رغم أني لست ممن يتجرأ على من هو أكبر مني سنا من باب التوقير لأنه "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، و يوقر كبيرنا" كما صح عن الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولا ممن يتجرأ على من قد يكون في مقام العلماء أو يحسبه البعض في مقامهم، لن أخوض في جدال علمي محض مع الشيخ الزمزمي حول أفكار ومعتقدات الراحل عنا الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، ولست في هذا المقام للتناظر مع ما قاله الشيخ الزمزمي " موت ياسين "غير مأسوف عليه" "وغيابه خير من وجوده"، الزمزمي يرد: قلتُ رأيي في منهج ياسين .. ولا أمارس تَقيَّة الشيعة"، دفاعا عن الفقيد رحمه الله، لأن كلامه بكل بساطة يؤخذ ويرد، ولأن ما يمكن تسجيله من تحرير الاختلاف ليس هذا مقامه ولا لحظته. فقه المناسبة ذلك الفقه الغائب في ترشيد القول والتصريح المناسبة مناسبة موت بما فيها من الحزن والأسى الذي يعتري أهل الفقيد وأحبابه وأتباعه لفراقه، فهي "الصدمة" و"المصيبة" الجلل التي تحل بالأهل فتحدث هزات وصدمات، ولذلك كانت وصية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالصبر لمثل هذا المصاب الجلل: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، وكانت البشرى الإلهية لأهل مثل هذا المصاب الصابرين عليه في قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة الآيات 155-157 لكن القول هنا مع الشيخ الزمزمي هو قول في فقه "المناسبة والتوقيت" وهو "الفقيه العالم" بالنوازل والأقضية وبتحقيق المناطات، وهو "الداعية" الذي ينبغي أن يمتلك من الحكمة ما يجعله يتأنى قبل إصدار بيان حكم شرعي أو تصريح بموقف معين... وأذكره بما جرى في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام الذي عدل عن فكرة القيام بإصلاحات في الكعبة المشرفة لأنها غير مناسبة بالنظر إلى حداثة عهد قوم قريش بالشرك، حيث قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "يا عائشة ! لولا أن قومك حديثو عهد بشرك ، لهدمت الكعبة . فألزقتها بالأرض . وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا . وزدت فيها ستة أذرع من الحجر . فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة"، وهذا رسول الله عليه الصلاة والسلام يمتنع عن أمر عمر بن الخطاب بقتل رأس المنافقين عبد الله بن أبي كي لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه: "كنا في غَزاةٍ - قال سُفيانُ مرةً : في جيشٍ - فكسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال الأنصارِيُّ : يا لَلأنصارِ، وقال المهاجرِيُّ : يا للمهاجرينَ، فسمِع ذاك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : ( ما بالُ دَعوى جاهليةٍ ) . قالوا : يا رسولَ اللهِ، كسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال : ( دَعوها فإنها مُنتِنَةٌ ) . فسمِع بذلك عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ فقال : فعَلوها، أما واللهِ لئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فبلَغ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقام عُمَرُ فقال : يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عنُقَ هذا المنافقِ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( دعه، لا يتحدَّثُ الناسُ أن محمدًا يقتُلُ أصحابَه ...) صحيح البخاري. المناسبة شرط... إن المناسبة شرط، فأية مناسبة تستدعي أن يكون كلام الزمزمي فيه من الإذاية لميت بما يخالف ما صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: " لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" قال الحافظ بن حجر صاحب فتح الباري: قوله: "أفضوا" أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر... تغمد الله الفقيد الأستاذ عبد السلام ياسين بواسع رحمته ومغفرته وإنا لله وإنا إليه راجعون. [email protected]