كاريكاتير خالد كدار تزامنت جولات المفاوضات بين المغرب وجبهة البوليساريو مع أحداث وتصريحات وانفعالات سياسية منها ما هو عفوي ومنها ما هو مفتعل .. أحداث لربما جاءت لتطلق رصاصة الرحمة على مفاوضات بدأت فاشلة منذ انطلاقها,وهي التي تفتقد لأبسط أدوات الفعل التفاوضي كما هو متعارف عليه في جميع تجارب الحوار السلمي في تاريخ العلاقات الدولية .ليبقى السؤال الأكثر إلحاحا هو: "" * ما الداعي لمفاوضات بدل أن تنتج حالة انفراج وتقارب عمقت تباعد الرؤى وغذت التهديد بالعودة إلى السلاح (من قبل البوليساريو على الأقل) ؟ * ألم يكن الحال قبل المفاوضات أحسن مما هو عليه الآن ؟ * ومن تراه المستفيد من وضع العربة أمام الحصان وإجهاض أية محاولة لخلق الإستقرار في منطقة شمال إفريقيا ؟ لعلي وفي خضم محاولة البحث عن إجابات لهذه الأسئلة أجدني مضطرا لإستكشاف الثوابت والمتغيرات في قضية الصحراء , ثوابت الأطراف, الفاعلة والمُفَعلة لهذه القضية. ومتغيرات الظرفية السياسية في الشمال الإفريقي الذي يعيش على وقع مرحلة إستثنائية في تاريخه المعاصر. مرحلة عنوانها الرهان على الإرادة الشعبية ومناهضة نزوات قوى دولية اصبحت ترى في هذه المنطقة الكنز المسيج بالأشواك والألغام.. وهي بالتأكيد في نظر البعض الآخر مرحلة تحصين للمواقع والحيلولة دون السقوط في فوضى العنف. * المتغيرات في مقالة سابقة كتبتها عشية الجولة الأولى من مفاوضات مانهاست رسمت للقارئ الكريم أهم الخطوط التي تبين مدى سذاجة فكرة المفاوضات لأن المتسترين من أطراف هذا الحوار هم أكثر بكثير من اللآعبين الرسميين .. وحاولت التأكيد مرارا أن الحوار أو المفاوضات هي في عمقها وحقيقتها بين المغرب والجزائر رغم الرفض الجزائري القاطع لهذا المنطق وهو رفض يتناقض مع واقع الحال إذ أن الجزائر حضرت مفاوضات مانهاست وستحضر اية مفاوضات, ليس رغبة منها في التفاوض المباشر مع المغرب حول قضية الصحراء ولكن لرعاية وتوجيه الطرف الصحراوي الموالي لها ( مجبرا غير مخير ) بل لنقل لممارسة حق النقض والرقابة على أي زيغ أو خروج عن الخط العام الذي يخدم أهدافها. فيما يجلس المغرب للتفاوض مع الطرف الصحراوي وهو يدرك أن هذا الأخير لا يملك حرية القرار وبالتالي فالمفاوض المغربي يضع في حسابه المطلب الجزائري ( المتخفي, المتستر ) لكن هذا الإدارك الظاهري لم يترجم أبدا إلى تنازلات أو عروض قد تغري المفاوض الجزائري وتجعله يستغني عن الوسيط الصحراوي ( البوليساريو ) ويكشف أوراقه ويستعرض مطالبه ولربما يسعى للتوصل إلى حل سيكون الخاسر الأكبر من خلاله هو قيادات البوليساريو والرابح الأكبر هو شعب المنطقة برمتها بما فيها سكان مخيمات تندوف المغلوب على أمرهم. أما جبهة البوليساريو فمنطقها في التفاوض هو منطق سائق الشراع الذي يدفع بدفته عكس الريح حتى يضمن الإبحار بقضيته أو لربما حفظ التوازن كحد أدنى.. إن قيادات البوليساريو عكس ما يصفها بعض الجهلاء , هي حركة أتقنت لعبة السياسة وتمكنت من أدوات الشد والجذب وبرعت في توظيف الخلافات المغربية الجزائرية لمصلحتها. البوليساريو يدرك مدى خطورة أي تقارب أو تفاوض مغربي جزائري مباشر حول قضية الصحراء ويزعج قياداته ربما حتى التفكير في إمكانية حدوث ذلك تماما كما تؤرق فكرة المفاوضات السرية المباشرة بين المغرب والبوليساريو حكام الجزائر.. وهي ازدواجية في الرؤية تكبل هذه المفاوضات وترهنها بكم كبير من الشروط ويهيمن عليها انعدام الثقة .. إنني ولست وحدي لا أرى اي مستقبل لمفاوضات سلام مع طرف لا تفويض له .. ولم أسمع يوما ما عن مفاوضات سلام نجحت بين طرفين لا غالب بينهما ولا مغلوب..بل لا حرب بينهما.. فقبيل انطلاق مفاوضات مانهاست كانت الحرب الدلبلوماسية على أشدها وكان السباق محتدما لكسب الأصوات واستمالة الداعمين وهو وضع لم يزعج في شيء قيادات البوليساريو .. لكنه في المقابل يعطل مصالح كم كبير من المؤسسات المغربية والجزائرية وخاصة القطاع الخاص في كلا البلدين .. فبالأمس كانت مؤسسة الحكم بالمغرب ترى في قضية الصحراء الورقة المثلى لتكميم الأفواه ولجم المعارضين وخلق وفاق وطني .. أما اليوم وبعد تحرر الفعل السياسي المغربي من قيود الماضي باتت فكرة إنهاء الخلاف مع الجزائر تهيم على عقول رجال الأعمال قبل رجال السياسة وهو المتغير الذي تتقاسمه هذه الفئات سواء في المغرب أو الجزائر. لكن في مقابل ذلك لا يجوز الجزم أن هذه الرؤية ليست تجد أمامها عدة حواجز ومعطلات فالمستفيدون من الوضع الراهن في الجزائر هم المستفيدون من تجارة السلاح وعسكرة المجتمع الجزائري وإن كان هؤلاء قد وجدوا مؤخرا ضالتهم في الحرب على الإرهاب وهي كافية لخلق مورد لتجارتهم .. أما المستفيدون في المغرب فليسوا سوى عصابات التهريب التي تدير شبكات تتجاوز قيمة معاملاتها المالية الملايين من الدولارات ولا يهمها في شيء إنهاء الخلاف وفتح الحدود وتطبيع العلاقات مع الجارة الجزائر لأن ذلك يشكل بالنسبة لها قطعا للأرزاق والأعناق. إن المرحلة خلقت متغيرات أخرى لعل اهمها هو اكتواء النظام المغربي والجزائري بنار حركات التطرف التي تكاد تخلط كل الأوراق وتخلق واقعا سياسيا جديدا ورؤية غربية جديدة للمنطقة ومستقبلها, وبات من الأوجب على البلدين التنسيق لمواجهة هذا الخطر الجديد.. حتى لا يتحول إلى ورقة تستفيد منها أطراف خارجية وتحولها إلى ذريعة للتدخل المباشر في شؤون المنطقة . الأمر الذي قد يضع قضية الصحراء على الرف بل ويذيبها في محلول سياسي جديد وواقع صراع دولي متشابك الأهداف,, فخيرات المنطقة البترولية والمعدنية والجيواستراتيجية تسيل لعاب من لا لعاب له. * الثوابت وفي مقابل هذه المتغيرات هناك ثوابت ايديولوجية وسياسية بات من العبث القول بضربها عرض الحائط وقلب الوضع بين عشية وضحاها .. صحيح إن إرادة الشعب المغربي والجزائري بل وحتى الشعب الصحراوي تواقة لليوم الذي تسقط فيه الحدود وتتهاوى فيه جدران الخلاف بين أنظمتها لتتلاقي الشعوب وتتفرغ لمشروع التنمية والإنطلاق الحضاري .. لكن ذلك سيعرض لا محالة صورة أنظمتها للإهتزاز .. فمغربيا قد يكون الأمر أقل مما هو عليه في الجزائر وتندوف.. حيث بدات قاطرة محمد السادس في التوجه نحو خيار الإنفراج وتغليب كفة الحل باي ثمن كان وقد بدى واضحا للعيان ان خياراته هي في مجملها تنموية اقتصادية وهي الأولويات التي دفعت بالدبلوماسية المغربية إلى الرهان على أقصى الحلول وكشف الحد الأعلى لما يمكن تقديمه .. مغامرة قد تجد بين المغاربة من لا يساندها فليس كل الشعب المغربي على استعداد ان يستوعب حل الحكم الذاتي الموسع. فهذا الحل على الرغم من فوائده المرحلية قد ينتج واقعا مغربيا جديدا ..واقع شعاره الإنفصال وتفتيت النية الترابية للبلاد. كما قد يشكل هذا الحل حرجا للنظام الذي ردد بالأمس ملكا وشعبا قسم المسيرة وتحولت معه مغربية الصحراء إلى عقيدة على مدى أكثر من ثلاثة عقود.. كما أن منح الصحراء حكما ذاتيا موسعا تحت السيادة المغربية لربما يقطع الطريق على المطالبة باستعادة سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وقدا يتحول – وهذا هو الأخطر – لأقصى ما يمكن الحصول عليه في شأن هذه الجيوب والمستعمرات. أما الثابت جزائريا فهو أن دعم البوليساريو إضافة إلى ما يمنحه لجنرالات الجزائر من قوة سياسية وأدوات ومصالح مالية هو إلتزام أيديولوجي للجزائر مع ما تسميه بقضايا تحرر الشعوب وهي الصورة التي ليس من السهل على هذا الجيل الجزائري الحاكم التخلي عنها .. فحلم الريادة الجزائرية للقاطرة الإفريقية هوأهم مكونات الترويج الدعائي والعنصر الأساس لصنع السياسة الخارجية الجزائرية. ثم وهذا هو الأهم كيف يتصور اي عاقل الا تطمح الجزائر بإيجاد منفد بحري تختصر عبره ملايين الدولارات من تكلفة نقل الغاز والنفط إلى أسواقها الإفريقية والأميركية..؟ وكيف يمكن التصور ألا يكون هذا المنفد البحري سببا كافيا لتشبثها بمواقفها المناهضة لمغربية الصحراء..؟ طبعا يبقى الجواب واضحا وهو أن هذه الجزئية تشكل أحد أهم الثوابت الجزائرية التي لا ترى بديلا للتخلي عنها وخصوصا بعد ان أنفقت من أجلها الكثير وجندت لنيلها كل آلتها الدبلوماسية والإستخباراتية. جبهة البوليساريو بدورها لها ثوابت .. لكنها تختلف في طبيعتها عن مثيلاتها في المغرب والجزائر فهي خطوط حمراء لا مجال لتجاوزها لكنها ورغم ارتهانها بالعامل الخارجي والجزائري على وجه التحديد تبقى قابلة للتأقلم .. فالبوليساريو لا تملك القدرة على قبول هذا الحل أو ذاك دون أن يكون ذلك الحل مرضيا للطرف الجزائري وحيث أننا حصرنا الثوابت الجزائرية في تمطيط عمدي لقضية الصحراء فإننا لا نجد حرجا في القول أن جبهة البوليساريو مسلوبة الإرادة متى تعلق الأمر بالعلاقات الخارجية نوعا وأسلوبا.. فالأمر يتعلق بوحدة واحدة لا يمكن فصلها ..ولا يجوز لنا التسليم باستقلالية القرار داخل البوليساريو لأن مهندس السياسة الخارجية الجزائري لم ولن يجازف بتسليم مصير هذا الملف لقيادات تندوف حرصا منه على التحكم في كل خيوط القضية وحيطة منه في عدم انفلات المبادرة والقرار من يديه. أولى نتائج المفاوضات .. ؟ هكذا ودون عناء وفر علينا قياديو البوليساريو عناء البحث عن أدلة نثبث بها عدم جدوى هذه المفاوضات , حيث جاءت تصريحات مسؤوليه مهددة بالعودة إلى حمل السلاح .. تصريحات ما كان لها لتحدث ما أحدثه من صدى وما كان ليعيرها المراقبون أي اهتمام لولا استباقها لمفاوضات فالتهديدات ورغم فراغها من أي مضمون منطقي معقول تُعلن عن نية تصعيدية ظاهرها عسكري وباطنها سياسي محض .. فبهذه التصريحات يريد البوليساريو إستعادة المبادرة رافعا سقف ملفه المطلبي وهو الرابح الأكبر من مفاوضات طويلة الأمد ولا حرج لديه في عرقلتها دونما التصريج علنا برفضها أو مقاطعتها حتى عندما طعن في حيادية فانسوم .. يهدد البوليساريو بالعودة إلى السلاح في محاولة لاستفزاز ردة الفعل المغربية وخلق واقع جديد يختلف شكلا ومضمونا عن الواقع الذي تزامن مع دخوله إلى قاعة التفاوض.. إن قيادات الجبهة ومن خلفها الآلة الدبلوماسية الجزائرية تدرك أن الحديث عن الحرب والتهديد برفع السلاح لا يخدم مصالح اي من أطراف النزاع وتدرك خطورة العواقب التي قد تنتج عنها لكنها تفضل دق طبول الحرب ليدينها المغرب فتتشبث الجبهة بها أكثر فأكثر ويتسلل هذا الموضوع إلى طاولة التفاوض فتنحرف دفة الحوارعن مسارها الذي ولغاية اللحظة الراهنة يمسك المغرب ببوصلته عبر مبادرة الحكم الذاتي. وقد يتساءل البعض عن جدوى ظهور الجبهة بمظهر الخارج عن قواعد اللعبة السياسية ؟ وهل فعلا كان التهديد بالسلاح تصريحا تكتيكيا أم انه خطأ سيمد في عمر هذه المفاوضات ؟ هنا وجب القول أن الجواب يكمن بين ثنايا التصريحات ذاتها والتي تحتمل في نظري تفسيرين إثنين لا ثالث لهما أولا: إن التصريح بخرق وقف إطلاق النار الذي ترعاه الأممالمتحدة يأتي للرد على مواقف دول مثل فرنسا والولايات المتحدة من المبادرة المغربية , تريد الجزائر من خلال مفاوضيها الصحراويين أن تدخل المفاوضات وهي تتطلع إلى ما بعد إقرار مشروع الحكم الذاتي, لتترك الباب مفتوحا وخط العودة قائما ولا أستبعد أن يوقع قياديو الجبهة إتفاقا مع المغرب بمباركة جزائرية سرية شرط خلق تيار معارض لهذا الإتفاق ولا استغرب أن ينطلق من نفس المخيمات أو لربما يؤرخ ميلاده عبر محور مدريدالجزائر العاصمة )مع إستبعادي التام لخط الشهيد من هذا الإفتراض). ثانيا: أجد هذه الخطوة التصعيدية ترسم خطا أحمرا جديدا بجدولة زمنية واضحة وهي نهاية سنة 2008 بكل ما تعنيه من تغيرات في الخريطة السياسية العالمية مع رحيل إدارة الرئيس بوش كما يوحي لي هذا التهديد بأنه عملية تلغيم لهذه المفاوضات بل ويضع لها سقفا خطيرا يربط زعماء البوليساريو بخيارات ما كانوا ليلجاوا إليها لولا يقينهم بأن هذا التهديد هو أنجع اسلوب لتعقيد عملية " التفاوض " وتمديدها ولو إلى حين. وأخيرا دعني اعود لما طرحته من أسئلة في بداية هذه المقالة * ما الداعي لمفاوضات بدل أن تنتج حالة انفراج وتقارب عمقت تباعد الرؤى وغذت التهديد بالعودة إلى السلاح )من قبل البوليساريو على الأقل) ؟ ثم هل كان الحال قبل المفاوضات أحسن مما هو عليه الآن ؟ الجواب وبكل بساطة هو الإعتقاد السائد لدى القيادات العسكرية الجزائرية بان دورها بدا يتقلص داخليا وبالتالي فغن دخول مغامرة المفاوضات المستحيل هو أقصر الطرق لتفجير الوضع والعودة إلى الواجهة. ثم إن البوليساريو ترى في أية نتيجة لهذه المفاوضات مكسبا تضيفه لرصيدها الذي بدأ يتقلص مع حالة اللآحرب واللآسلم..أما المغرب فلم تكن أمامه خيارات كثيرة اللهم الدخول لمفاوضات قد تستعجل الحل ومعه قد تفضح نوايا الطرف الآخر وتكشف ما يخفيه من أوراق فكان التهديد بالسلاح كان أول هذه الأوراق. فالحال قبل هذه المفاوضات كان ساكنا على المستوى العسكري لكن التجارب علمتنا أن الحلحلة والتصعيد كثيرا ما يسبق الإنفراج والحسم )وهنا أحيل القراء الكرام على الحالة اللبنانية مؤخرا) .. لبقى الهاجس الأكبر هو كم تراه سيطول هذا التصعيد وما هي أقصا حدوده. وأخيرا من تراه المستفيد من وضع العربة أمام الحصان وإجهاض أية محاولة لخلق الإستقرار في منطقة شمال إفريقيا أعتقد ان القارئ على قدر كبير من الفطنة لإستخلاص الجواب لكنني أترك الإستفاضة في هذا الموضوع لحلقة مقبلة من هذا النقاش.