لم أتشرف بلقاء الشيخ عبد السلام ياسين قيد حياته و يا ما تمنيت ملاقاته و التعرف عليه عن قرب، ولكن يكفي ما شهد به الأخيار في حق هذا الرجل الخيّر. تماطلت في طلب مقابلته فتوفي رحمه الله و ضاعت الفرصة. و لكن إذا كنت قد تماطلت فلأني كنت أعلم أن الشيخ رحمه الله أولا و قبل كل شيء هو صاحب فكر ضخم كما أنه عالم ربّاني، فكنت أظن أن لا يمكنني طلب مقابلته دون أن أكون في مستوى اللقاء، لا سيما و أنّ كانت لدي أسئلة مباشرة كنت أود عرضها عليه رحمه الله. تأخرت في طلب مقابلة الشيخ رحمه الله و لو أنني كنت أعلم أنه لم يكن ليرفض ملاقاة أحد مهما صغر شأنه. و الشأن هنا يقاس بطبيعة الحال على سلّم الفكر و التقوى و العلم و الصدق و الصدع بالحق و ليس على مستوى المنصب أو الجاه و المال و السلطة أو النفوذ كما تعود على ذلك معظم الناس... هؤلاء الناس الذين عمل الشيخ ياسين طوال حياته على محاولة إعادة تربيتهم رغم الصعاب و رغم الحصار...فكان ما كان من كتابة للتاريخ، تاريخ الجماعة و مواجهتها للمنع و الحظر و تخويف -أو تخوف- الناس من الاقتراب منها، حيث كان الاقتراب من الجماعة يعد خطا أحمرا مغامر من حاول تجاوزه. و لنا العبرة في ما أدلى به الشيخ عبد الوهاب الرفيقي من شهادة مؤثرة مؤخرا حيث أخبرنا أنه سجن أياما بعد لقاء الشيخ الجليل عبد السلام ياسين رحمه الله. سيدي عبد السلام ياسين رجل شهم لم يغير مبادئه قيد أنملة، لم ينجرف مع التيار و لم تغريه أبدا كثرة عدد أتباعه المعلنين و الغير معلنين ناهيك عن كثرة المتعاطفين معه و مع جماعته، حيث لم ينحرف أبدا عن الخيار السلمي في مواجهة الرشوة و الظلم و الاستبداد رغم ما عاناه و جماعته من قهر و تعسف و ظلم، حيث كانت المنازل تقفل و اللقاءات و الندوات تمنع و المحاكمات تصطنع و ذلك بشهادة الكثير من الناس. لقد كان رحمه الله مربي يبغي السلم و السلام للأمة فيرفض العنف و ما قد يترتب عنه من خراب و دمار. نعم، التربية أساس التغيير، فلما يتشبع الناس، كل الناس، بالتربية الحسنة سيتغير كل شيء للأحسن دون حقد و لا بغض و لا عنف لأن من يمتهن التسلط آنذاك سيكون هو أيضا قد حضي بالتربية الحسنة... هذا ما فهمه البسطاء، و أنا منهم، من دعوة الشيخ عبد السلام ياسين الذي كان رحمه الله لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلا، فعاش مطمئنا و مات مطمئنا. و لعل الآية التي تخطر ببال كل من عرف قدر الرجل هي: ((يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي))، و الله أعلم، و لا نزكي على الله أحدا. توفي الرجل فاستغلت الصحافة فرصة ظرفية الموت للبوح بما لم يكن من المستطاع البوح به في ما قبل. فتعرف الجميع على مسار الرجل و معاناته... السجن و مستشفى الأمراض العقلية و هو العالم الربّاني و صاحب الفكر و الناصح المخلص الأمين...، و وضعه مع مرضى الصدر المعدية و لكن الشيخ خرج معافى الصدر و البدن... و الله أعلم. استفاضت إذا الصحافة في التعريف بالرجل و أفسحت المجال لكل من أراد الإدلاء بشهادة في حقه. الكل اعترف بخصال الرجل الحميدة و أخلاقه الرفيعة من اليسار إلى اليمين و ما بينهما، إلى أن حضينا بشهادة وزير، و زير العدل، مصطفى الرميد حفظه الله، الذي قال أنه لم يصل أن جالس شخصا في مستوى الشيخ ياسين، و هذا التصريح حدث عظيم في حد ذاته.. أما جنازة ياسين فلقد كانت ضخمة لم يسبق لها مثيل، و شهود الدنيا شهود الآخرة...لقد منح الله عز و جل في علاه الشيخ الشريف و المرشد المربي ياسين قيد حياته القبول مما جعل الناس تتعاطف معه في كل الأحوال و في كل الظروف و لم يستطع مناوئوه من بعض أفراد النظام الذي كان الشيخ يريد إصلاحه النيل من سمعته مهما حاولوا جاهدين، حيث كان الناس يتعاطفون معه و مع جماعته تلقائيا دونما و لو أدنى التفاتة إلى أطروحات بعض أفراد النظام الذين كانوا يجتهدون في توجيه التهم لتبرير المنع و الحظر على جماعة ياسين عبر الإعلام الرسمي (-و ربما الغير الرسمي أيضا-)، هذا الإعلام الرسمي الذي لم يسمح لمقدمة الأخبار بإضافة جزء ثانية للثلاثين ثانية التي خصصت لإعلان وفات الشيخ ياسين، بضخامة فكره و عطائه للوطن، و دوره الكبير في استتباب الأمن و الأمان في الوطن الحبيب، للترحم عليه و لو بكلمة "رحمه الله" أو بجملة "تغمضه الله برحمته"... المقام لا يسمح بالتعليق.. اللهم ارحم عبد السلام ياسين و أدخله فسيح جناتك يا رب العرش العظيم، يا رب العرش العظيم، يا رب العرش العظيم. لم تسعفني الظروف لمقابلة الشيخ ياسين و لا مصاحبة أهل العدل و الإحسان، و ما أحوجنا للصحبة الصالحة في هذا الزمن المتردي، و لكنني تذكرت الشيخ و جماعته في جنازة أخرى سابقة لجنازته، في يوم الجمعة 8 شتنبر من سنة 2011، جنازة رجل شريف تعرفت عليه عن قرب و هو من أهل وزان، العالم قيد حياته مولاي إدريس وزاني شاهدي رحمه الله. كان يحسب على الصوفيين من أهل السنة، لم يؤذي أحدا طوال حياته، بل كان يسمح في حقه و يرد على الشر بالخير و بالابتسامة و العطاء. كان بيته مفتوحا للأقارب و العموم و عابري السبيل، يطعم الغني و الفقير، و يجمع أهل العلم و التقوى للحديث و الذكر و تلاوة القرآن. كان رجل سلمي يقول خيرا أو يصمت، و لم يسبق له أن قال سوء في أحد و لو كان من كبار الظالمين. خطر ببالي الشيخ ياسين في جنازة الشريف مولاي إدريس وزاني شاهدي خريج القرويين رحمه الله في أربعينيات القرن الماضي الذي لم يكن يقترب من السياسة ولعل هذا كان منهجه...، و قلت لو أن هذا الرجل التقي النقي خاض في السياسة لكان مكسبا كبيرا للأمة و لكان قد أعان على تطهير، بسلوكه و أخلاقه الرفيعة، قسطا مهما في الساحة السياسية المعروفة عموما بما هي معروفة به من نفاق و انتهازية و طمع و جشع و تملق مقزز و وصولية مؤسفة لا أخلاقية...رحم الله الشريف مولاي إدريس وزاني شاهدي رحمة واسعة. اللهم ارحم إدريس وزاني شاهدي و أدخلة فسيح جناتك يا رب العرش العظيم، يا رب العرش العظيم، يا رب العرش العظيم. الشيخ سيدي عبد السلام ياسين جمع بين صفات المتصوف الزاهد المتسامح و رجل السياسة الصادق. خاض في السياسة و قدم النصح و النصيحة الغالية ثم جمع حوله جماعة من المسلمين قرروا العمل من أجل الأمة بعد أن يئسوا تمام اليأس من إدارة لا تقبل غير الرشوة كأسلوب في المعاملة، إلا من رحم ربّي، جماعة من المسلمين طلبوا الصحبة الصالحة بدل مضيعة الوقت في انتظار إصلاح تيقنوا أنه لن يأتي أبدا من طرف إدارة خططت للفساد منذ الأزل لأن "الداء قديم"...، إدارة تفرض على المرء التملق و التذلل للبشر إن أراد الحصول على أبسط حقوقه، إلا من رحم ربّي. أما الآن، فالمطلوب استمرار الجماعة. استمرار لن يتأتى سوى بالثبات و وحدة الصف دون التزحزح على الخط السلمي السليم الذي عودتنا عليه جماعة العدل و الإحسان في أدائها السياسي السلمي السليم الصحيح و الصائب. فجماعة العدل و الإحسان تريد الإصلاح و كما قال العالم المقاصدي أحمد الريسوني حفظه الله: " في الأخير، الإصلاح إصلاحنا جميعا..." (يتبع...)