رحل عنا في هذا اليوم الخميس 13 ديسمبر 2012 ( الفاتح من صفر الخير 1434 ) فارس الدعوة الأول في المغرب الإسلامي بأسره الشيخ المرشد والإمام المقاوم عبد السلام ياسين عليه رحمة الله سبحانه وذلك عن عمر ناهز 84 عاما. لا يملك المرء إبتداء إلا أن يعزي نفسه والأمة الإسلامية قاطبة في فقيدها الكبير الذي سطر لأجيال الحركة الإسلامية وصحواتها من بعده قاموسا خصبا ثريا حافلا بالمجاهدات والمغالبات والمقاومات وبمثل ذلك يموت الرجال فلا تموت آثارهم من بعدهم مصداقا لقوله سبحانه : „ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " ( من سورة ياسين الآية 12). أولئك هم أحياء الأموات الذين يهدي الله بهم سبحانه من شاء من أموات الأحياء وكثير ما هم. لم تشرفني أقدار الرحمان سبحانه بلقاء ذلك الجبل الأشم الشيخ عبد السلام ياسين ولو مرة واحدة سوى أني ممن تعلمت من كتبه وما خط يمينه كثيرا على إمتداد عقود ولله الحمد والثناء والمنة من قبل ومن بعد. ولكن كانت لي لقاءات غير قليلة مع بعض مسؤولي الجماعة جماعة العدل والإحسان المغربية التي يقودها الشيخ الراحل سيما في ألمانيا وأروبا حيث قرّ بي القرار في أتون النفي والتهجير الذي تعرضت له بسبب نشاطي الإسلامي في حركة النهضة التونسية بمثل ما كانت العلاقات بين حركتنا حركة النهضة وبين جماعة العدل والإحسان لا يسودها سوى الود والتعاون والتشاور بسبب إنتماء الجماعتين إلى المنهاج الإسلامي الأرشد في التفكير والإصلاح أي منهاج البلاغ المبين والصبر الجميل وبمثل ذلك كانت مؤتمرات حركتنا رغم ما فرضت علينا من قيود السرية والملاحقات البوليسية الجائرة تشهد حضور ممثل واحد على الأقل عن جماعة العدل والإحسان. ينبع الحزن على رحيل ذلك الإمام الكبير لأسباب كثيرة منها : 1 أن الرجل خط طريقه الدعوي بنصب وكفاح من جهة ومن جهة أخرى بعصامية عجيبة إذ لم يكن سليل مدرسة دعوية سابقة تلقى منها المنهج الدعوي أو مفرداته السياسية والأخلاقية بمثل ما هو حال بقية الحركات الإسلامية في أغلبها ممن إنتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين سيما إنتماء إلى تنظيمها الدولي وفي ذلك ما فيه من القوة الذاتية والعزيمة الحديدية اللتين صنعتا شخصية ذلك الإمام الكبير عليه رحمة الله سبحانه. 2 أن الرجل إستطاع أن يجمع في توازن عجيب ومهيب بين تربية صوفية إسلامية معتدلة وصادقة ومنضبطة بأحكام الشريعة المعروفة بما تسنى له من نهل من طريقة البودشيشي في المغرب الأقصى قبل زهاء عقود طويلة وبين معالجة لشؤون الواقع المعيش في المغرب الأقصى بميزان سياسي وفكري. والحقيقة أن الجمع بين الأمرين بمثل ذلك الإعتدال والتوازن ليس أمرا هينا فلا يلقاه إلا من تشبع بالحقيقة الإسلامية عقيدة وعبادة وخلقا وفكرا ومنهاجا وهؤلاء في الناس اليوم قليل من قليل من قليل. ألا ترى أن بعضنا يترنح فكريا بمثل ما يترنح السكران فيهذي هذيان بعض العالمانيين المعتدلين ممن سموا بأصحاب العالمانية الجزئية غير الجامعة أو ألا ترى أن بعضنا يختفي وراء صوفية مبتذلة تاركا وراءه الساحة العملية الواقعية ملؤها الآلام والآمال؟ 3 أن الرجل حبس نفسه على المقاومة الفكرية والكفاح السلمي والجهاد بالكلمة والقلم وتأسيس الجمعيات والمنظمات والمنابر الإعلامية حبسا عجيبا فلم يفلح ملك المغرب الراحل الحسن الثاني ولو مرة واحدة في إستجلابه إلى ساحة العنف والإرهاب وردود الأفعال غير المسؤولة وفي ذلك ما فيه من بلاء إسلامي كبير مصداقا لقول الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام : „ ليس القوي بالصرعة ولكن القوي من يملك نفسه عند الغضب ". إن الرجال ومن ورائهم الحركات الذين ظلوا ثابتين على المنهاج الإسلامي الأرشد في التفكير والإصلاح والتغيير رغم تعرضهم لمحن تشيب لها ذقون اليافعين هم الذين بث الله في أفئدتهم جرعات من الصبر الخالص المصفى وهم الأئمة الذين يبحث عنهم الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام في حديثه الصحيح :“ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله : ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وإنتحال المبطلين ". وعندما تنفجر الساحة بمثل الساحة المغربية والمغاربية من بعد نشوء فروع لتنظيم القاعدة فيها ولجماعات التكفير والتفجير فيها بالدعوة إلى الجهاد الفوضوي غضبا أعمى فيلزم الرجال مواقعهم .. عندها تعرف للرجال أقدارهم وذلك عندما تنكشف سوءات تلك الدعوات الجهادية والجهاد الإسلامي الحقيقي القح منها براء براء براء براءة الذئب من دم إبن يعقوب كما قالت العرب في القديم. 4 أن الرجل لم يؤسس جماعة تكدح لمرضاة شيخ أو تنصب لرفع زعيم معصوم كما تفعل بعض المذاهب من حولنا بل تفعل ذلك في بعض الأحيان بعض الجماعات التي تدعي التشبع بقيمة الفصل بين قدسية المبادئ وإجتهادات الناس. أثير لغط من هذا القبيل حول شخصية الإمام الراحل عليه رحمة الله سبحانه بمثل ما أثير اللغط ذاته حول بعض المحيطين به ولكنه لغط لم يصمد في وجه التحقيقات الصحيحة الثابتة. الرجل قمة إسلامية شامخة دون ريب : قمة في العلم وقمة في الفقه وقمة في المقاومة وقمة في الحركة والنشاط وقمة في التسيير الإداري والتنظيمي والحزبي وقمة في الكلمة العربية المتينة الصحيحة غير المدحوضة .. ومن شأن من يكون ذاك شأنه أن يتربع على عرش الجماعة إماما معصوما مطاعا في السر وفي العلن وفي المنشط وفي المكره فلا تلزمه مشورة ولا صوت يعلو فوق صوته. ما رأينا ولا سمعنا شيئا من ذلك البتة وتقديري أن الرجل من أولياء الله المخلصين الصالحين المصلحين الذين جدد بهم الدين ومن هو في مثل ذلك لا يحرمه الله سبحانه قيم الشورى والحوار وخفض الجناح أن يخلعها على من حوله لتشييد صرح جماعي إصلاحي كبير من مثل جماعة العدل والإحسان التي يصنفها التقرير الأمني السنوي لأعلى سلطان قضائي ألماني على أنها أكبر تنظيم إسلامي في أروبا سيما من حيث عدد المنخرطين ودقة الترتيب و الحدب العملي نشاطا وفعالية ولو كانت الجماعة تنحو مناحي العنف والإرهاب أو حتى التطرف والتشدد وهي درجة أدنى بالمعيار الأمني الألماني لما أعفاها ذلك التقرير السنوي الرسمي الذي يحتوي على أزيد من أربعمائة صفحة والحق ما شهدت به الأعداء كما قالت العرب قديما. 5 أن الرجل ليس من صنف القيادات الإسلامية التي قد تجيد الترتيب والتنظيم والفعل السياسي ولكن أقلامها مغمودة لا تفلح أن تبوح بكلمات قليلات صغيرات مقتضبات أو مرتجلات صحيحات. الرجل جمع بين المهارات القيادية إجتماعيا وتنظيميا وسياسيا وبين مهارات الكتابة والمحاججة بل هو أديب من طراز رفيع جدا ومن يقرأ كتبه بمثل ما فعلت ولله وحده الحمد والمنة والثناء سبحانه يقع في أسر قلم عربي قح خصب ثري وثر. مثله في ذلك مثل الشيخ المرحوم محمد الغزالي الذي يأسرك قلمه في أحيان كثيرة قبل أن تأسرك حجته وعندما يجتمع اللسان العربي القح السليقي في الرجل مع مؤهلات فكرية وسياسية وقيادية فإنه إمام من أئمة الهدى لا مناص لك من إلتزامه لا لتكون ميتا بين يديه يغسلك بمثل ما يغسل الميت ولكن لتتعلم منه إذ لا شرط لطلب العلم يسبق شرط التواضع إكراما للعلم. 6 أن الرجل مقاوم من طراز عنيد جدا ولك أن تتصور جرأته العقدية الكبيرة وهو يوجه إلى الملك الحسن الثاني قبل زهاء عقود طويلة تحديدا عام 1974 ميلادية رسالة طويلة جدا بعنوان : الإسلام أو الطوفان. لك أن تتصور مصير رجل واجه ملكا من ملوك الأرض اليوم بمثل ذلك. لا بل دعني أقول : واجه ملكا إسمه الأول رسميا وشعبيا هو : أمير المؤمنين. رسالة تصلنا بكلمات أبي مسلم الخولاني عندما دخل على معاوية عليه الرضوان وهو يقول له في حضرة رجاله : السلام عليك أيها الأجير. ينتفض الرجال الطامعون في فتات الموائد ولكن دهاء ثاني دهاة العرب بعد عمرو إبن العاص عليه الرضوان حسم الموقف بذكاء وقاد وقال : أجل. صدق أبو مسلم. الرسالة ذاتها تقريبا في صدق لهجتها وحدبها على الإسلام العظيم توجه بها الشيخ الراحل إلى الملك محمد السادس يطالبه فيه برد المظالم التي إنتزعها أبوه إلى أصحابها. كانت الظروف السياسية في العهد المتخلي مواتية لقمع الشيخ المقاوم وملاحقته وفرض الإقامات الجبرية على بيته وتحركاته إذ عاش حقبة كبيرة من حياته سجينا في بيته أملا زائفا من سلطات الدرك كما يقول إخواننا المغاربة أن تظفر بأنة من أنات ذلك السجين أو آهة من آهات جزعه ونفاد صبره ولم ينتبهوا إلى أنهم أمام جبل أشم وفي حضرة أسد هصور يحرس عرين الإسلام فلا ينتهى إليه إلا على جثته. ألا ما أقبح الأقزام عندما يحيط عسسها الفاجر بالعمالقة. الحديث عن ذلك الشيخ الإمام المقاوم لا يعرف شطآنا يفيئ إليها وذلك بسبب شخصيته العملاقة الفذة التي حوت من الملاحم مجاهدة ومقاومة ومن المآثر زكاة روحية وذكاء فكريا وتوازنا مزاجيا وإعتدالا إصلاحيا ومهارات قيادية وتسييرية ورسوخا وثباتا وصبرا وثقة ويقينا .. حوت من كل ذلك قناطير مقنطرة. عرفت تلاميذ الشيخ الإمام والمقاوم المغوار في أروبا وألمانيا وإلتحمت بالكثير منهم وهذه شهادتي لله تعالى أني ما عرفت عنهم إلا الخير وما عرفت منهم إلا ما هو أجمل من ذلك وأحمد لله تعالى. أغبط الشيخ الكريم على صوفيته الإسلامية المعتدلة المتوازنة التي زكت روحه فأغدق من تلك الزكاة على رجاله الذين خلفهم من ورائه حفظة لجماعة العدل والإحسان من خير ما يغدق مرب كريم على شطئه النامي. أجل. فقد المغرب الإسلامي بأسره بل الأمة كلها داعية إسلاميا عظيما ومربيا كبيرا ونبراسا جمع بين الفضائل والمحامد والمكارم روحيا وفكريا وسياسيا. وإذا كان الناس يتخوفون حتى من قبل مماته عليه الرحمة والرضوان على مصير الجماعة من بعده فإني مطمئن إلى أن إرث ذلك المجاهد الصالح والمقاوم المخلص لن يذهب سدى وتلك هي بركة الله تعالى في الصالحين المصلحين الراسخين زكاة وفكرا وإدارة لا تموت آثارهم من بعدهم ومن آثار هؤلاء الرجال أنهم بنوا رجالا بمثل ما قال الشهيد سيد قطب عن الإمام حسن البنا أنه : حسن البناء ومن أحسن بناء الرجال من مثل الإمامين البنا وفقيدنا عبد السلام ياسين فقد أحسن التخطيط للمستقبل. مات الرجل الكبير عماد الدعوة الإسلامية في المغرب الإسلامي الكبير وخلف من بعده حركة إسلامية جامعة معتدلة متوازنة يقع عليها عبء مواصلة المشوار الطويل إستئمانا للإسلام لدى الشعب المغربي المسلم بالأصالة والحداثة معا بمثل ما فعل الأئمة العظام من مثل الإمام مالك إبن أنس وأبي حنيفة وغيرهما عندما تحولت الأمة من بعد إغتصاب أمرها السياسي إلى الحكم العضوض ثم الجبري فما فروا إلى صوفية الكهوف أو إلى جدالات الأرائك الوثيرة ولا إلى سل السيوف البتارة ضد من تغلب بسيفه إتقاء فتنة غشوم ولكن فروا إلى المجتمع يحصنونه ضد أدواء العالمانية المتطرفة اللقيطة وضد الإنحناء في وجه الإستبداد الأعمى وتلك هي مهمة الأئمة الخلص الرشد حتى تتهيأ الأوضاع لما هو أغدق وأبقى وأنقى فلا تسلم منفعة اليوم من مفسدة في الأغلب ولا تسلم بمثل ذلك مفسدة من مصلحة ولكنه الفقه السياسي الرشيد فما يلقاه إلا أهله. لتظل جماعة العدل والإحسان من بعد رحيل مرشدها وزعيمها الفذ قلعة إسلامية شامخة ترعى التربية والتزكية والتعليم والتفكير والمقاومة السلمية بكل صورها ووجوهها لا تزكي ما خرقه الأمويون فأضحى سنة ولكنها في مقابل ذلك لا تستل السيوف التي لا تميز بين ظالم ومظلوم.