تتحدث «المساء» في ركن «مهن وحرف في طريقها إلى الانقراض» عن مهن وحرف لم تعد تؤمن رزق أصحابها، بفعل التطور التكنولوجي والتغيرات السلوكية والحضارية للإنسان. كانت بالأمس الأسلوب الوحيد لتغطية مصاريف الحياة لدى العديد من الأسر المغربية بالمدن والقرى، علمها الأجداد للآباء والأمهات، وتوارثها الأبناء والأحفاد، الذين تشبعوا قرونا مضت بالمثل المغربي «تبع حرفة بوك يلا يغلبوك». مهن وحرف رأسمالها مواهب وذكاء وعتاد بسيط، كلفت الإنسان المغربي شيئا من الصبر والعزيمة، وربما بعضا من النصب والاحتيال، ومنحته بديلا غير مكلف، للحصول على المال والاحترام. وأغنت البعض عن التجارة والفلاحة والأعمال الوظيفية. لكن تلك المهن والحرف لم تعد لها زبائن الأمس. جولة قصيرة بالوسط المغربي، وخصوصا القروي منه، تجعلنا نلمس عن قرب واقع تلك المهن وحياة ممتهنيها، ونعيش معهم مرارة الاحتضار الذي تعيشه وسط مجتمع منشغل بالبحث عن الجديد والمستجد. ظلت مكانة الحمامات الشعبية صامدة داخل الأحياء الشعبية والدواوير، وظل «الكسال» أو «الكسالة»، شخصية بسيطة ودودة وقوية العضلات وصاحبة النفس الطويل، تعمل مقابل أجور زهيدة تختلف باختلاف الزبائن، ظلت محبوبة لدى المستحمين والمستحمات، الذين يتهافتون عليها من أجل أن تنظف أطرافا من أجسادهم لا يمكنهم تنظيفها بأياديهم، ومساعدتهم على تنظيف أجساد أطفالهم وشيوخهم ونسائهم ومرضاهم... كما يلعبون أدوارا رياضية، تتمثل في «تكسال» الزبون، بمعنى إخضاعه لعملية التدليك. لكن الحمامات العصرية وفضاءات «المساج» والتدليك التي أحدثت بعدة مدن قللت من تهافت الزبائن على هذه الشخصية، وزادت الشبهات الجنسية وانتشار فئة الشواذ من تخوف بعض ممتهني هذه الحرفة، الذين فضلوا الاستغناء عنها تجنبا لوقوعهم ضحايا أعمال لا أخلاقية، وتشويه سمعتهم. كما أن العديد من الأسر قامت ببناء حمامات عصرية صغيرة داخل منازلها، ولم تعد تذهب أسبوعيا إلى الحمامات الشعبية. والقلة القليلة التي لا تزال ترتاد تلك الحمامات، تتجنب «الكسال» أو «الكسالة» لأسباب مختلفة، وتعتمد على الاستحمام بالتناوب بين أفراد الأسرة والأصدقاء. على طول السنين كان «الكسال» شخصية تنتقد من طرف العموم بحكم لياقته البدنية وبنيته القوية، والتي يفنيها في حرفة تدر عليه دراهم معدودة. وكان الرجل المستحم يقول لصديقه «شوف هذاك الكسال قدو قد الشحط وجالس ناعس في الحمام يكسل في عباد الله، وهو قادر يدبر على خدمة بحال قرانوا». تلك الكلمات كانت تصل إلى اذني «الكسال»، والذي كان يتجاهلها، بحكم إدمانه على «جلسة الحمام» الساخنة والمياه المتدفقة والروائح الكريهة التي تنتشر بسبب أوساخ وعرق المستحمين والمستحمات. لكن الانتقاد اليوم بلغ إلى حد اتهام بعضهم بممارسة الجنس والشذوذ على الأطفال والنساء والشباب... كما أن بعض الشواذ من الجنسين، يحاولون استغلال عملية «التكسال» لإشباع غرائزهم ونزواتهم الجنسية. وهو ما أضر بالحرفة، وقلل من ممتهنيها. وتعتبر الحمامات الشعبية، لدى البعض، مكانا للترفيه والتعارف والاسترخاء، بل حتى الغناء واكتشاف المواهب الصوتية. لذا كانت الحمامات زاخرة بأجواء مختلفة من الطرافة والفكاهة والمقالب... كما أن أعراس الزفاف، كانت تبدأ من الحمامات، حيث يأتي العريس بصحبة مجموعة من أصدقائه المقربين إلى حمام الرجال، كما تذهب العروس رفقة صديقاتها إلى حمام النساء، وبعد أن يتم غسلهما وتشجيعهما والترفيه عنهما، يخرجونهما إلى «الزفة» أو «الهدية»، علما أن العريس هو من يؤدي ثمن استحمام الكل. وكان «الكسال» و«الكسالة» شخصية ضرورية في عملية التنظيف والتدليك، لكي لا يصاب العرسان بالإرهاق والتعب. وعكس «الحلاق» وباقي الحرف التقليدية، التي يكون فيها الحرفي ثرثارا، فإن شخصية «الكسال» أو «الكسالة»، مرغمة على الاختصار في الكلام، بحكم الأجواء الساخنة والروائح والأدخنة المنتشرة داخل غرف الحمام، والتي قد تصيبها بالتعب، كما تصيب الزبون بالإرهاق في حالة الإفراط في التحاور والكلام. لكن تلك الشخصية التي وصفها الأطفال بأنها «برمائية»، بارعة في الحديث بالإشارات واللمس، وتختلف باختلاف الكفاءة في طريقة الغسل للأعضاء، وكذا طرق التدليك التي تأذى من جرائها مجموعة من المستحمين. حيث تعرضوا لكسور أو تفكك عظمي أو تمزق أو شد عضلي... بسبب سوء تدليكهم. وقد اعتبر الحمام لدى العرب كالمقهى، يقول أحمد، صاحب حمام بالدار البيضاء، إن الحمام كان مكانا اجتماعيا حيث يجتمع أبناء المناطق الشعبية، ويتبادلون الحكايات في الحمامات، بينما كان المقهى مكانا للتسلية وقضاء الوقت والتواصل الاجتماعي، وكان الحمام يتميز بالطرافة والفكاهة والمقالب حيث يأخذ أحدهم ملابس صديقه ويتركه في حيرة من أمره ويخرج بها ليتركه يتذمر، وفي اليوم التالي يصنع هو بصاحبه نفس المقلب، موضحا أن الحمامات الشعبية هي أمكنة للغسل والترويح عن النفس بالدعابة والحكايات المسلية، وهناك مواصفات للحمام الجيد، منها المعاملة الحسنة وتوفر المياه الساخنة. كما أن الحمامات الشعبية تعاني اليوم من مشاكل في التزود بالمياه النظيفة. رغم أن معظم أصحاب الحمامات فضلوا حفر آبار للتزود بالمياه، لكن تلك الآبار تكون مياهها في الغالب غير نظيفة، كما أن مستعملي مياه الأنابيب، يجدون صعوبة في ظل ارتفاع فواتير الاستهلاك، وكذا الانقطاعات التي تعرفها تلك المياه لأسباب خارجة عن إرادتهم، كل هذه العوامل أثرت في علاقة المواطنين بالحمام الشعبي، وجعلتهم يفضلون الحمامات العصرية الكبيرة وتلك المحدثة داخل البيوت، فضلا عن الوضع الأمني، وخصوصا بالنسبة إلى النساء اللواتي يتعرضن للسطو والاعتداء مباشرة بعد خروجهن من الحمامات الشعبية، أو يتعرضن للتحرشات الجنسية. وكان «الكسال» يستعمل قرصا من الخشب أو الحجر يتم نقشه بطريقة تمكنه من إزالة الأوساخ من أجساد المستحمين. كما تستعمل «المحكة» أو «الخرقة»، وهي عبارة عن كيس مصنوع بأثواب خاصة خشنة سواء للتنظيف أو لطلاء الجسد بالصابون أو مادة الصابون البلدي. ولهذه الشخصية وسائلها الخاصة في إقناع الزبون بقدرتها على تنظيف جسده، ومنحه فرصة الاسترخاء وإزالة التعب، كما لديها طرقها الخاصة في اقتناص الزبائن، والحفاظ على بعضهم كزبائن دائمين. وقال أحد «الكسالين» إن الحرفة لم تعد تدر عليه أموالا تغطي مصاريف أسرته الصغيرة، ولم تعد مأمونة الجانب بعد موجة الأحداث اللاأخلاقية التي نعيشها، في إشارة إلى فئة الشواذ جنسيا، والذين باتوا يجهرون بغرائزهم الجنسية، ويتحرشون بالناس داخل الحمامات، وخصوصا فئة «الكسالين» الذين يعملون «على باب الله»، مؤكدا أنه يخاف أن يدلك «يكسل» طفلا أو قاصرا، خصوصا إذا كان الزبون حاضرا في غياب أبيه أو قريب له.