يعرف العديد من المفكرين الاستبداد على انه "الانفراد" والاستئثار في اتحاد القرار وتهميش دور الآخرين. والاستبداد هو ظاهرة اجتماعية خطيرة تدعونا الى التأمل في اسباب ظهورها وكيفية تطورها. كل الانتفاضات والثورات عبر التاريخ البشري (الثورة في اوربا في القرن التاسع عشر مثلا) كان مصدرها ومبدؤها سلوكيات "تحكمية" استبدادية واضحة (البروليتاريا ضد البورجوازية المستبدة) . مظاهر الاستبداد وتجلياته كثيرة ومتعددة. فالاستبداد يحاول خلال منشئه السيطرة على دواليب الحكم عبر اقرار عدة قواعد لحماية نفوذه داخل المجتمع. لأجل ذلك فهو يقيم مؤسسات موالية له وأجهزة حماية وقوانين كما حصل مع فرعون رمز اللاستبداد والتحكم حيث حكى القرآن الكريم ذلك (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) فالاستبداد يدفعه الى عدم الأخذ برأيهم وعدم الاكتراث لهم. وقال ايضا (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) وهامان يرمز الى الذراع الايمن للاستبداد وجهاز تنفيذ التحكم وجهاز الاستبداد الاعلامي. كما تتجلى مظاهره في احتقار عقول الناس والانتقاص من ذكائهم واستغفالهم وممارسة الوصاية عليهم (فاستخف قومه فأطاعوه). و في زماننا المعاصر تتجلى اجهزة حماية الاستبداد ورعايته في "النخب" الفاسدة" التي تساوم على المناصب والكراسي مقابل السكوت عن الظلم الاجتماعي والاستبداد والقهر الذي قد تتعرض له الشعوب. وإذا كان للاستبداد أجهزة الحماية يتكئ عليه لضمان استمراريته وتحقيق اهدافه فانه لن يتطور إلا اذا وجد البيئة المناسبة للنمو واستحكام قوته ونفوذه. وأفضل مثال على ذلك ما حصل في "دولنا العربية" التي كانت بيئة مناسبة لاستشراء بذور الاستبداد والفساد مند عقود خلت. وهو ما ادى الى قيام ثورات و "ربيع عربي" ولا يزال بسبب الظلم الاجتماعي والشعور بالحيف وعدم التوازن في توزيع الثروات بين الطبقات الاجتماعية المتعددة. وقد ظهر بجلاء كيف ان المقاربات الاستبدادية في الحكم استعانت في بعض حالاتها بالبلطجية والنخب الفاسدة من اجل تأبيد وجودها في الحكم والتسلط على الناس وإرهابهم بكل الوسائل على الرغم من ان بعضها كانت انظمة جمهورية !! وفي وقت من الاوقات اعتقد الاستبداد انه لن يتزحزح من مكانه لكن سنة الله في الكون (ولن تجد لسنة الله تبديلا) قضت بأن الظلم لن يعمر طويلا وسيأتي فجر الربيع العربي ونسائم الحرية والكرامة لتميط اللثام عن هشاشة الانظمة الاستبدادية وعدم قدرتها على مقاومة رياح التغيير. كما ظهر جليا كيف ان "جهاز الحماية" للاستبداد كان اول من تخلى وتبرأ من بعض "الأنظمة الاستبدادية" ! ومن تجليات الاستبداد زواج المال والسلطة الاستبدادية. وهو زواج الغرض منه تبادل المصالح وحماية كل واحد للآخر وقت الشدة وإحكام القبضة على المجتمع في شقها التشريعي والاقتصادي من اجل حرمان الطبقات الفقيرة من ثروات بلادها وخيراتها وتركها في الحضيض (جوع كلبك يتبعك). واعتقد ان الاستبداد اذا اصبح اسلوب تحكم سائد ينتشر في كل مناحي الحياة ومفاصل الدولة وأركانها يصبح اكبر خطر يهدد الامة في كيانها ومستقبلها. وقد يصبح يوما ما اسلوب حياة يتعارف الناس حوله ويتساكنون به مما يؤدي الى انتشاره في كل مناحي الحياة من الادارة والمدرسة والبيت. تبني الاسرة للأسلوب الاستبدادي و تربية الابناء على ذلك يعد اكبر تهديد للمجتمع برمته وبالتالي تصبح نوة المجتمع بدورها مستبدة ولا تسمح بالرأي والرأي الآخر ! ومن اجل تحقيق اهدافه السلطوية والتحكمية يستعين الاستبداد بالعديد من الوسائل. فهو يعمل بمنطق (فرق تسود) لإضعاف خصومه. وتمثل القوى الغربية في النظام العالمي الحديث النموذج الابرز في ذلك. فهي من اجل الحفاظ على مصالحها تقوم بإضعاف الدول الفقيرة والأمم المستضعفة. كما تقوم بتقسيم الدول واستعمارها لضمان تبعيتها وارتهان قرارها السياسي والاقتصادي ! ومن ابرز وسائل الاستبداد "القوة" او العصا الغليظة قال تعالى واصفا قوة فرعون واستعانته بها لتبني الاستبداد (لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) . فعندما لا تفلح الجزرة في ثني المعارضين او المحتجين عن مواقفهم يلجأ الاستبداد للقوة والعنف لفرض اسلوبه. كما قد يلجأ الى اساليب الاغراء والاحتواء من اجل استمالة خصومه. كما يوظف الاستبداد "الاعلام" والطرق المستبدة والناعمة احيانا من اجل التحكم وضبط المجتمع عبر نشر المغالطات والأكاذيب لتشويه المخالفين. وقد يلجأ الى "التعليم" ومحاضن التربية لضبط ايقاعها على سمفونيته المستبدة حتى لا تنفلت زمام الامور من يده لأنه يعتقد ان الجهل والتخلف وسائل "لإعادة انتاج المجتمع" وفق منظوره الاستبدادي. وهو يعتقد اعتقادا جازما ان التعليم والتربية بوابة لتخريج القيادات والنخب الصالحة والمصلحة وبالتالي وجب تقزيم دور كل ماله علاقة بالتوعية والتربية والتعليم مخافة ارتفاع نسب الوعي التي قد تؤدي الى تغيير قواعد اللعبة داخل المجتمع ! مقاومة الاستبداد والحد من منه يتطلب وعيا ويقظة كبيرة ودائمة من لدن المجتمع برمته. اولا يجب بناء الامة على اسس ديمقراطية سليمة تكون فيها "الشورى" متجسدة على ارض الواقع مع تأهيل نخب سياسية حقيقية ونزيهة محبة للخير للوطن ومساهمة في تنميته وتعزيز مكانته بين البلدان. الاستقرار و الامن لن يستتب في بلداننا إلا بالديمقراطية الحقة والتناوب على تدبير شؤون المواطنين بعيدا عن اساليب التحكم والاستبداد. كما لا ننسى التركيز على دور المدرسة ومنحها المكانة التي تستحق. فهي التي تزرع بدور "الاستبداد" بين مرتاديها من خلال برامجها وأسلوب تدبيرها. كما اعتقد انه حان الوقت لإعادة النظر في "الاجهزة الاعلامية" ورسالتها التي يجب ان تقوم على نشر الوعي والفضيلة وثقافة الحوار والقبول بالرأي الآخر كبديل عن ثقافة "الغاء الآخر" والتعتيم والتشويه. كما يتعين ان تقوم بنشر كل ما يزخر به المجتمع من ثقافات وتنوع وتوجهات سياسية مختلفة. اضافة الى اهمية توعية الاسرة بدورها المحوري في خلق جو من الحوار الاسري وتكريسه ونبد أساليب التحكم والقمع في افق تخريج جيل جديد يؤمن بالرأي والرأي الآخر وليس تفريخ اجيالا تعتقد ان الاستبداد والتحكم هو الاسلوب الوحيد والأمثل لإدارة البلاد والعباد !!