عنوان: "الحوار أفقا للفكر"، ولذلك يوصف من طرف البعض بأنه فيلسوف مُجدد. طه عبد الرحمن، ليس نجما من "نجوم" الساحة، في الفن والرياضة والسياسة، فالرجل لا ينتمي إلى أي حزب سياسي أو فكرانية (إيديولوجية)، يسارية أو إسلامية حركية، ولذلك، كان التجاهل مصير وعكته الصحية (غير المنتهية حتى حدود اللحظة..)، وبالنتيجة، "لا يستحق كثير أو قليل اهتمام" مادامت هذه الفكرانيات تُقيم الدنيا حول زعامة سياسية، وما دمنا نعتبر أن الزعامة/ الريادة لا تخرج عن الحقل السياسي دون سواه، ولا علاقة لها البتة بحقول مغايرة، وفي مقدمتها الحقل الفكري. أهل الفكرانيات يُطبلون لأتباع هذه الفكرانيات: شعار المرحلة واللعبة، منذ القدم حتى الأزل، والمفارقة، أنهم يزعمون تمرير مشاريع تنتصر للمجتمع والأمة والكون وهم منخرطون من حيث يعلمون أو لا يعلمون في صراعات فكرانية تخدم مشاريعهم أولا وأخيرا. 1 في قصاصة ثقافية عابرة، نقرأ متابعة لما جاء في محاضرة قلم مغربي علماني الفكرانية (ألقاها في المعرض الدولي للكتاب ببيروت)، حول موضوع سبق أن تطرق له مرارا، ولا ضير من أن يتطرق مرة أخرى، ولا كلمة عن معاناة طه مع المرض، هنا في الرباط، وليس في بيروت. 2 في المستجد الإسلامي الحركي، نطلع على دعاية حول إعلان قيادي إسلامي الفكرانية، بخصوص إطلاق مركز بحثي يعنى بالمقاصد، من باب الانخراط في الدفاع عن مشروع إخوان الساحة وتسوية حسابات عقدية ومذهبية وسياسية، مع فقهاء الساحة قبل أقلام الساحة من التيار الفكراني المخالف.. كان على طه عبد الرحمن، أن يكون أحد أتباع زعماء الساحة، في هذا الحزب الحكومي أو المعارض، أو أن يكون عضوا في حركة إسلامية تقيم دنيا الصراعات ولا تقعدها، حتى يحظى بمتابعة إعلامية في المستوى، على غرار المتابعات الإعلامية التي يحظى بها قادة وقواعد هؤلاء. رفض طه عبد الرحمن هذه الانتماءات، مقابل رهانه على الفكر والمعرفة ومحاربة الجهل والتجهيل وتنوير العامة والخاصة وخدمة الإنسان والبشرية، والانتصار لفطرة الإنسان. الرجل لا يطمح لأي يكون برلمانيا أو وزيرا أو أمينا عاما لمؤسسة سامية أو حكومية أو جمعوية، وحتى مؤسسة "منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين"، تركها بمقتضى "ترك الجمل بما حمل"، من أجل التفرغ لأعماله الفكرية. طه عبد الرحمن أيضا، لم يؤسس تنظيما بزعامات ومريدين وأتباع ومخططات ومشاريع، ليس فقط لأنه لا يفقه كثير في مقتضيات تأسيس هذه المشاريع في معرض تنزيل مقتضيات "الإصلاح" الحضاري (وليس الفكراني)، وإنما إيمانا منه أن خدمته للغير، تقوم على التفرغ لتحرير وتأليف ما صدر عنه من أعمال وما سيأتي من مؤلفات، بحول الله. لا يُزايد طه عبد الرحمن على السلطة أو على دين المغاربة (والمسلمين)، ولا ينافس الفكرانيات على الظفر بمكاسب دينية ورمزية. ولأننا نعيش في زمن "الربيع العربي"، أو "ربيعهم العربي"، فقد كان طه عبد الرحمن واضحا في معرض التعامل مع مشاريع تغيير الواقع السياسي هنا أو هناك، كما نقرأ في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان "روح الدين: من ضَيق العَلْمانية إلى سَعَة الائتمانية" (2012)، والذي حرّرَ أهم مضامينه قبل اندلاع هذه الأحداث، معبرا عن تبنيه لخيار "المقاومة بالوجدان"، ومنتقدا خيار الانقلابيين أو الثوريين (من أصحاب "المقاومة بالسلطان")، أو خيار المنخرطين في اللعبة السياسية (من أصحاب "المقاومة بالبرهان"، وهذه مصطلحات طاهائية بامتياز)، معتبرا أن العمل الإزعاجي الذي يتبناه، لا يسعى إلى تغيير الحاكم (كما يروم أهل "المقاومة بالسلطان"، أو "المقاومة بالبرهان")، وإنما تغيير الإنسان فيه؛ وشتان بين التغييرين، إذ تغييرُ الحاكم لا يضمن إزالة الظلم (وسبحان الله، هذا ما يتم حاليا في تونس ومصر، وبشهادة أهل الدار أنفسهم)، فلا يبعد، يضيف طه، أن يأتي الحاكم الثاني الذي حلَّ محله من الظلم مِثل ظلمه أو أسوأ منه؛ أما تغيير الإنسان في الحاكم، فإنه لا بد أن يُخرجه من ظلمه إلى عدله؛ وعليه، فهذا التغيير أنجع من تغيير الحاكم ولو أنه يستغرق من الوقت أكثر مما يستغرقه الانقلاب.. هذا هو طه عبد الرحمن. الحياة اختيار ومواقف.. وضرائب، ومن الضرائب المصاحبة لأعمال طه عبد الرحمن، أنها تُساهم في تكريس الحصار القائم على أعمال الرجل هنا في المغرب، مع بعض الاستثناءات المشرفة، مقابل الانفتاح الجلي على أعماله من طرف العديد من الأقلام في المشرق، وبشكل مثير للغاية، وخاصة في العربية السعودية، ومرد ذلك، كونه ينتصر للنزعة النقدية الصارمة، ويرفض الارتهان أو التطبيل لتيار مُعين أو مؤسسة محددة، وأن يتبنى طه عبد الرحمن نقد أعلام الفكر في العالم بأسره، والانخراط العلمي الرصين في معارك "الاشتباك المعرفي" مع هذه الأعلام، فمن باب أولى أن تعلو اجتهاداته على مقاربات هذه التيارات والهيئات والطرق والحركات التي تنتصر لمشاريعها الفكرانية.. مشاريع تختزل الإنسان والوطن والأمة والكون. هنيئا لهم بتلك الاختيارات والمواقف وهنيئا لطه عبد الرحمن بهذه الضرائب، ألم يحذرنا الحديث/ الأثر النبوي من أن "المؤمن مُصاب"، فكيف يكون الأمر مع مؤمن لا يريد الخير فقط للمسلمين أجمعين، وإنما يريده للإنسانية جمعاء! لماذا القلق بشأن حرية الصحافة بالمغرب؟ ياسر المختوم نظم المركز المغربي لحقوق الإنسان، أول أمس الخميس بفندق كولدن توليب بالرباط، ندوة وطنية حول موضوع حرية الصحافة بالمغرب، استدعيت للمشاركة فيها باعتباري صحفي بجريدة "التجديد"، فوجدت نفسي، كما قلت مستهلا مداخلتي خلال الندوة، أمام أساتذة لي تتلمذت على أيديهم بالأمس القريب، حيث أخذ الكلمة في البداية الأستاذ مصطفى الخلفي، وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة، ليتحدث بعده الأساتذة الأجلاء عبد العزيز النويضي وعبد الوهاب الرامي وعبد الرحيم منار السليمي وعلي كريمي وعبد العزيز كوكاس وكذا نور الدين الأشهب، ممثلا عن موقع هسبريس، لكن الذي شفع لي في ذلك المقام، هو أنني صحفي شاب، سقف مطالبه ربما مرتفع بخصوص حرية الصحافة، أتى ليبسط أمام أساتذته بعض مظاهر القلق حول حرية الصحافة بالمغرب، حيث يستمر الجدل حول حرية الصحافة بالمغرب خلال سنة 2012، فكانت هذه بعض مصادر القلق التي رصدتها خلال السنة التي نودعها الآن: • قمع الصحفيين: يعتبر الاستمرار في قمع الصحفيين، والتنامي الحاصل خلال الشهور الأخيرة لهذه الظاهرة، وصمة عار على جبين هذا الوطن، وفي ظل حكومة جاءت في ظروف غير عادية كما يقول رئيسها، وفي ظل تحولات سياسية كبرى يشهدها المغرب، نحن اليوم ولأول مرة، أمام حكومة سياسية عكست الإرادة الشعبية للناخبين، التزمت في برنامجها الحكومي بضمان حرية الرأي والتعبير والحق في الولوج إلى المعلومة وممارسة هذه الحرية في نطاق الالتزام بالمسؤولية والاحترام اللازم للقانون، وفي ظل دستور فاتح يوليوز 2011، الذي نص في الفصل 28 على أن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية. يكفي أن أذكر في هذا الصدد، ما تعرضت له شخصيا خلال هذه السنة، أمام المجلس الوطني لحقوق الإنسان، قبالة مقر جريدة "التجديد"، حيث أشتغل، إذ وأنا بصدد أخذ صور لتدخل أمني قبيل منتصف ليلة الخامس من شهر يوليوز لهذه السنة، لتفكيك اعتصام ليلي لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، تعرضت للتعنيف والإهانة وتمت مصادرة بطاقتي المهنية وآلة التصوير، أعيدتا إلي صبيحة اليوم الموالي، وقد مسحت ذاكرة آلة التصوير مسحا تاما، كما خاطبني مسؤول أمني قائلا، "بطاقتك لا قيمة لها"، ولما سألته عن اسمه، أجابني مستهزئا، "معك بوعوو"، هذا فقط غيظ من فيض، وإلا تتعدد مشاهد قمع الصحفيين وإهانتهم خلال هذه السنة، من مختلف المنابر الصحفية، ناهيكم عن منع الصحفيين من تغطية عدد من اللقاءات في فضاءات عمومية لأسباب واهية. • الإفلات من العقاب: الشعور الذي ينتابني شخصيا، وبالتأكيد ينتاب الكثير من الصحفيين، هو أننا نحن معشر الصحفيين حائط قصير، باستطاعة أي مسؤول أن يتخطاه، ولا من يحمينا من بطش وقمع المخالفين للقانون، إلى اليوم، هل سمعتم يا سادة أن مسؤولا قمع الصحفيين وأهانهم، تعرض للمسائلة والمحاسبة، وتم رد الاعتبار للصحفي المعتدى عليه، لازلنا ننتظر اليوم الذي نسمع فيه بمحكامة وعقاب أو سجن من تسول له نفسه الشطط في السلطة مهما كان موقعه. وإلى الآن، لم تحرك وزارة العدل والحريات المتابعة في حق مسؤول أمني اعتدى على صحفي آخر بجريدة "التجديد" بالرغم من مراسلة الجريدة لثلاث وزارت وهي العدل والداخلية والاتصال. اليوم نترقب من يؤكد لنا معالم مسار التحول المتحدث عنه بالمغرب، ويغلق الباب أمام أي عقلية قديمة تريد العودة بنا إلى مغرب ما قبل الربيع العربي، تستثمر هذه التجاوزات في مجال حرية الصحافة، للتأكيد على أن لا شيء تغير حتى الآن. • الخدمة العمومية: اليوم أعتقد أن وسائل إعلامنا الرسمية لم تنل بعد شرف الخدمة العمومية، وبالتالي لا مجال للحديث عن وجود إعلام عمومي بالمغرب، فقصور الإعلام الرسمي لازال مستمرا في تقديم مثل هذه الخدمة، وعاجزا عن ملامسة نبض الشارع المغربي، ويدفع المشاهدين المغاربة إلى القيام بعملية هجرة جماعية (لحريك الإعلامي) اتجاه القنوات الأجنبية بالنظر لجودة ووفرة العرض وتنوعه. نتساءل، لماذا لم تحظى مثلا جنازة مرشد جماعة العدل والإحسان بتغطية تليق على الأقل بحجم الجماهير الشعبية التي شيعت الراحل إلى مثواه الأخير، واعتبر البعض أن جنازته كانت ثاني أضخم جنازة بعد جنازة الحسن الثاني رحمه الله. وأيضا نسجل عودة العديد من حملة كتاب الله والمجودين دون الالتفات الإعلامي اللازم لهم (حسناء الخولالي مثلا..)، يكفي هنا أن أقول أن وكالة المغرب العربي للأنباء نشرت خبرا من سطرين فقط حول وفاة الشيخ ياسين، ونقلته عنها القناتين الأولى والثانية. ثم نتساءل، لماذا لم يحظى الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية بالمكانة اللائقة في إعلامنا الوطني، بالرغم من أن المغرب هو من تقدم رفقة السعودية بطلب إلى اليونسكو لإدراج اليوم العالمي للغة العربية ضمن احتفالاتها الرسمية، وواقع اللغة العربية بالمغرب يعتبر غير مريح وشتان بيد الرسمية والتنزيل. الإشاعة والافتراء: أي حدود فاصلة بين الحرية والمسؤولية في الممارسة الصحفية؟ الجسم الصحفي اليوم يعاني من اختلالات مهنية ترتبط أساسا بتدهور مهني متزايد، من استسهال للتعامل مع الأخبار وامتهان الإشاعات المفبركة أحيانا، دون الأخذ بعين الاعتبار الاحتياطات اللازمة بخصوص دقة المصادر المعتمدة، وصحة المعطيات المدلى بها، ويحتمي الجسم الصحفي أحيانا بشعارات حرية الصحافة دون الانتباه للحاجة إلى تأهيل مهني وأخلاقي ذاتي. يجب الإقرار بالضعف الملحوظ في الجهد المبذول على مستوى الجسم الصحفي للقيام بالدور الحقيقي المنوط به، وذلك في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون اللجوء إلى القضاء مسطرة عادية لضمان إنصاف جميع الأطراف المتخاصمة. • الحق في المعلومة: في غياب قانون النفاذ إلى المعلومة، نسجل التكتم الشديد والتدليس في إعطاء المعلومة من طرف المؤسسات العمومية الرسمية، بل يصل الأمر أحيانا إلى وضع عراقيل أمام الصحفي تحول دون وصوله إلى المعلومة، فمثلا راسلنا إحدى القنوات الوطنية أكثر من مرة، للحصول على معلومة تهم تكلفة الإنتاج الدرامي في رمضان الماضي، ولحد الآن لم نتوصل بأي جواب، وإن تحدثنا عن التضييق، فحدث ولا حرج، آخر فصوله كما رصدناها ما تعرض له سائق عربة نقل صحفيا بجريدة "التجديد" قبل أيام إلى دواوير بجماعة واد إفران وسط جبال الأطلس، فبدل تمكين السلطات المحلي، الصحفي من المعلومة ومن وسائل النقل للوصول إلى بعض الدواوير المنكوبة بالمنطقة، قائم قائد بتوبيخ سائق عربة نقل الأشخاص والدواب، واستدعاه هاتفيا مما اضطره للتنقل حوالي 160 كلمتر للحضور إلى مكتب القائد، وتلقى العتاب واللوم على نقله للصحافي، بعد استفساره بأسلوب شديد اللهجة حول هوية الصحفي وموضوع زيارته للمنطقة. • الحق النقابي: أحد أهم الإشكالات، التي تعوق دون تطور حرية الصحافة والإعلام، تتمثل في الحكامة الداخلية للمؤسسات، حيث أن جلها لا تحترم الحق النقابي، ليس على مستوى الخطاب، لكن على مستوى الممارسة العملية، وقضية الصحفية بالقناة الأولى، حورية بوطيب ليست عنا ببعيدة. • الطرد التعسفي: بعدما ارتبط مسلسل الطرد من العمل بالوحدات الإنتاجية، اليوم نتحدث ونحن في سنة 2012، عن استمرار ظاهرة طرد الصحفيين من العمل بالمقاولات الصحفية، حيث أقدمت ثلاث مؤسسات إعلامية على الأقل، على طرد جماعي للصحفيين، منهم من طالب بحقوقهم المشروعة، وبمأسسة العلاقات الداخلية بين الإدارة والصحافيين، وبدل التراجع عن القرار، رفضت إحدى المؤسسات مبدأ الحوار مع النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وأقدمت إذاعة خاصة على طرد 5 صحفيين من قسم الأخبار العربي والفرنسي، منهم صحفية من جنسية فرنسية، وقيل أن الطرد مرتبط بما أسفرت عنه نسبة الاستماع التي أعلن عنها مكتب للدراسات، والتي صنفت الإذاعة الخاصة في مراتب متأخرة. • قوى المال والسلطة: لا أحد يخفى عليه اليوم رغبة وسعي قوى المال والسلطة على بسط نفوذها على إعلامنا الوطني، وأصبح مجالا للاستثمار، ليس فقط لتحقيق أرباح، بل أيضا من أجل بسط الهيمنة السياسية والفكرية وخدمة مصالح لوبيات ضغط ومجموعات اقتصادية، هذه المجموعات اليوم تسيطر على الجزء الأكبر من الإعلانات، وتسعى إلى توجيهها لخدمة أهدافها الظاهرة والخفية. نحن إذا أمام مصدر قلق آخر يهدد حرية الإعلام بالمغرب، لأنه يحول دون قدرة مختلف شرائح المجتمع والتنظيمات السياسية والنقابية والفكرية والثقافية، في الانتشار والوصول إلى الجمهور، في غياب شبه تام لتكافؤ الفرص. وبالتالي نحن أمام تحالفات سياسية ومالية مرتبطة بشكل أو بآخر بالسلطة، تسعى إلى بسط هيمنتها على الصحافة بالمغرب. وتلحظون أن عددا من الجرائد أصبحت بوقا إعلاميا لبعض الشركات أو المؤسسات التي تنشر لها الإعلانات والتقارير الدعائية على شكل مقالات صحافية، ولا يمكن أن تنتقدها أو تكشف اختلالا بها بأي حال من الأحول. • العلب السوداء: أخيرا حدثني الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، الخبري الدولي في اللسانيات، قبل أيام في حوار صحفي عن "سياسة العلب السوداء"، المرتبط بالقرار اللغوي في المغرب، الذي اعتبره "لا يخضع للشروط الديموقراطية ولا للعدالة اللغوية"، وليسمح لي أن أقتبس منه هذا التعبير وأقول، اليوم الدولة المغربية بجميع مكوناتها، مطالبة بأن تتخلى عن سياسة العلب السوداء، من يسمح بقمع الصحفيين؟ من له المصلحة في تراجع حرية الصحافة بالمغرب؟ من يبسط نفوذه على الإعلام الرسمي؟ من يحول دون تطوره والرقي به إلى مستوى الخدمة العمومية، أخشى من أننا لازلنا نعيش اليوم فترة على مستوى تدبير الشأن السياسي، سابقة للزمن السياسي الذي نعيشه اليوم، حيث لم يعد القبول بالعلب السوداء في السياسة المرتبطة بقطاع الإعلام والاتصال، إذ هناك ازدواجية بين ما يصرح به في العلن، وما يطبق في الخفاء. أختم على أمل أن نجني قريبا ثمار الإصلاحات التي أعلن عنها الوزير الشاب مصطفى الخلفي، للحد من الانحدار المتزايد على مستوى انتهاك أخلاقيات مهنة الصحافة، فالمؤشرات مقلقة تقتضي من كل الأطراف المعنية بالقضية، جرأة كبيرة لتقييم الواقع، بعين تستشرف المستقبل، من أجل، أولا، ميثاق مهني يوضح الحدود الفاصلة بين حرية الصحافة وبين مسؤوليتها، وثانيا، لحمل الدولة المغربية بمؤسساتها المتنوعة على حماية حرية الرأي والتعبير والاحترام اللازم للقانون.