الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قرأت مقالة للأستاذ اسماعيل العلوي تحت عنوان "لماذا تهاجم العدل والإحسان التصوف؟" فأعجبني عنوانها، وتمنيت أن أجد فيها جديدا تشد إليه الرحال، خصوصا وأنا أعلم – كما يعلم غيري – العلاقة الوطيدة التي تربط الجماعة بهوس التصوف، علاقة أقل ما يقال عنها: مثل علاقة الرضيع بثدي أمه. ظننت لما قرأت العنوان أن الجماعة قد غيرت رأيها بخصوص التصوف نظرا للظروف التي تحياها الشعوب الإسلامية، التي تمخض عنها ميلاد جديد، ويقظة مباركة بعد فتن وبلايا اتسع الخرق فيها على الراقع، حتى أصبح الحليم من الناس حيرانا، لكني للأسف وجدت الكاتب يمدح مدحا عطرا منهاج الجماعة، ويثني عليها ثناء من أسكره نبيذ حبها، فخاب أملي حين علمت أن بين العنوان والمحتوى تضادا صارخا، حاول الكاتب حفظه الله أن يخفي ذلك بتدليسات عجيبة جدا لا تنطلي على من له أدنى اطلاع على العلوم الشرعية، بله أن يستسيغها المفكرون والعلماء والدعاة وأرباب العقل السليم. بدأ الكاتب مقاله بتبرئة الجماعة من تهمة الصوفية، ثم في نفس الأمر حاول أن يمدح التصوف، وينفي عنه ردود المتعلمين وأنصاف المتفيقهين فقال: "غالبا ما توصف جماعة العدل والإحسان في المواقع الإلكترونية وبعض الجرائد والكتب بأنها صوفية، ويأتي النعت في سياق التشهير والقذف وتحريض الغوغاء على هذه الجماعة، فالصوفية جميعهم عند عموم العوام -وحتى عند بعض أنصاف المتعلمين والمتفيقيهين- ضالون مبتدعون خرافيون فاسدوا العقيدة، ..." قلت: وهذا من اقبح التناقض، فإذا كانت الجماعة بريئة من التصوف، فلماذا تدافع عنه، ومن قال لك بأن المتفيقهين والمتعلمين هم الذين ردوا على المتصوفة. إن التصوف يا سيدي إن كنت طالب علم، قد ذمه أكثر علماء الإسلام، أنقل لك كلام بعضهم لتقرأه على تؤدة وروية، وأكتفي بعلماء المالكية من أهل المغرب رحم الله الجميع: قال الإمام القاضي عياض رحمه: (( الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة ، والتصانيف الفظيعة غلا في طريق التصوف وتجرد لنصر مذهبهم وصار داعية في ذلك وألّف فيه تواليفه المشهورة. أُخذ عليه فيها مواضع وساءت به ظنون أمّه، والله أعلم بسره. ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها فامتثل ذلك )) (سير أعلام النبلاء: 19327) وقال رحمه الله في كتابه الشفا (2/246) قال : (( وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية، وقاضي قضاتها أبو عمر المالكي ، على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول ؛ وقوله : أنا الحق ، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة ولم يقبلوا توبته. وكذلك حكموا في ابن أبي الغراقيد وكان على نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي بالله وقاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر المالكي )). انتهى قلت: انظر رحمك الله إلى حكم القاضي عياض على الحلاج، وأنت تدافع عنه، وتصف من يرد عليه بالتكفيريين، فإن شئت أن تصف عياضا بالتكفير فافعل، وأعوذ بالله أن تكون من الجاهلين. وقال ابن خلدون رحمه الله: ((هذا العِلم - السِّحْر - حَدث في المِلَّة بعد صدر منها ، وَعنْد ظُهور الغُلاَة من المتصوفة، الحلاَّج، ابن عربي، العَفيف التِّلِمْساني ، ابْن سَبعين ، ابن الفارض وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس، وظهور الخوارق على أيديهم)). (المقدمة لابن خلدون صفحة:930) وقال الإمام القرطبي رحمه الله: (فأما طريقة الصوفيّة أن يكون الشيخ منهم يوماً وليلة، وشهراً، مفكّراً، لا يفتر، فطريقةٌ بعيدة عن الصواب، غير لائقة بالبشر، ولا مستمرة على السنن)الجامع لأحكام القرآن: (4/315) وقال الإمام الطرطوشي رحمه الله: (مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله، وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد، فأَوّل مَنْ أَحثه أصحاب السامريّ، لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار، وعبّاد العجل). الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي: (11/237-238) وقال الفقية الصالح أبو عبدالله الحفار المالكي (811ه): ((إن هذه الطائفة المنتمية للتصوف في هذا الزمان وفي هذه الأقطار، قد عظُم الضرر بهم في الدين، وفشت مفسدتهم في بلاد المسلمين ولاسيما في الحصون والقرى البعيدة عن الحضرة هنالك، يُظهرون ما انطوى عليه باطنهم من الضلال، من تحليل ما حرم الله والافتراء عليه وعلى رسوله. وبالجملة فهم قوم استخلفهم الشيطان على حَلِّ عُرى الإسلام وإبطاله، وهدم قواعده)). المعيار للونشريسي (11/42). قلت: هذه بعض النقول لعلمائنا المالكية، فتأملها جيدا، وانظر إلى قوتها وشدتها في إبطال التصوف والنكير على أهله، فهل هؤلاء العلماء كذلك كانوا ممن يأخذون الهبات من السلطة، ومن الجهات الخارجية كما وصفت به علماء السنة بهذا البلد العزيز الذين هم برآء مما رميتهم به براءة الذئب من دم ابن يعقوب. إن الكاتب حفظه الله ووفقه يتكلم دون نظر في معاني كلامه، وكأنه لا يدري ما يخرج من رأسه، فيسب ويشتم ويحكم بالشذوذ على من لم يبلغ قلامة أظفارهم في العلم والأدب والورع. يقول وبئس ما يقول: "فأكثرهم – أي المنتقدون للتصوف - لا يجيد إلا لغة السباب والتكفير والتبديع والتفسيق والإخراج من الملة، وأمثال هؤلاء لا يتحرجون من ترديد أقوال من سبقهم من الآراء الشاذة فقها وعلما وورعا في تكفير الحلاج وابن عربي وابن سبعين والصوفية عموما من أمثال الإمام ابن تيمية" قلت: وهذه مبالغة مكشوفة الغرض منها دغدغة العواطف، أما تكفير ابن عربي والحلاج وابن سبعين، فليس قولا شاذا فقها وعلما وورعا كما زعم الكاتب، بل هذا قول جماهير أهل العلم من المالكية وغيرهم كلهم حكموا بكفر هؤلاء الرجال، فمن الذين كفروا ابن عربي على سبيل المثال: برهان الدين البقاعي، زين الدين العراقي، بدر الدين بن جماعة، ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أحمد بن تقي المالكي، شمس الدين محمد بن يوسف الجزري ، عبد الرحمن بن خلدون، عز الدين بن عبد السلام، أبو عمرو بن الصلاح، ابن دقيق العيد، شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، ابن كثير الدمشقي، أبو حيان الأندلس، شمس الدين الذهبي، جلال الدين السيوطي.... وغيرهم كثير. وأما الحلاج فقد أجمع فقهاء عصره على تكفيره وإباحة دمه، وقتل بفتوى شرعية وافق عليها جل علماء الإسلام، يقول الإمام ابن الجوزي: ((اتفق علماء العصر على إباحة دم الحلاج فأول من قال : إنه حلال الدم أبو عمر القاضي ووافقه العلماء، وإنما سكت عنه أبو العباس بن سريج وقال: لا أدري ما يقول . والاجماع معصوم من الخطأ)) (تلبيس إبليس ص 166) وقال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية (11/158 159): (( قلت: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره. فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والائمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه)). وأما ابن سبعين فهو على نسق الرجلين السالفين، فإن شاء الكاتب أن يصف من ذكرت من العلماء الأقدمين بالشذوذ وقلة العلم والورع فليفعل وهيهات هيهات.... يا ناطح الجبل العالي ليكلمه .......أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل وأما ما حاول الكاتب أن يشوه به سمعة ابن تيمية رحمه الله، فمحاولة ميتة لا نصيب لها من إرث العلم لعدم الاستهلال، فإن شيخ الإسلام لم يشنع عليه إلا المتصوفة عباد القبور، وعلماء السلاطين حتى أدخلوه السجن، ومات رحمه الله دفاعا عن السنة وصفاء العقيدة، وأما كلام ابن حجر الهيثمي الصوفي فرده العلماء سلفا وخلفا وصنفوا كتبا في بيان بطلانه وتبرئة شيخ الإسلام، حتى ألف العلامة نعمان الألوسي الهاشمي الحنفي كتابا حافلا سماه: "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" رد فيه ردا شافيا على الهيثمي وأمثاله، ومما قال فيه: (إن هذا الكلام العاطل على حلى التحقيق؛ يتلو عنده كل عقل سليم: "سبحانك هذا بهتان عظيم"، لأن عقيدة هذا الشيخ الجليل مشهورة لدى كل قبيل، ومسطورة في تأليفاته الشهيرة، وتصنيفاته وفتاويه الوفيرة، وهو الذي رد أصحابها من أهل الزيغ والضلال كالمجسمة وغلاة الصوفية والفلاسفة الجهال...). وصنف الحافظ ابن عبد الهادي كتابه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ورد على ابن السبكي كذلك الحافظ يوسف السرمري البغدادي رحمه الله في قصيدته المشهورة: "الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية" وأما كلام ابن حجر العسقلاني فلا أدري لماذا أورده الكاتب، فهو حكاية للواقع ليس إلا، وابن حجر ما ثبت عنه موقف شخصي ضد شيخ الإسلام، وهو العدو اللدود للصوفية، لدرجة أنه كان يباهل أصحاب ابن عربي في كفره ويقول: (اللهم إن كان ابن عربي على هُدى فالعنِّي بلعنتك). الكلام ذو شجون، والذي أريد أن أخلص إليه، هو أن جماعة العدل والإحسان جماعة غارقة في التصوف، يدل على ذلك حال أتباعها وشيخها، وتنطق به مؤلفاته وكتبه، وقد أورد الكاتب نماذج من أقواله في الولاء للزاوية البوتشيشية، وعدم استعداد للبراءة من أدران التصوف. وأزيد لها قوله في كتاب: "الإسلام بين الدعوة والدولة" (وهكذا يقف أمثال الشيخ ابن تيمية رحمه الله موقف الخصم العنيد من رجال الله، فهو يكفر ابن عربي، لأن هذا الولي حاول أن يعبر عن ما لا يعبر عنه). وقال:(عشت ثمان سنوات مع الصوفية، وأشهد بما شهد به الغزالي أني وجدت الحق معهم، حق علو الهمة والصدق في طلب وجه الله، ووجدت منهم عادات وقعودا عن الجهاد الميداني ففارقتهم ولا والله لا أنسى فضلهم ولا أجحده ولا أتحمل أوزار الطرقيين) مجلة الجماعة العدد 2 السنة الأولى 13991979 ص: 123 124. فصوفية عبد السلام ياسين بعد هذا كله، أوضح من أن توضح، وأبين من أن تبين، أكتفي بهذا القدر الآن، وأنصح الكاتب بكف قلمه عن الرعي في مراتع الظنون، والدفاع عن الباطل، والكذب على العلماء، والتشبع بما لم يعط، ويرحم الله من عرف قدر نفسه، وتكلم فيما يحسن، وجنب قلمه تسويد الأوراق البيضاء من غير فائدة ودقة علمية، ويرحم الله الإمام الذهبي حين قال: دع عنك الكتابة لست منها.......ولو سودت وجهك بالمداد وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.