تعيش بعض المهن والحرف وضعا صعبا ينذر باختفائها وانقراضها بسبب التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها المجتمع المغربي، خاصة منها التي تتعلق ب"المكننة" أي ولوج الآلات لتحل مكان الإنسان في بعض المهن، الشيء الذي يفسر قلة مزاولتها وعدم الإقبال عليها، ومنها مهنة "الكواي" و "الطراح" و"النفار"، وحرفة الإسكافي و"الكسال".. ويعيش أصحاب هذه المهن المهمشة وغيرها معاناة اجتماعية ومادية عميقة بسبب قلة مداخيلها ومحدودية آفاقها، لهذا فهم غالبا ما يلجئون إلى التعويض عن ذلك بمزاولة حرف أخرى تساعدهم على الاستمرار في العيش وتحقيق الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. الكوّاي "آالكواي..آلكواي".. كلمات يصرخ بها بوشعيب، في الأربعين من عمره، وهو يجوب أزقة أحياء المدينة القديمة بالرباط، فمهنته "كواي" يقوم بإصلاح الأواني المعدنية عن طريق الكي، وعتاده في ذلك آلة "الشاليمو" وقنينة غاز صغيرة يذيب فيها القطع المعدنية لسد ثقب آنية أو إلصاق أجزاء منها. وتتطلب مهنة هذا الكواي منه أن يتجول بين الأحياء ليعرض خدماته على ربات البيوت اللواتي يشكلن نسبة كبيرة من زبنائه، باعتبار أنهن الأكثر معرفة بأمور المطبخ والأواني وما صلح منها وما فسد، لذلك يحاول الكواي أن يكون لبقا ومرنا في تعاملاته مع زبوناته حتى لا يفقدهن، لكون مهنته هذه لم تعد تدر عليه مدخولا كافيا كما كان في سنوات خلت. ويؤكد هذا الكواي أن حرفته أضحت آيلة إلى الاندثار بسبب ضعف الإقبال على مزاولتها نظرا لهزالة مداخيلها، فضلا عن لجوء الزبائن إلى محلات مختصة لإصلاح الأواني من أباريق وصحون أو استبدالها بأخرى تكون جديدة. وبات اللجوء إلى الآلات لإصلاح أعطاب هذه الأواني المختلفة سببا حاسما أيضا في انقراض مزاولي هذه المهنة البسيطة، لأن النساء أصبحن متطلبات أكثر وحريصات بشكل أكبر على الحصول على أواني مصلوحة بطريقة أفضل، وذلك عبر المحلات التي تشتغل بالآلات الكهربائية وتنتشر بشكل لافت في العديد من المدن بالمغرب. الطرّاح وبالنسبة لمهنة الطَّراح فهي تعاني بدورها من التناقص والتضاءل تدريجيا لسببين أساسيين، الأول يعود إلى تأثير انتشار استخدام آلات الأفران على حياة مهنة الطراح، لكون الأسر صارت تتجه أكثر إلى اقتناء آلات الأفران الكهربائية العصرية عوض الذهاب إلى الأفران التقليدية في الأحياء التي تشتغل بنظام النوبة، أي بحسب ترتيب طرحات العجين، بخلاف فرن المنزل الذي يتيح للمرأة أن تعد عجينتها وتضعه لتحصل على الخبز في أي وقت تريد هي. أما السبب الثاني الذي يفسر تراجع مهنة الطراح فهو المشقة البالغة التي تتطلبها مزاولة هذه المهنة التي تتطلب تعاملا مباشرا مع النار، فالطراح يقف ساعات طويلة يولج ويخرج العجين إلى فوهة الفرن المشتعل بالنار المستعرة. وتتطلب هذه المهنة صبرا وقوة وتركيزا من الطراح ، وهو الأمر يؤكده السيد علي في عقده الخامس، ويشتغل طراحا في أحد الأفران التقليدية بالرباط، حيث اعتبر أنه بدون صبر وعزيمة وقوة تحمل لا يمكن للطراح أن يستمر في عمله. وأضاف هذا الطراح أن مواجهة النار لمدة طويلة ولفح حرارتها للوجه والجسد أمر شاق ولا يطيقه إلا من كان يحب هذه الحرفة أو مضطر لممارستها من أجل كسب لقمة العيش، مبرزا أنها مهنة لم تعد بنفس التألق الذي كان لديها في سنوات بعيدة مضت لأن الوسائل والآلات تطورت، كما أن القليلين من صاروا يقبلون بالعمل طراحا بسبب قلة المدخول المادي وكثرة المتاعب والمشاق. النفّار ومن المهن المهمشة الأخرى والتي تكاد تجد لنفسها رمق الحياة خلال شهر واحد: مهنة النفار، حيث تدوم خلال شهر رمضان فقط، وبعدها يختفي النفار ليبحث له عن مهنة موسمية أخرى إلى أن يحل رمضان من جديد، وهكذا دواليك. والنفار مهنته محدودة حتى داخل شهر رمضان لكونه لا يشتغل إلا في ساعة متأخرة من الليل قبل وجبة السحور، فهو كائن ليلي بامتياز، وما يدره عليه عمله لا يكفيه حتى في شهر واحد لأنه يرتكز على ما يجود به الناس من عطايا ونقود قليلة أحيانا، الشيء الذي يجعل من النفار مجرد مزاول لمهنة تعتبر في عداد المهن الميتة التي لا تحيا سوى مرة واحدة في العام. وزاد من تهميش مهنة النفار لجوء الناس إلى المنبهات والساعات لتحديد ساعة الاستيقاظ من أجل تناول السحور، وعدم اعتمادهم على النفار إلا نادرا جدا، الشيء الذي يكرس عدم إقبال الناس على إكرامه ومنحه المال والهبات كما كان في زمن ماضي. عسس السيارات وتعتبر مهنة حراسة السيارات أيضا من المهن المهمشة بشكل كبير، ويختار بعض الشباب حتى المتعلم منه مهنة حراسة السيارات بالمغرب إبان فصل الصيف خصوصا نظرا لتوافد السياح على المدن السياحية بنسبة كبيرة. حمودة، شاب يحرس السيارات وسط مدينة الرباط، يعتبر أن فصل الصيف بالنسبة له يمنحه فرصة مزاولة مهنة حراسة سيارات السياح الأجانب أو سيارات المغاربة المقيمين بأوروبا وأمريكا الذين يأتون لقضاء عطلة الصيف ببلدهم مع عائلاتهم وأسرهم، فتنتعش هذه المهنة كثيرا. لكن، يقول هذا الحارس، ما إن ينتهي الصيف حتى يعود آلاف المهاجرين المغاربة إلى وظائفهم في الدول الأوربية، وهذا يعني أن أكثر من نصف مليون سيارة تغادر البلاد، وبذلك يفقد عدد كبير من حراس السيارات مهنتهم المؤقتة. ويعلق الباحث الاجتماعي الدكتور عبد الرحيم العطري على هذه المهنة وممارسيها بكونهم " أتعس التعساء وأشرف الشرفاء، يؤمنون بأن الأمانة التي حملوها تستحق كثيرا من العمل والحرص والحذر.. فالعيون لا تنام والجسد لا يصادف الأسرة، والحواس كلها في حالة استنفار دائم حفاظا على ممتلكات الغير". ويضيف: "مهنة الحراسة قدرها ليس فقط الاكتواء برطوبة الظل وهامشيته.. ولكن أيضا بوحشة الليل وسواده المفزع، ومع ذلك فهي مهنة عظيمة لها أسرار وخبايا لا يعرفها إلا الراسخون في هذه المهنة.. الكسال والإسكافي ومهنة "الكسَّال" تعد أيضا من المهن المهمشة التي لا يُعترف بها رسميا لكونها حرفة يشتغل بها أصحاب المهن المؤقتة والتي لا تكاد تسمن صاحبها ولا تغنيه من جوع، والكسال هو الشخص الذي يتولى مهمة دلك جسد المستحمين الذين يلجئون إلى خدمات الحمامات التقليدية والشعبية. ويعتبر الكسال بالرغم من ذلك جزء هاما من تأثيث الحمام وعناصره وطقوسه، لأنه يهتم بدلك جسد المستحم ومحاولة إخراج أدرانه وتليين أطراف بدنه، حتى يبعث فيه طاقة وحيوية جديدتين، الأمر الذي يلزم من مزاولها أن يكون صلب الشكيمة وقويا على تحمل حرارة الحمام طيلة ساعات طويلة، بالإضافة تحمل أوساخ الناس وقاذوراتهم وأحوالهم الجسدية من أمراض وعاهات أحيانا. ومهنة الكسال لا تستوجب راتبا محددا، فهو يقتات مما يجود به المستحمون بتسعيرة معينة لكنها متغيرة، وبالتالي يحاول هذا الكسال أن يشتغل أطول مدة ممكنة في الحمام لكسب قوت يومه وقوت عياله، وهو الوضع الذي يراه "بّا العياشي" الذي يشتغل كسالا منذ سنوات عديدة، وضعا صعبا جدا بسبب تأثير حرارة الحمام مدة زمنية طويلة خلال كل يوم ولأشهر أو سنوات طويلة على الطاقة التحملية لجسمه، الشيء الذي من شأنه أن يشكل له متاعب صحية عديدة. ومن المهن الأخرى هناك مهنة الإسكافي التي لها علاقة مباشرة ودائمة مع أحذية الناس، فالإسكافي لا يكاد يرفع رأسه من على الحذاء، وهو يمارس مهنة تقليدية صارت غير ذات شأن سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي والاعتباري، بالرغم من شرف هذه الحرفة التي تعلم الصبر والحكمة لمزاوليها.