لعل أكبر فضيحة نتابعها هذه الأيام، قيادة الغرب المصلحي لثورة مسلحة هدفها القضاء على الاستبداد القذافي في ليبيا. فقد قامت الانتفاضة في تونس وفي مصر وفي سوريا وفي اليمن سلمية، ونجحت الأولى والثانية في دحر الاستبدادين التونسي والمصري، وتسير الانتفاضة الثالثة والرابعة في اليمن وفي سوريا باتجاه إسقاط النظامين القائمين بهما. ولقد بدأت الانتفاضة الليبية سلمية وتعامل معها الاستبداد القذافي بوحشية لم يعادله فيها غير الاستبداد السوري على النحو الذي يستمر به منذ شهور طويلة . ولو ابتعد الغرب المصلحي عن الثورة الليبية السلمية وتركها لشأنها، لكانت نموذجا شعبيا رائدا، ينضاف الى الريادة التونسية والمصرية في الاطاحة بالمستبدين الذين عجزوا عن إدراك مغازي دروس التاريخ العالمي. بل إن سلمية الانتفاضة الليبية كانت ستكون خزانا ثوريا شعبيا في كل البلدان العربية التي لا تزال تخضع لطغيان الاستبداد في بلدانها . وينبغي الاعتراف هنا بأن القوى المحافظة في العالم العربي، وقوى الغرب المصلحي، قد أدركتا المغزى العميق لسلمية الانتفاضة الليبية، وبعدها البيداغوجي الثوري ، فعملتا بسرعة على تحويلها الى عمل مسلح من أجل القضاء على الآفاق الثرية التي كانت تحبل بها تلك الانتفاضة السلمية المباركة ، وهو ما فتح الباب للمستبد القذافي كي يلجأ الى التوظيف الايديولوجي الذي يزعم فيه أن قمعه مشروع ما دام يحارب عودة الاستعمار من جهة، وما يسميه محاربة الإرهاب من جهة ثانية. لا أحد يمكن أن يصدق أن القوى الغربية وقوى المحافظين العرب تحرص على إسقاط المستبدين في الأنظمة الاستبدادية العربية. فالقوى الأولى أسندت وساندت على الدوام الاستبداد في كل بقع العالم وكانت تعتبره عنصر استقرار الى درجة أنها كانت تقبل حتى بحماقات بعض المستبدين أمثال عيدي أمين في أوغندا والقذافي في ليبيا. وأما قوى المحافظين العرب فقد كانوا على الدوام بؤرة الاستبداد وأصل كل أشكال الفساد الاقتصادي والمالي والسياسي . ما السبب الذي جعل هذا الزواج الفاضح واللاتاريخي بين المسلحين في ليبيا وبين القوى الغربية المصلحية ممكنا!؟ قد يذهب العقل الى أن تحريف المسار الذي كانت تسير فيه الانتفاضة ضد الاستبداد من قبل هاتين القوتين: القوى الغربية والقوى العربية المحافظة، أمر طبيعي ما دامت مصلحتهما بالرغم من اختلافها تلتقي. لكن بالرغم من شدة وضوح هذا التفسير، فسيبقى ملغزا هذا التحالف المستغرب بين قوى للتغيير في ليبيا وقوى الغرب المصلحية. إن الأمر الأكثر بيانا يعود الى طبيعة الاستبداد نفسه. لقد أكدنا في هذه المقالات عن الاستبداد العربي أن الاستبداد واحد مهما تلونت أساليب حكمه للشعوب. لكن هذه الحقيقة الدامغة لا تنسينا أن للقوى السياسية المتفاعلة داخل المجتمع في ظل الحكم الاستبدادي، دور حاسم في تحديد مسارات الانتفاضات والثورات معا . ففي ليبيا محا الاستبداد القذافي كل الإمكانيات المجتمعية والثقافية والتنظيمية (حزبية كانت أو نقابية أو جمعوية)، وهو الوضع الذي لم يكن يميز نفس المسار الذي كانت عليه تونس ومصر واليمن وسوريا. وأدى هذا الوضع غير الطبيعي في ليبيا الى انعدام قوى رقابية وضاغطة على طول عقود الحكم الاستبدادي القذافي ، وهو ما يفسر يسر الانقضاض الغربي المصلحي على الانتفاضة السلمية الليبية، وتحويلها الى عمل مسلح يسمح للغرب بالتدخل والتحكم في كل مصائر الدولة الليبية المقبلة وفي جميع الأحوال . وبخصوص هذه المفارقة الغرائبية تحديدا ، ستظل عالقة بالأذهان معاناة الشعب العراقي قبل وبعد سقوط الاستبداد . أما قبل السقوط، فقد جرى تحت أعين العالم تخريب كل مكونات الكيان العراقي الحضارية والبنيوية. وأما بعد السقوط فقد راحت كل الدعوات من أجل الدمقرطة والوحدة والعدالة كي تشفطها ثقوب سوداء مظلمة. وتبقى الخشية قائمة من أن على من استجدى العون كي يقضي على استبداد دكتاتورية القذافي أن يستجدي نفس القوىالغربية المصلحية كي يواجه الشعب في لحظة أخرى فارقة . ذلك أنه من الصعب أن يتحول المصلح الخاضع الى مصلح مستقل . لم يثبت هذا في التاريخ أبدا مثلما لم يثبت أن كان الغرب المصلحي داعما للثورات. وها هي التجربة العراقية قيد التخبط لا تزال . والحق أن ما ينسج اليوم في ليبيا يجعل كل الديمقراطيين في العالم يعانون أشد الحرج، وهو الحرج ذاته الذي يجعلنا نثق في وعي القارئ كي لا يخلط بين رؤيتنا هذه التي أوجزناها قدر ما تسمح به هذه الزاوية وبين الاتهامات السهلة، والانتقادات المغرضة. وإذا كان من المستحيل أن يخون الفكر ذاته، فإنه سيبقى مفارقا أن تخون الثورات ذاتها...