حقيقة معركتنا داخلية. لقد اشتدت اليوم بفعل عدة عوامل غربة الإسلام وعاد كما بدأ, ومن أبلغ مظاهر هذه الغربة غياب المفهوم الصحيح للإسلام بين أهله, حيث تداخلت الأفكار, واختلطت الصفوف, واختلت الموازين, وضاعت المعايير, وبات الإسلام بين غالب أهله إما انتماء مجردا لا يصحبه عمل صالح, أو قوما آباؤهم مسلمون, أو شهادة ميلاد تشهد لصاحبها بالانتماء إلى وطن دينه الرسمي الإسلام. إلى أن أضحى مستعصيا تصور وجود نفاق ومنافقين بين ظهراني المسلمين, وكأن النفاق حدث تاريخي ومرحلة زمنية مرت وانتهت ومضت. بل صار من غير الممكن تمييز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب الذي يتظاهر بالإسلام نفاقا. وهذا لاريب, فيه خطر عظيم وخلل جسيم يهدد الأمة الإسلامية في سلامة كيانها وتماسك صفها ووحدة إرادتها. ولقد أثبتت الوقائع والأحداث ما كان للمنافقين من دور خطير عبر التاريخ الإسلامي منذ مرحلة تمكين المسلمين وبناء دولتهم في المدينةالمنورة. الشيء الذي يكشف سر اهتمام القرآن الكريم في تحذيره البالغ للمسلمين, وبيانه سمات المنافقين وأوصافهم, وكشفه عن طبعهم وطبيعتهم ومظاهر سلوكهم وملامحهم وما يمكنهم فعله. بل وما فعلوه داخل الصف الإسلامي من زعزعة النفوس, وخلخلة العقول بفعل دسائسهم وتشكيكاتهم, { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم, ولو نشاء لأريناكهم، فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم }(1). ويقول عز وجل: { وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون }(2), ويقول:{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}(3). إنها صفات لازمة لأهل النفاق في كل زمان وفي كل مكان, فالنفاق هو النفاق, بحكم تشابه الطبع والحقيقة والمصلحة والهدف, وإنما الذي يتبدل ويتغير هم الأشخاص والوسائل والأشكال والأسماء, وذلك بحسب تبدل مستجدات كل عصر ومتطلباته. لكن الأخطر هو أن النفاق في ما مضى كان سلوكا فرديا, أما في هذا الزمان فالذين يمثلونه يقدمونه في صورة مشروع عمل مؤسساتي منظم. من مظاهر النفاق في العصر الحديث. إن الولاء العقدي عند المسلمين فوق كل ولاء, والإسلام يمانع من تمييع المفاصلة بالمجاملة على حساب العقيدة, مصداقا لقول الله تعالى: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب }(5). وإن الأمة الإسلامية لهي في أشد الحاجة اليوم إلى إعادة النظر والتأمل في كتاب ربها أكثر من أي يوم آخر, حتى تستشف من تلك البيانات والتحذيرات ما يكشف لها عن أعدائها الحقيقيين, وذلك بحسب الذي بين هؤلاء في زماننا, وبين أولئك في زمان نزول الوحي من تشابه في الصفات والسمات وما بينهما من قواسم مشتركة, كمثل أنهم دائما وأبدا { يسارعون في الإثم والعدوان} وأنهم { يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف }. ولقد ظلت الأمة الإسلامية ردحا من الدهر, تتخبط تائهة شاردة مضطربة في ظلماء الأفكار الوضعية, يقودها الهلاك إلى سراب حيث لا نجاة. وذلك بفعل تمييع المفاصلة بين كل ما هو إسلامي وبين كل ما هو علماني. تمييع المفاصلة بين المسلم الذي يتخذ الإسلام دينا ومنهجا للحياة؛ في أخلاقه في سلوكه في تصوراته في سياسته في اقتصاده, وبين الذي يتسمى مسلما ويزعم أنه مسلم وهو ينبذ الدين باسم العلمانية أو تحت أي مسمى آخر؛ كالليبرالية والإشتراكية والتقدمية, ويطالب علنا بعزل سلطان الإسلام عن تنظيم حياة المسلمين, ولا يريد أن يتحاكم إلى شريعة الله, وذلك لكون شرائعه - في نظره - لا تناسب الحضارة. ويرى الزنا واللواط والسحاق وشيوع الفساد وانتشار الرذيلة وفشو العري من الحريات الفردية التي لا حق للدين في تقييدها ومنع أصحابها. ألا يصدق على مثل هؤلاء وصف الله لأولئك أنهم { يسارعون في الإثم والعدوان }, وأنهم { يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف }؟!! يا سبحان الله! إن العلمانيين يأبون إلا كشف أنفسهم! ومن طرائف الأقوال, قول الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان لمخاطبه:" المنافقون الذين فيكم شر من الذين كانوا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -, إن أولئك يسرون نفاقهم وإن هؤلاء أعلنوه ". فإذا كان هذا هو حال منافقي من خاطبه حذيفة بن اليمان في ذاك الزمان, فما هو حال واقع منافقي زماننا؟ إنهم بلا شك شر من أولئك, فإنه إن كان أولئك بفعل تباعد الزمان أعلنوه, فإن هؤلاء في زماننا بفعل تجدد الوسائل نظموه. فإنهم يقدمونه تارة في صورة تنظيمات وأحزاب وأجهزة ومؤسسات وجمعيات حقوقية أو ثقافية وجرائد ومجلات وقنوات فضائية ومواقع إليكترونية, وتارة أخرى في صورة مذاهب فكرية, وتارة ثالثة في صورة أطر وشخصيات. وإن الوقائع والأحداث لتأكد بجلاء دون تعسف أو تكلف, أن نفاق العلمانيين اليوم لا يفترق في مضمونه ومدلوله عن نفاق الأمس, والذي هو في أوضح صوره دعوتهم إلى عقيدة فصل الدين عن الحياة, بدعوى « أن الدين عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام لحياة الإنسان». بل لا زالت الآيات تكشف في تشخيص معجز حال علمانيي زماننا, وكأن الأمر حاضر. وذلك كما في قوله تعالى :{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً, فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً}(6). فالله سبحانه يصف حالهم حين يُدعون إلى شريعة الله. هم قوم يزعمون أنهم مسلمون, ثم هم لا يريدون الإسلام { وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً }. فيا لله العجب وهل يتحاكم المرء إلا إلى ما يؤمن به؟!!! وهل يعقل أن يكون الرأسمالي رأسماليا وهو لا يؤمن بالنظام الرأسمالي ؟! وهل يكون الشيوعي شيوعيا وهو يرفض مبادئ الشيوعية؟! فهل من رجل رشيد؟ وهل من عاقل يستطيع أن يخبرنا كيف يكون العلماني مسلما وهو ينبذ أحكام الإسلام ويرفض شرائعه؟!!! فإن كان هذا ممكنا فمعنى ذلك أنه من الممكن أن يكون المسلم علمانيا وهو يدعو إلى تطبيق الشريعة, وإلى سمو أحكام الإسلام على كل الأحكام الوضعية؟!! وهذا مستحيل، لأنه يعني اجتماع الأضداد. إذ كيف يمكن أن يجتمع رفض أحكام الإسلام والدعوة إلى تطبيق أحكامه في شخص واحد؟!! كيف يمكن أن يكون العلمانيون مسلمين وهم يطالبون بإلغاء قانون منع بيع الخمور, ويطالبون بالسماح بأكل أيام رمضان نهارا جهارا, ويدعون إلى سن قوانين تتسامح مع الشذوذ الجنسي, وأخرى ترفع كل القيود عن الزنا إلا ما كان عن عنف واغتصاب, ويعترضون على تحريم الربا, وعلى نظام الإرث في الإسلام, بل على أغلب تشريعاته وأحكامه سواء كانت سياسة أو اقتصادية أو قضائية أو أخلاقية أو أسرية, ومع هذا كله يزعمون - بما لا قيمة لزعمهم – أنهم مسلمون, الشيء الذي يكذبه واقع رفضهم وعدم تسليمهم لشرع الله. فلا عبرة بكلمات حولها أدلة وقرائن تشهد بالكذب والنفاق. إن هذه بديهات لا تحتاج إلى عقل يحكم على بطلانها. فأين ذهب عقلكم، وأين ضاع منطقكم؟ إن تصنيف القرآن للناس حسب الإيمان أو الكفر أو النفاق, لم يكن من قبيل التحذيرات الوهمية أو التهويلات العبثية, كما لم يكن ذا صبغة تاريخية حبيسة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعد لها مسوغ بفعل التقادم. إنها سنة الله في تمييز الأصيل من الدخيل, وتمحيص الصفوف, وتصنيف أخلاط الأفكار, وتصفية العقيدة من كل الشوائب التي قد تعلق بها, حتى يبدو دينه الذي ارتضاه لعباده واضحا جليا للعيان من غير التباس أو غموض. وتستبين سبيل المجرمين، ويتضح الحق ويشهر الباطل، ويرتفع الغبش وتزول الشبهة, فلا ينفع حينئذ تلبيس ماكر أو اعتذار كاذب, وتتحقق البراءة من الذين يرفضون شرعه ويجحدون شريعته, فتعلن المواقف دون تحرج أو خجل أو خوف تهمة. حيث لا خلاص وعوامل التدمير تعمل من داخل كيان الأمة وتنخر جسمها, وصدق الله العظيم القائل { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة }(6). (1) سورة محمد الآية 29/30 (2) سورة المائدة الآية 62. (3) سورة التوبة الآية 67. (4) سورة آل عمران الآية 179 (5) سورة النساء الآية 60-61. (6) سورة التوبة الآية 47.