(مِنَ المُؤْمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَََضَى نَحْبَهُ وَمِنهُمْ مَنْ يَنْتظِرْ وَمَا بَدَّلُوا تَبْديلاً) التحق الشيخ عبد السلام ياسين رحمة الله بالرفيق الأعلى، وشهد تشييع جنازته حشود غفيرة جاءت لتودع رجلا قلّما يجود الزمان به. رحل الشيخ عبد السلام ياسين، بعد أن أدى رسالته على أكمل وجه، وظل مدافعا عن مبادئه ومنهاجه إلى أن توفاه الله إلى رحمته. لقد عاش الشيخ الوقور عزيزا أبيّا، لم يساوم على مبادئه ودينه، ظل صابرا مرابطا، رغم ما تعرّض له من البلاء والمحن، فنال من الله القبول والتمكين في الأرض، وما تلك الحشود البشرية الكبيرة التي حضرت جنازته وشيعته لمثواه الأخير، إلا شاهد على مكانة الرجل في قلوب الناس. حتى الذين اختلفوا معه في المنهج سواء من داخل الحقل الإسلامي أو من خارجه، شهدوا له بالريادة والنبوغ في مجالات الفكر والسياسة والتربية والأخلاق، بل منهم من حضر جنازته وقدم التعازي لأهله وذويه. أجمعت شهادات مختلف القادة والزعماء الدينيين والسياسيين والاجتماعيين، على منزلة الرجل والتقدير الذي حظى به، ففي لحظة الموت تغيب الحساسيات الإيديولوجية والحسابات السياسية، ويحضر الموقف الإنساني النبيل، فتخرج الكلمات في لحظة صفاء عذبة مُنْسابة صادقة معبّرة عن خوالج النفس، وهي شهادات تدلّ على أن الراحل الشيخ ياسين كان يحظى باحترام كثير من المغاربة، على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية، اعترافا له بثباته وصموده في سبيل مبادئه. والحقيقة جاءت بعض الشهادات المنصفة، من طرف بعض رموز الحركة الإسلامية سواء داخل المغرب أو خارجه، لترد الاعتبار لرجل كرّس حياته للدعوة إلى الله والدفاع عن الإسلام، لكنه قيد حياته لم يلق العناية والاهتمام الذي يستحق. علّمنا التاريخ أن الرجال العظام لا يموتون، بل إن رحيلهم عن الدنيا، يحيي سيرتهم في قلوب الناس ويخلد ذكراهم عبر الأجيال المتعاقبة، لأنهم تركوا وراءهم إرثا زاخرا، وإن رحيل الشيخ عبد السلام ياسين إلى دار البقاء، بعد رحلة إيمانية طويلة، غنية بالعطاء الفكري والتربوي والدعوي، لم يأْلُ جهدا في الصدع بالحق في وجه الظلم والاستبداد، وخلّف وراءه إنتاجا غزيرا وعلما وفيرا، ورجالا ونساء نهلوا من معين فكره وساروا على منهاجه. اختار الراحل لنفسه الطريق الصعب في الدعوة إلى الله، فلم يكن يهادن الفساد والاستبداد، وأدى ثمن ذلك من حريته، وظل هذا دأْبُه إلى أن لقي ربّه. جمع الفقيد في منهاجه بين التربية الروحية السلوكية والتنظير الفكري العقلاني، فكان مربيا على القيم الإيمانية والإحسانية، ومعلما لأصول التفكير والتأمل العقلاني، وهذه الخاصية قلّما تجتمع لدى إنسان، سيما وأنه اشتهر بعصاميته المعرفية، واجتهد في طلب العلم بمفرده فنال حظا وافرا من مختلف العلوم والفنون، فألّف في التاريخ والفقه والأدب والشعر والفلسفة والتربية... هذه المناقب منحت الراحل قوة وصلابة ومنعة ضد الذين كانوا يستهدفون عزله وإجهاض دعوته، لكنه خرج منتصرا بعد كسره الحصار المضروب عليه وعلى جماعته، واستطاع أن يحظى بتقدير واحترام داخل وخارج المغرب، وكان التتويج الذي حظي به قبل وفاته بأيام قليلة، خلال المؤتمر الدولي المنعقد بتركيا، والتذي ثمّن عاليا جهود الراحل وعطاءه في مجال الفكر والدعوة الإسلامية. سيبقى الراحل الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله، منارة مضيئة في تاريخ المغرب الحديث، بسيرته الخالدة، ومناقبه المتفردة، وإن كنا نسمي مفارقته الحياة الدنيا رحيلا، فهو رحيل بالمعنى المجازي، كيف يرحل من ترك علما ينتفع به وأمّة من المؤمنين تدعو له. (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)